قال الرئيس ما لم يفد إلا قليله، لكنه قال ما ضَرَّ كثيره – د أيوب عثمان
قال الرئيس ما لم يفد إلا قليله، لكنه قال ما ضَرَّ كثيره،
فيما لم يقل ما كان واجباً أن يقوله
بقلم الدكتور/ أيوب عثمان
اعتلى الرئيس عباس منبر مجلس الأمن الدولي يوم الاثنين 11/2/2020 ليقول ما لم يفد إلا قليله، فقال ما ضر كثيره، فضلاً عن أنه لم يقل ما كان واجباً قوله. لم يعلن أمام مجلس الأمن الدولي عن حل السلطة التي هدد مراراً بحلها وتسليم مفاتيحها إذ هي “سلطة بلا سلطة”، كما وصفها أكثر من مرة، ولم يعلن عن فشل اتفاقية أوسلو التي كرر هو وكبير مفاوضيه وكبار مسؤوليه الحديث عن فشلها أكثر من مرة، كما لم يعلن – بناء على هذا الفشل وعدم التزام دولة الاحتلال بهذه الاتفاقية – عن إلغائها، على الرغم من تهديده هو وكبير مفاوضيه وأيضاً كبار مسؤوليه بذلك على نحو متكرر، ولم يعلن عن وقف التنسيق الأمني الذي هدد هو وزبانيته بوقفه مرة إثر مرة، بل إنه لم يفعل شيئاً من كل ما ذكرنا، على الرغم من تكرار القرارات التي أصدرها المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في شأن كل ما سبق. وعليه، فإن كثيراً من تساؤلات الاستغراب والدهشة والاستنكار تحاصرنا وتنتصب أمامنا:
ألم يفكر الرئيس أو يفكر له مستشاروه أن يجعل رفضه لصفقة القرن أمام مدلس الأمن الدولي مصاحباً لصور وأفلام وتقارير عن الأهوال والمجازر التي ارتكبتها دولة الاحتلال ضد شعبنا من عام 1948 وحتى مجازر الشجاعية وخزاعة وبيت حانون ورفح في الحروب الصهيونية الثلاثة على قطاع غزة في الأعوام 2008، 2012 و2014؟
وألم يفكر الرئيس أو يفكر له مستشاروه أن يعلن عن رفضه لصفقة القرن بينما يجري عرض بالصور والأفلام والوثائق والتقارير عن الإجرام الصهيوني ضد أطفال فلسطين وشيوخها ونسائها منذ أن هُجِّر شعبنا بقوة البطش العسكري الصهيوني عام 1948 وحتى يومنا هذا؟
ألم يفكر الرئيس أو يفكر له مستشاروه أن يصاحب رفضه لصفقة القرن عرض لصور وأفلام عن مسعفين ومسعفات قتلتهم آلة الحرب الصهيونية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشابة رزان النجار والشاب عبدالله القططي؟!
ألم يفكر الرئيس أو يفكر له مستشاروه أن يصطحب معه مجموعة من الشباب الذين بتر الإجرام الصهيوني أطراف بعضهم في مسيرات العودة السلمية فباتوا على العكاكيز، فيما فقأ الإجرام الصهيوني أعين البعض الآخر؟! ماذا لو تحدث الرئيس عن دوافع رفضه لصفقة القرن في ذات الوقت الذي يؤيد رفضه هذا بوثائق وأفلام وصور تؤكد على سلمية أفعال هؤلاء وتحركاتهم؟!
ألم يفكر الرئيس أو يفكر له مستشاروه أن يؤكد على رفضه لصفقة القرن بينما تعرض أفلام وصور ووثائق عن أسر أبادها جيش الاحتلال الصهيوني عن كاملها من رب الأسرة حتى الرضيع، وفي بعض الحالات أبيدت الأسرة كلها وبقي الطفل أو الرضيع؟!
ألم يفكر الرئيس أو يفكر له مستشاروه أن يرفض صفقة القرن وهو يشير بالصورة والأفلام إلى أحياء بكاملها ومناطق سكنية بكليتها دمرها جيش الاحتلال على رؤوس ساكنيها، لا سيما وإن في مكنته أن يعرض من هذه الصور والأفلام والوثائق ما يكفي على إقامة الحجة وصنع التأثير؟!
ألا يدرك الرئيس أنه مهما قال أو يريد أن يقول، معبراً عن توجهه نحو السلام، فإنه لا يجوز له أن يخرج أبداً على ما كان قد قاله هو غير مرة، ولا يجوز له أن يخرج على قرارات سبق للمجلس المركزي أن أصدرها بحضوره وبموافقته مرة ومرة ومرة؟! وعليه، فإننا نتساءل وباستنكار سيظل يتزايد: كم من مرة صدرت قرارات عن المجلس المركزي تقضي بإعادة النظر في الاتفاقات الموقعة مع دولة الاحتلال سواء في السياسة أو في الأمن أو في الاقتصاد أو في مستقبل السلطة التي وصفها الرئيس بأنها “سلطة بلا سلطة” حيث السلطة الفعلية الحقيقية الميدانية هي لدولة الاحتلال، فيما السلطة الفلسطينية ليست أكثر من خادم للمحتل؟! ما مصير القرار القاضي بسحب الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل إلى أن تعترف إسرائيل بدولة فلسطين؟!
كيف يجرؤ الرئيس على القول إن 300 ضابط صهيوني ممن كانوا يدافعون عن (بلادهم!) أصبحوا الآن مع الحق الفلسطيني؟! كيف له أن يعتبر موقفهم الذي كان إنما كان (دفاعاً عن بلادهم!)؟! أي بلاد تلك التي كانت (بلادهم!) وكانوا يدافعون عنها؟! أكانوا يدافعون عن حق بينما كنا نحن ندافع عن باطل؟! أي هراء هذا، يا رئيس؟!
أما كان للرئيس أن يفكر، وأما كان لمستشاريه – إن كانوا يكتبون له أو يشيرون عليه – أن يفكروا كيف يمكن لاتفاق أوسلو الذي يمتدحه أمام مجلس الأمن فيصفه بأنه أعظم إنجاز للسلام مع دولة الاحتلال؟! كيف لأوسلو أن تكون أعظم إنجاز فيما كل ما نرى من كوارث وأزمات وخوازيق لم تكن إلا نتاج أوسلو التي نرى الرئيس يكيل لها المديح كيلا وبلا حساب، وحتى دون أدنى تفكير بأن أوسلو ما كانت لتكون لولا ما كان من استقواء واستعلاء واستكبار على الشعب الذي فرضت عليه تلك الاتفاقية المهينة والمذلة دون أن يقول رأيه فيها أو يستفتى على الموافقة عليها أو رفضها؟
أما كان لهذا الرئيس أن يمارس أمام مجلس الأمن الدولي حق شعبه في الإعلان عن يكل إباء وقوة عن رفض هذه الصفقة التي تخصه هو فتفرض عليه دون أن يؤخذ رأيه فيها أو يستشار على تفاصيلها فتنعقد عليه في غيابه وعدم وجوده وليس له إلا أن يقبلها طوعاً كان ذلك أو كرهاً؟!
ألا يعيب هذا الرئيس أن يَبيْن عن أن أكبر همه هو العودة إلى التفاوض من جديد بعد أكثر من ربع قرن أضاعها من تاريخ هذا الشعب في مفاوضات لم تنتج إلا سراباً في سراب وكسب مزيد من الوقت للعدو بغية الاستيطان والتهويد؟! وكيف لهذا الرئيس أن يراهن من جديد – بعد كل ما عاشه شعبه من مآس وكوارث – على ما لا تجب المراهنة عليه، فيما لا يراهن أبداً على ما يتوجب عليه أن يراهن عليه؟!
ألم يجل بخاطر هذا الرئيس ولو لدقيقة واحدة – طيلة الوقت الذي أمضاه في إلقاء كلمته أمام مجلس الأمن الدولي – أن يعلن عن رفضه دون استدرار العطف أو الاستجداء، لا سيما وإن شعب فلسطين الذي صور نفسه أنه يتحدث باسمه إنما هو شعب على جادة الحق يدافع عن أرضه ووطنه ووجوده؟!
ألا يرى هذا الرئيس أنه يخطئ حينما يصور أن الشعب كله ملتف حوله هو بصفته الرئاسية، فيما أن الحق – الذي لا يزيغ عنه إلا مكابر أو مضلل – هو أن الشعب ملتف حول رفض صفقة القرن؟!
أما كان في مكنة هذا الرئيس الذي وجه كلمة للشعب الإسرائيلي أن يوجه كلمة إلى الشعب الفلسطيني حول قضية الساعة وعلاقتها بالانقسام والوحدة الوطنية المنشودة؟!
ألم يكن حرياً بهذا الرئيس – لو كان جاداً على نحو يقيني صارم وحاسم وحازم وهو يؤكد خلو السلطة من الفساد خلواً تاماً – أن يطالب بتشكيل لجنة تحقيق أو تقصي حقائق حول وجود الفساد من عدمه؟! أليس دليلا واضحة وفاضحاً – على عكس ما يؤكده الرئيس – أن أحكام المحكمة العليا الفلسطينية القاضية بإرجاع رواتب الموظفين المحتجزة من مارس 2017 لم تنفذ بعد؟!
وزيادة على ما سبق، كيف للرئيس أن يؤكد أنه لا يمل من التأكيد على أنه مهما ازداد البطش الصهيوني ضد شعبه واشتد، ومهما أوغل في دماء أطفالنا وشيوخنا ونسائنا، فإنه لن يلجأ إلى العنف والإرهاب؟! كيف لهذا الرئيس أن يعتبر مقاومة شعبنا للاحتلال عنفاً؟! وكيف له أن يعتبر دفاع شعبنا عن حقه في طرد الاحتلال عن أرضه وممتلكاته إرهاباً؟! كيف يتجرأ حتى على اللغة فيجعل العنف مرادفاً للدفاع عن الحق والأرض ومن الإرهاب مرادفاً لمقاومة المحتل الغاضب؟! كيف يتجرأ فيحول شرف المقاومة والدفاع عن الأرض والعرض عنفاً وإرهاباً، فيما لا يجرؤ على أن يصطحب معه ولو عينة من عشرات من أبناء شعبه بتر الاحتلال الصهيوني أقدامهم ليقفوا خلفه أو على يمنته أو على يسرته بعكاكيزهم وهو يتحدث إلى العالم من على منبر مجلس الأمن الدولي الذي جاء له بعد كل ما أصاب شعبه من بلاء وكوارث ليتحدث رافضاً صفقة القرن التي لم يكتف صناعها بما حصل بشعبنا حتى اليوم من بلاء فأرادوا أن يجهزوا على قضيته ليصبح خارج التاريخ؟!
وبعد، فإن سؤالاً استنكارياً كبيراً يستمر في الإلحاح عليّ بصور شتى، وليس في مكنتي قمعه أو كبحه أو إهماله أو تجاوزه: هل كان مفروضاً على الرئيس أن يقول: “القدس الغربية لكم والقدس الشرقية لنا؟ ماذا لو لم يقل ذلك؟! أقال ذلك طوعاً أم جبراً؟! ما الذي يدفعه إلى أن يمنح القدس الغربية دون مقابل؟! أين عقل الرئيس؟! وأين مستشاروه؟! وما الذي سيحققه من هذا القول الطوعي – إن لم يكن جبرياً – لا سيما بعد أن لم يحقق شيئاً ليس من فعل واحد أول قول، بل من مجموعة أفعال وأقوال؟! يُذكرني قوله الذي منح بموجبه القدس الغربية لدولة الاحتلال بتصريحه المجاني الذي أطلقه أمام وفد من غلاة الحاخامين لدى استقباله إياهم في مكتبه بمقاطعة رام الله عام 2013: “إسرائيل وجدت لتبقى، دولة لها كيانها، وليس لأن تزول”. أتذكّر هذا التصريح لأخفف عن نفسي وطأة تصريحه الصارخ والمعيب أمام مجلس الأمن الذي اعترف مجاناً بموجبه بأن “القدس الغربية للصهاينة والقدس الشرقية لنا”. الله أكبر! ما كان ضرَّك أيها الرئيس لو لم تقل (مجاناً!) هذين التصريحين الصارخين والمعيبين؟! ما الذي حققته من منحك الصهاينة اعترافاً كهذا أمام سمع وجمع في مجلس الأمن الدولي؟! وما الذي كنت ستخسره لو لم تمنح هذا الاعتراف؟!
أما آخر الكلام، فما الذي ضرَّ الرئيس لو أعلن رفضه لصفقة القرن على النحو الذي أسرنا وطالب المجتمع ومجلس الأمن الدوليين بإنهاء الاحتلال إعمالاً لقرارات الشرعية الدولية؟! أما كان في مكنته أن يقول: إن هذه السلطة التي أقودها حتى اللحظة لن تبقى هكذا بلا سلطة، كما أن هذا الاحتلال الجاثم على أرض بلادي متحدياً الشرعية الدولية بالمساندة الأمريكية لن ينعم بالأمن والسلم والاستقرار إلا برحيله عن بلادي. أقول هذا أمامكم ولكم محذراً من ثورة شعب لن يوقفه أحد، ثورة شعب هي التي ستحل السلطة التي هي بلا سلطة ليعود الشعب بثورته إلى مقاومة هذا الاحتلال البغيض خلف قيادة واحدة موحدة تعرف طريقها إلى التحرر، لا سيما وإنكم الآن تسمعونني وأنا أعلن من هنا أنني عائد إلى قطاع غزة، ولا يظنّن أحد من جمعكم الكريم أنه لو حيل بيني وبين الوصول إلى قطاع غزة، فاعلموا أن ثورة شعبي ليس بالضرورة أن يتقدمها أو يقودها محمود عباس، لا لشيء إلا لأن كل فرد من أبناء شعبي هو محمود عباس إن لم يكن قد تجاوز بثوريته محمود عباس. إنني عائد من هنا إلى قطاع غزة، صهريج الثورة وخزان العزة. أقول ما تسمعون وأفوض أمري إلى الله. هأنذا أكرر ما سمعتموه: ذاهب أنا إلى قطاع غزة بإذن الله مفوضاً أمري إليه سبحانه، فهو الذي يرعى المخلصين الصادقين الذين هم من أجل الحق والعدل والأرض والإنسان والوطن والدين ثائرون. سأبقى بإذن الله وراء هذا الهدف المقدس أو أقتل دونه وأفوض إلى الله أمري.
قال الرئيس ما لم يفد إلا قليله، لكنه قال ما ضَرَّ كثيره،
فيما لم يقل ما كان واجباً أن يقوله
بقلم الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة