في مناقشة الوسطاء – منير شفيق
عندما اندلعت المواجهات (الانتفاضات والحرب) في شهر رمضان المبارك وبعده، على الأرض الفلسطينية بكاملها، ارتبكت المواقف الدولية والعربية الرسمية، وأصبحت مشدودة إلى تلك المواجهات، وراحت تسعى إلى وقف إطلاق النار والتهدئة. وغدا ذلك شغلها الشاغل حتى حقّ للمرء أن يتساءل: أين الصراع الأمريكي ضد الصين وروسيا؟ وأين ما كانت تسعى إليه أوروبا دولياً؟ وكذلك روسيا والصين، وأمانة هيئة الأمم، ومجلس الأمن (الذي تعطل عن أخذ أي قرار)؟ وأين مساعي الدول العربية، وبعض الإسلامية التي حارت بين إدانة الاعتداءات الصهيونية وبين السعي للاتفاق على وقف إطلاق النار، فقط، ولو بلا أيّة شروط؟
بكلمة، ارتبك كل الوضع السياسي السابق، لا سيما الغربي حين اكتشف أن استمرار القتال لن يُحسَم في مصلحة الكيان الصهيوني، الأمر الذي يعني أن “انتفاضة فلسطين” يمكنها إذا ما تطوّرت وطال صبرها، ونفَسُها في المواجهة، ولمدة أقصر كثيراً مما استغرقته الانتفاضتان الأولى والثانية، أن تفرض شروطاً على الكيان الصهيوني والوضع الدولي، وحتى “العربي” الرسمي الموالي للغرب، مثل دحر الاحتلال بلا قيدٍ أو شرط. وهنا يصبح الرقم الفلسطيني هو الرقم الصعب، وليس كما فعلت قيادة فتح سابقاً لتدخل إلى اتفاق أوسلو.
هذا الذي حدث هزّأ عملياً الموضوعة التي سادت لسنوات، والقائلة: “إن القضية الفلسطينية ضعفت، ووضعت على الرف (فيما كان رفع اليد الدولية عنها خيراً لها)”، وأن “الوضع الفلسطيني، الشعب وقواه السياسية، في أسوأ حال (فيما كان فشل سلطة رام الله خيراً عميماً)”. أما الأكثر عجباً فكانت ردة الفعل التي رفضت بغضب أن يُقال: “إن وضع الكيان الصهيوني في أسوأ حال، بالرغم من فشله في أربع حروب 2006 في لبنان وثلاث حروب في قطاع غزة”، أو إذا قيل إن “وضع أمريكا وأوروبا أضعف من أية مرحلة عالمية سابقة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية”.
أما إذا قيل “إن الوضع الفلسطيني أفضل من أيّة مرحلة سابقة” استناداً إلى ما وصلته المقاومة وقواعد الاشتباك في قطاع غزة، حيث تحفر الأنفاق وتطوّر الصواريخ، وذلك قياساً بالماضي في كل مراحله السابقة، فستجد من راح يعتبر ذلك هرطقة ووهماً. وكذلك إذا قيل إن “مشروع اتفاق أوسلو وسلطته في أضعف حال: عزلة وسياسة وممارسة (التنسيق الأمني)”، اعتبر ذلك غير ذي أهمية. ولم يُحسب في مصلحة الوضع الفلسطيني إيجابياً، خصوصاً إذا ما أُضيف أن “ثمة تحت سطح الهدوء الشعبي انتفاضة تهمُّ بالتفجّر”.
وهكذا تغيّر كل هذا خلال بضعة أيام مع اندلاع المواجهات الانتفاضية، وانطلاق صواريخ المقاومة من غزة إلى القدس ثم إلى تل أبيب، دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى، فكان قراراً استثنائياً، وذكياً، وصائباً، وشجاعاً (وقد تكون له ارتدادات، مع الفارق، كمعركة الكرامة). وتبعته فوراً انتفاضة شبابية في مناطق الـ48 من فلسطين لتلحق بها حراكات شعبية شبابية في كل الضفة الغربية، فضلاً عن تحركات فلسطينيي الخارج، لتكتمل الحلقات وليصبح ما لدينا “انتفاضة فلسطين”.
وبهذا، وخلال بضعة أيام، انقلبت رأساً على عقب تلك الصورة البائسة للشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية، والقضية الفلسطينية، كما للوضع الدولي والعربي. ويكفيك ارتباك من ارتبك، ويكفيك أن ترى تظاهرات بمئات الألوف دعماً للقضية الفلسطينية، في العالم كله، خصوصاً في أمريكا وأوروبا.
أما على الضفة الأخرى، وهو ما يجب أن يُقرأ جيداً ليُواجَه جيداً لإفشاله، فهو ما راحت تسعى أمريكا وأوروبا إليه، وتريدان من وسطاء عرب وغير عرب مساعدتهما عليه. وذلك تحت حجة إعمار قطاع غزة، وتثبيت وقف إطلاق النار، والعودة بالوضع إلى طريق المفاوضات والتسوية. ومن ثم تجنب استمرار “التوتر” في الضفة الغربية والقدس؛ لإنقاذ تدهور الموقف الصهيوني وإعطائه فرصة لالتقاط أنفاسه واستعادة الهجوم.
السؤال: ماذا في هذه الجعبة؟
الجواب: التهدئة، وعدم اللجوء إلى المقاومة المسلحة، أو الانتفاضة، وعدم تأزيم الوضع لإطلاق مفاوضات وتسوية تحت هدف حلّ الدولتين التصفوي. أي العودة لتكرار السياسات التي حكمت الوضع الفلسطيني لعشرات السنين، وأفرخت مفاوضات مدريد، واتفاق أوسلو، والاتفاق الأمني الذي رعاه “دايتون” في أول عهد محمود عباس، إضافة إلى صفقة القرن والتطبيع، ومن ثم الوصول إلى الوضع الذي انتفضت كل فلسطين بسببه، واندلعت معه الحرب الرابعة في قطاع غزة.
هذا، أولا، ما يجب أن يُردّ به على الوسطاء، أو يُلفت نظرهم إليه.
أما ثانياً: فتراجع كل من أمريكا وأوروبا عن كل ما وقعتاه من قرارات دولية، بما فيها قرارا 242 و338 وما تلاهما، علماً أنها كانت ظالمة. ولم يعد للمفاوضات أية مرجعية، كما يريد المفاوض الصهيوني ليترك مستقبل الوضع كله بيده. وهذا ما يُراد العودة إليه، وقد تواطأت أمريكا وأوروبا مع الرباعية على هذا الأمر.
ولم تطلب أمريكا وأوروبا من الكيان الصهيوني الاعتراف بأي قرار دولي حتى لو كان في مصلحته 90 في المئة. وإذا اضطرتا لتبني موقف يتناقض شكلياً مع فضيحة الموقف الصهيوني (الذي يريد كل فلسطين واقتلاع كل الفلسطينيين منها)، فلا يتعدى ذلك كلاماً عاماً فيما لا يمارس أي ضغط على مسار السياسات الصهيونية، بما في ذلك ضم القدس وتهويدها، واقتسام الصلاة في المسجد الأقصى تمهيداً لهدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه، كما استيطان الضفة ثم ضمها. ودعك من تمريرهما دون أي ضغط، بل مع استمرار الدعم المادي والعسكري والسياسي، “قرار يهودية الدولة” الصادر عن الكنيست.
بكلمة، يجب لفت انتباه الوسطاء إلى أن كل ما تطلبه أمريكا وأوروبا منهم اليوم هو تكرار للسابق الذي أوصل الوضع إلى ما وصله الآن، ومن ثم لا بدّ من أن يكون الموقف الفلسطيني مع هؤلاء الوسطاء قوياً بحجته، وإقناعهم ببديل آخر لا يكرر المجرّب.
على الوسطاء من الدول العربية أو الإسلامية، أو من روسيا أو الصين، أو هيئة الأمم، أن يسألوا أمريكا وأوروبا: ماذا بعد وقف إطلاق النار والتهدئة؟ فإن كان الجواب “مفاوضات وتسوية وحلّ الدولتين”، فالفلسطينيون لن يكرروا ما جُرّب وعُرفت نتائجه. فالمطلوب الانسحاب الفوري من الضفة الغربية والقدس والجولان، وبلا قيدٍ أو شرط، فما ينبغي أن يُكافأ الاحتلال أو يُكافأ الاستيطان، فهما مخالفان للقانون الدولي. وإلاّ، فلتتوقف الوساطات ويترك الميدان يُقرر ما يحدث: بالنسبة إلى الفلسطينيين لن يسمحوا باستمرار الاحتلال والاستيطان، وستظل الانتفاضات متواصلة أمام كل اعتداء، وستظل الأصابع على الزناد لدى المقاومة في قطاع غزة. فما حدث في رمضان الماضي وبعده سيتكرر، ربما بمستويات أعلى.
فالفلسطينيون الذين خاضوا المواجهات (الانتفاضات والحرب) قادرون على مناقشة الوسطاء بإيجابية وجديّة، ولديهم حجة قوية مستندة إلى التجربة الماضية وإلى نتائج المواجهات الأخيرة. وليس هنالك أقوى من المطالبة بإنهاء الاحتلال وتفكيك المستوطنات، وبلا قيدٍ أو شرط، كما رفض سياسات أمريكا وأوروبا.
وبكلمة، إما وساطات لتحقيق ما طُرح مقابل وقف إطلاق النار مثل وقف الاعتداءات على القدس والشيخ جراح وسلوان، ومثل عدم انتهاك المسجد الأقصى بالاقتحامات، وبخروج قوات الاحتلال من ساحته، وإما وساطات لإنهاء الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة بلا قيدٍ أو شرط (وهذا هو الأقوى). وإلاّ فلا حاجة إلى وساطات، وليُقرر الميدان ما يراه مناسباً. وذلك ببقاء أصابع المقاومة على الزناد، وبانطلاق انتفاضة أو “هبّة قويّة” في وجه كل اقتحام للأقصى، أو إخلاء لبيوت، أو إعادة لحواجز وسواها.
ولكن على أن يبقى معلناً بأن: “فلسطين كلها لنا”، و”الهدف تحريرها من النهر إلى البحر. ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش”.
وكلمة أخيرة للوسطاء: كيف يجوز أن يعود الوضع إلى ما كان عليه، أو كيف يجرّب المجرّب؟