“قانون القومية”: الإقتلاع الكامل والإحلال الكامل – منير شفيق
ينص “قانون القومية” الذي أقره الكنيست بأغلبية 62 نائباً، على أن “إسرائيل” هي “الدولة القومية للشعب اليهودي”، وأن حق تقرير المصير فيها “يخص الشعب اليهودي فقط”. و”القانون يهدف إلى حماية مكانة إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي من أجل إرساء قيم دولة إسرائيل في قانون القومية كدولة يهودية وديمقراطية”، و”القدس الموحدة عاصمتها”، و”اللغة العبرية هي لغتها الرسمية الوحيدة”.
ورحب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بتبني القانون، ووصف التصويت بأنه “لحظة حاسمة في تاريخ دولة إسرائيل”.
والقانون يستند إلى موضوعية تاريخية مزيفة، إذ يعتبر أن “أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي”. ولعل من الملفت أن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما كان قد صرح بأن “فلسطين هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي”، ولم يتنبه الكثيرون في حينه إلى أن أوباما “متصهين من الدرجة الأولى”، فضلاً عن قراءته المزورة لتاريخ فلسطين.
لعل أول مغزى لهذا القانون كونه يكشف الهدف الاستراتيجي للمشروع الصهيوني قام على أساس ادعاء الحق الحصري في كل فلسطين، ومن ثم شن حرب وجود، ضد وجود الشعب الفلسطيني فيها، وعلى أرضها. ولكنه اليوم كرسه قانوناً وسياسة رسمية للدولة، وذلك بعد أن كان يمارس باتجاهه ويراوغ سياسياً حوله.
كان المشروع الصهيوني منذ حلول مهاجريه المستوطنين في فلسطين تحت حماية الحراب البريطانية؛ يحاول (في ما يعبر عن سياسات ومواقف) الإيحاء بأنه مستعد للتعايش مع الفلسطينيين، وذلك ليوافقوا على حلول واقتراحات يقبلون من خلالها بشرعية ما حدث من استيطان. ولكن من دون أن يوافق هو على أيّ منها، مكتفياً بما نال من “شرعية” حتى حينه. وفعل الشيء نفسه مع صدور قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، دون الموافقة عليه، وذلك بالرغم مما أعطاه من “شرعية” له بإقامة دولة يهودية على 54 في المئة من فلسطين إلى جانب دولة فلسطين (45 في المئة) والقدس دولية.
واستغل حرب 1948 التي أججها لتوسيع “دولته” لتشمل 78 في المئة من أرض فلسطين، وتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني من أراضيهم وبيوتهم وقراهم ومدنهم التي استولى عليها ضمن الـ78 في المئة المذكورة، وهذا ما عرف بالنكبة: قيام الكيان الصهيوني، وتهجير ثلثي الشعب الفلسطيني.
ومنذ ذلك التاريخ، على الأقل، استمرت المحاولات من قبل آخرين لإيجاد “حل” للقضية الفلسطينية، بداية بالعودة إلى قرار التقسيم وعودة اللاجئين. واختبأ المشروع الصهيوني في حينه وراء المطالبة بأن يكون ذلك عبر المفاوضات المباشرة والاعتراف أولاً “بدولة إسرائيل”. وكان يوحي، دون إقرار والتزام، بأنه مستعد للقبول بالتعايش و”تقسيم” فلسطين بينه وبين الفلسطينيين، أو بينه وبين الأردن ومصر، ولكنه لم يكشف رسمياً أن الهدف هو ما عبر عنه “القانون القومي” الأخير: كل فلسطين، ولا أي حق للفلسطينيين فيها.
واستولى في حرب العدوان التي شنها في حزيران/ يونيو 1967 على كل فلسطين، فضلاً عن سيناء والجولان. وقد أبقى الباب مفتوحاً لصدور القرارين 242 و338 اللذين يعترفان له بالأراضي المحتلة في حرب 1948/1949. ثم أبقى الباب مفتوحاً أمام الثورة الفلسطينية ممثلة بفتح و”م.ت.ف” لتعلن مشروع “حل للقضية الفلسطينية”؛ تمثل بداية بإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يتساوى فيها المسلمون والمسيحيون واليهود (يهود الكيان الصهيوني) ثم الانتقال التدريجي إلى حل الدولتين على حدود ما قبل حزيران/ يونيو 1967، مع بعض “التعديلات”.
وبهذا استقبل الكيان الصهيوني سلسلة من التنازلات التي تتضمن “شرعنة” لوجوده غير الشرعي بكل المقاييس، من خلال القرارين 242 و338، ثم المعاهدة المصرية- الإسرائيلية التي شملت اعترافاً مصرياً بدولة “إسرائيل”، ثم المفاوضات المباشرة بعد مؤتمر مدريد، ثم اتفاقات أوسلو، ومعاهدة وادي عربة مع الأردن، ثم مسلسل التطبيع مع عدد من الدول العربية.
وهكذا استمرت سياسات المشروع الصهيوني على إبقاء الباب مفتوحاً للحلول والقرارات والاتفاقات والمفاوضات دون سقف إعلانه الرسمي عن هدفه الاستراتيجي: “كل فلسطين له، ولا حق للفلسطينيين أو للعرب أو للمسلمين بشبر واحد من أرضها، بل لاحق لهم بالوجود فيها لأنها الوطن القومي لليهود وحدهم، وهم وحدهم أصحاب الحق الحصري في تقرير مصيرها”.
والخلاصة، كل ما قيل ويقال عن المشروع الصهيوني في فلسطين، مثل اعتباره مشروعاً كولونيالياً استعمارياً إمبريالياً، أو قاعدة عسكرية للاستعمار الجديد، وكل ما قيل عن طبيعته العنصرية والإجرامية ونظامه الأبارتهايدي، يحمل بعداً من أبعاده أو سمة من سمات سياساته في مرحلة من مراحل استيطانه لفلسطين وسيطرته عليها، ولكنه في الحقيقة، كما كشف “قانون القومية” ويُفترض بأن يُعرَف منذ البداية؛ أو في الأقل عبر قراءة ممارسته الطويلة، بأنه مشروع إحلالي اقتلاعي غير قابل لأي حل غير حل كل فلسطين “وطن قومي لليهود”، ولا حق للفلسطينيين حتى بالإقامة فيها، ولو كأقلية، كذلك لا حق للعرب والمسلمين فيها ولا أيضاً للمسيحيين عموماً لأنها يهودية، ويهودية فقط.
ولهذا يخطئ من يعتبر هذا القانون كشفاً لعنصرية الكيان الصهيوني أو يحوّله إلى نظام أباتهايد بالكامل؛ لأن هدفه ليس كهدف عنصريي أمريكا الذين أقاموا يوماً ما نظام التمييز العنصري ضد السود، وليس كهدف، أو طبيعة، الاستعماريين البيض في جنوب أفريقيا، بإقامة نظام تمييز عنصري (الأبارتهايد)؛ لأن هدفه هو كل فلسطين، والتخلص من الوجود الفلسطيني العربي الإسلامي- المسيحي من حيث أتى. ولهذا هو عنصري مؤقتاً، لمرحلة ما. ويقيم ما يشبه نظام الميز العنصري، مؤقتاً؛ لأن الهدف هو الاقتلاع الكامل والإحلال الكامل.
هكذا يجب أن يُقرأ هذا القانون، ويجب أن يُقرأ المشروع الصهيوني. ومن ثم التخلص الكامل من كل أوهام “حل الدولتين”، أو “حل الدولة الواحدة” أو نظام بلا أبارتهايد. بل إن اتهامه بالعنصرية أو بالأبارتهايد هو اتهام يحمل بالنسبة إليه مستوى “إنسانياً” أرقى من طبيعته الإحلالية بالكامل والاقتلاعية بالكامل. وعليه، فليتشكل الوعي في معرفته وتحديد سماته، ولترتب استراتيجية أو استراتيجيات المواجهة.
ذلك أن معرفة الحقيقة، بلا زيادة أو نقصان، وبلا إضافات غريبة، هي الطريق إلى الاستراتيجية الصحيحة، وإلى الخط السياسي والفكري الصحيح.