في وداع عوني صادق … – توفيق ابو إرشيد
في وداع عوني صادق … الكاتب والصحفي المناضل والصديق
رغم انه شارف على الثمانين من العمر , إلا ان رحيله كان مبكراً . مبكرا ً لفلسطين ولنصه ولأصدقائه الذين فارقهم في زمنٍ فارق . عوني صادق الذي نرثيه في تزامن أربعين يوما على رحيله, الكاتب العربي الفلسطيني ابن الصحافه العربيه على مدى ستين عاما ,عاش الاحداث الكبرى والصغرى وعايشها, ترك إرثاً من التفاعل والصراع معها ولم يرى من فرط تواضعه أهمية لتوثيق تجربته كان زاهداً وبسيطا ولكنه صلباً حد الدهشه في مواقفه وفيما يتعلق بآراءه .
لم تنجح محاولتي الاخيره ايضاً لاقناعه بكتابة محطات من حياته في الكويت او دمشق او عمان او مبكرا في فلسطين . إصطحبته الخريف الماضي مع الصديق محمد العلي القادم من مخيمات لبنان ومقر عمله الدوحه وذهبنا الى مقهى في عمان- وأظنها المرة الاخيره التي خرج بها الى مكان عام مع أصدقاء – حيث دار حديث جميل وحماسي عن تقاطعات جيلين في المهنة ذاتها والمواقع نفسها احياناً . لكل أسرةٍ فلسطينية عاشت التهجير قصه, قبلها وأثناءها وبعدها وإذا أضيف لها حياة فرد منها تميزت بالكد والصراع والنضال والمفارقات تمتلك التراجيديا كل عناصرها وما أكثر من تحققت لهم إكتمال عناصر التراجيديا من الشعب الفلسطيني كما هو حال عوني صادق .
مسيرة حياتة مسيرة القضيه الفلسطينيه منذ ان ولد في مجدل الصادق – قضاء يافا بداية الاربعينات الى وفاته في عمان الشهر الماضي .
تنقل بين رام الله وعمان ودمشق وبغداد وبيروت والكويت والخليج يكتب المقالات ويحرر الصحف . كان بامكان غيره ان يجمع ثروة من تنقله وعمله ولكن عوني لم يكن ليلتفت الى اي امتيازات كان يمكن ان يستحقها بجداره . لم ينظر الى نفسه إلا صاحب مهمه ورسالة في سياق الحرب ضد الامبرياليه والصهيونيه وحلفائها حاملاً فلسطين وقضايا فقراء الامه أينما ذهب وحل . تزامن وتزامل مع ناجي العلي في الكويت وكما تم التضييق على ناجي قررت الكويت انه لم يعد بامكانها إحتمال إقامة الكاتب على اراضيها سياسيا فابعدته سنة 1979 وكتبت ( الطليعة ) الكويتيه إفتتاحيتها في اليوم التالي تحت عنوان لافت ومؤثر في 29/5/1979 ( أنت تبقى وهم ذاهبون ) .
ساهم في إثراء الصحافة الكويتيه في فورتها , تلك التي كان يكتبها ويقرأها الفلسطينيون ( حسب إشارة الكاتب الاردني طارق مصاره رحمه الله مثمناً او مقيماً إياها ذات مره ) . غادر فوراً عمله في إحدى المجلات في دبي والتي لم يكن قد إستقر بها عام واحد بعد لانه إكتشف ان صاحب المجله اليساريه قد إلتقى بالسفير الامريكي او الامريكان , ولم يغادر المجله فقط وانما غادر كل دبي فوراً .
أقام في دمشق وكتب للصحف والدوريات الفلسطينيه والعربية وفي طليعتها مجلة الهدف حيث كان عوني على علاقه جيده وغير تنظيميه مع الجبهه الشعبية لتحرير فلسطين وجبهة التحرير الفلسطينيه . كانت كل القيادات والكتاب والصحفيين في الطيف الفلسطيني المناهض للتسويه والمتمسك بكل الثوابت الفلسطينيه يكنون له الاحترام وهو ينتمي لهذا الطيف حكما . لا يجامل ويتمسك بموقفه ورأيه وقد إختلف مع أعز أصدقائه الكاتب الفلسطيني رشاد ابو شاور حول الاحداث في سوريا . لم أكن أتوقع يوما ان يختلف عوني ورشاد ولكن الحرب والاحداث في سوريا قد أحدثت إنشقاقا رهيباً لم يحصل مثله ابداً بين المثقفين العرب والفلسطينيين منهم خاصه . إلا أن الامانة تقتضي القول انها لم تكن قطيعة بينهما اذ حرص عوني على الالتقاء برشاد في مناسبات كثيره وحرص رشاد على زيارته في المستشفى والبيت وقد تعب عوني كثيراً .
كان حريصاً ومتابعاً للحركة الوطنية الفلسطينيه وناقداً لا يرحم للترهلات والانحرافات , أذكر أننا ذهبنا عوني والصديق الكاتب ابو نضال الرفاعي وأنا الى بيت عبد الفتاح غانم بدمشق في العام 1984 إثر حركة إنشقاق وسيطره قادها عبد الفتاح غانم داخل جبهة التحرير الفلسطينيه وهو أحد قادتها وكان عوني يحب عبد الفتاح كثيراً ولكني شهدت يومها هجوماً كبيراً قام به عوني على عبد الفتاح مفنداً كل اسبابه موضحا ان هذا الفعل أيضاً لا يفيد تنظيمه وانما يضعفه وهذا ما حصل فعلاً . وكان وفياً, فعندما توفي صابر محي الدين ( عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ) إتصل بي قائلا فورا (لا أريد أية أعذار سنذهب الآن للتشييع في إربد ) ذهبنا طبعا معاً مجموعة من الرفاق وكان الفقيد صديقه عملا معاً في ( الهدف ) .
كانت بدايات عوني السياسيه قريبه من الحزب الشيوعي الاردني ولكن طغت نزعته القومية العربيه ( التقدميه ) على معظم حياته الفكريه والثقافيه والسياسيه . في العام 2007 عمل بمجلة ( الوحدة ) الاردنيه, بعدما ترك ( الدستور ) حيث عمل عدة سنوات محررا للشؤون ( الاسرائيليه ) وكاتب لمقال اسبوعي بها , ترك مجلة الوحدة ( وكم كان بحاجة للعمل ) بعدما إختلف مع رئيس التحرير إذ لم يسمح له عوني ان ينال من ( صدام حسين ) الذي لم يجف دمه بعد . لم يكن عوني بعثياً ولكن إحتلال العراق من قبل الامريكان والتنكيل بصدام حسين وإعدامه هزه كثيراً ولم يمر ما حصل أبداً مرور الكرام عند عوني .
وعلى أهمية الصحفي والكاتب الكبير محمد حسنين هيكل وإنتاجه الكبير وشهرته كان عوني متحفظاً بشأنه وعلى خلاف لكثير من المتابعين له, لم يُؤخذ بصاحب نظرية ( تحييد أمريكا ) ومحاولة إدخالها لبنية نظام جمال عبد الناصر الوطني ودوره لاحقاً في تثبيت حكم السادات في السنوات الاولى بعد عبد الناصر . كان يتابع بدقه حال شعبه ونضاله ويتحسر على القيادة البائسه التي إبتلي الشعب الفلسطيني بها وعبر عن ذلك دوماً في مقالاته وتحليلاته . كان نادراً ما يلبي دعوات ليحاضر بها في السنوات الاخيره لكنه لبى دعوة منتدى الفكر الديمقراطي قبل خمس سنوات ليتحدث عن ناجي العلي ووقائع عمله وعلاقته معه , كانت مداخلته موضوعية ورائعه وقد أدهشت الحضور وهو صاحب المقال الشهير عن ناجي بعيد إستشهاده بعنوان ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) .
لا أكتب سيرة لعوني صادق هنا وانما أعبر فقط عن فجيعتي برحيله , كنت كلما إشتد بي القلق لاسباب سياسيه او شخصيه أهرع اليه أفرد بين يديه ما أواجه او أفكر به فيهدئ من روعي إذا لزم ونتحاور يخطئني في أشياء ويصحح لي ويآزرني في أشياء أخرى , لم يكن يعرف عمان جيداً حيث إستقر في الخمس وعشرين سنه الاخيره ولم يكن من الذين يبحثون عن علاقات معتبره لتخدمهم , كان يفترض انني أعرف عمان جيدا ! ولذلك كان يتصل بي كلما واجه إشكال ما نسعى معا لحله .
كنت أرتاح لحديثه ولهجته القادمه من عمق فلسطين وأهلها . وكان رحمه الله صاحب ذوق فني , ذهبت وإياه الى معرض رسم تشكيلي وأذهلتني قراءته للوحات المعروضه …. كم كنت أتعلم منه ! كان يتابع من بيته المسلسلات بعين الناقد . إفتقدته في رمضان هذا لاستمع الى رأيه في مسلسل عن المطران المناضل إيلاريون كبوجي بعنوان ( حارس القدس ) وسأفتقده طالما بقي لي من العمر بقيه .
بقلم : توفيق ابو إرشيد