قانون “يهودية الدولة” ونخب “الخوذ البيضاء” و”الدايتونية” الثقافية – عبداللطيف مهنا
أسوأ ما في قانون “يهودية الدولة”، الذي استنه كنيست الكيان الاحتلالي، هو فجور توقيته المستخف بصفاقة وغطرسة بأمة بكاملها، مستغلاً غيبوبتها في ظل واقعها المريع، الذي ازرى به المتحكمون في مصائر كتلتها الكبرى الممزَّقة والممنوعة من اللحمة، ربطاً بالأنكى منه، وهو، تلاشي ردود الأفعال الرسمية العربية ذات المعنى، أقله لجهة وضوح الموقف، من هذه الوقاحة الاستعمارية الممعنة، ومنذ النكبة، في اجتراع حقائقها الزائفة، بتزوير التاريخ، والسطو على الجغرافيا، وتسويق الأساطير واستدرارها من بطون الخرافات، لطمس كل ما من شأنه أن يشير إلى مجرَّد الوجود لأعدل قضية عرفها تاريخ هذا العالم، ولأنصع حقوق غير قابلة للإنكار والتصرّف، للعرب الفلسطينيين في كامل فلسطينهم التاريخية، وحقهم الثابت والمكفول في كل الشرائع السماوية والأرضية بتحريرها كاملةً والعودة لكاملها.
بمعنى أو بآخر، وئد ما يفترض أنها القضية المركزية للأمة العربية في ظل شبه صمت غالب رسمياتها، والذي يوازي موضوعياً القبول بوجود كيان استعماري لقيط في احشائها، والإقرار بتحوّله إلى مركزٍ مقررٍ تدور من حوله أشلاء أمة ممزَّقة تتناهشها غوائل التمذهب والطائفية، وكل ما تيسر من ضروب الفتن، أو ما ينسجم مع وصية بن غوريون المعروفة، ومنه محاولات استنبات فطر الإثنيات البائدة، إذ لا يكفون بحثاً في كهوف التاريخ للعثور على أثر لرميم عظامها النخرة لإعادة بعثها… مثلاً: يطرح الآن لديهم الاعتراف بشيء أسمه “القومية الآرامية” وسحبها على المسيحيين الفلسطينيين الموارنة، و”القومية الدرزية” بالنسبة لطائفة الموحدين، وهكذا.
حتى الآن، على حد علمي، لم يصدر موقف رسمي عربي واحد يرتفع إلى مستوى ووضوح الموقف العربي السوري، البلد الذي يواجه حرباً كونية تدميرية منذ سبعة أعوام، ويسجَّل له الآن في سفر نضالات الأمة الجريحة أنه واجه وصمد وخرج من بين الأنقاض منتصراً.
لندع المواقف الرسمية جانبا، أو نسقطها من حسابنا لشبه انعدامها كما بيَّنا، ولنلتفت لمواقف النخب، وهنا نجد ما قيل ويقال وكتب ويكتب والكثير الكثير، وغالبه، ولا نقل كله، يسحبنا إلى لجة نواح تأخذنا من حيث الوعي لتبتعد بنا عن ابجديات الصراع ومستوجبات الارتقاء بوعينا لمستوى ما تتطلَّبه المواجهة. هذه الأبجديات، كانت ولا زالت وستظل ما دام هذا الكيان قائماً، تستند على حقيقة واحدة بسيطة وثابتة، وأي تلهيٍ يغفلها فيغيّبها بلوك حكايات “الأبارتهيد”، والفاشية، والعنصرية، وما إلى ذلك، وهي بالإجمال صحيحة، لكنما التلهّي بها يسهم في تشويه وعينا لخطورة ما نواجهه، وتشويهه يخدم عدو لا يضيره ولا يبالي بأن يوصم بهذه التوصيفات، بل لا تخلو صفحات صحفه ذاتها في غالب الوقت ممن يتهمون كيانهم بمثلها…
مثلاً، قول تحذيري لعميرة هاس: إنه ” سيأتي يوم ليس فقط سياسيون وعسكريون إسرائيليون سيقدَّمون للمحاكمة، بل أيضاً رجال قانون وقضاة عسكريين ومدنيين ورجال آثار ومخططون. كل من سمح ويسمح بتشكيل البلاد كطابق ثاني لليهود وكقبو-مقسَّم إلى غرف منفصلة-للفلسطينيين”.
أما هذه الحقيقة فهي: إننا إزاء تجمُّع استعماري استيطاني احلالي غاز وغاصب عمل منذ أول لحظة من انطلاق مشروعه الصهيوني للوصول إلى هذه اللحظة التي حوَّل فيها الكنيست مجموعة من قوانينه العادية المطبقة عملياً منذ النكبة الأولى إلى قانون أساسي. بمعنى دسترتها، إذ لا دستور له ويستعيض عنه بالقوانين الأساسية. ذلك يعني أن المستجد هنا هو اسباغ هذه الدسترة على ما كان يمارس…وباستثناء أمرين قد تنطبق عليهما مقولة رب ضارة نافعة:
الأول، اسقط أمام ناظري البشرية كلها آخر أوراق التوت كاشفاً عن عورة هذه الثكنة العدوانية، التي لطالما ظل جزء كبير وفاعل من هذه البشرية يغض الطرف عنها متواطئاً ومتستراً على بشاعة طبيعتها العدوانية الاستعمارية، أو يرعاها ويساندها، ذلك بعد أن واتت هذا الكيان المفتعل الفرصة والإحساس بالقدرة مع توفر العصمة وما اتاحته له مرحلة عربية ودولية لم يعد يشعر فيها بأنه في حاجة لأن يستر عوراته.
والثاني أسقط بالضربة القاضية جملة من خرافات ايهامية تسووية تصفوية بعد أن أُستنفدت، لطالما بشَّر ونظَّر وسوَّق لها الإنهزاميون والمتصهينون فلسطينيين وعرباً. من مثل، “حل الدولتين، لشعبين يعيشان جنباً لجنب بسلام “! ولما جعلته الوقائع التهويدية من التاريخ، خلَفه الحديث عن “حل الدولة الواحدة”، الذي يذكرنا بمقولة سبقته في المحتل عام 1948، والقائلة، “دولة لكل رعاياها”…دسترة هذا القانون بددت كافة هذه الأوهام واعادت الصراع لمربعه الأول، فكانت بحق اعلان بالنهاية المحتومة للأوسلوية دون وئدها بإبقائها تتنفّس في “المقاطعة” لحاجة في نفس التنسيق الأمني.
ردود الأفعال العائدة للنخب، التي كانت ما انفكت تنظّر للحلول الإيهامية البائدة حتى بعد انقراضها ، تعكس مناحاتها الدائرة الآن إثر صدور هذا القانون، وبالمفاهيم الشوهاء التي يتضمنها نواحها، خطورة مثقفي الخوذ البيضاء وجهابذة الدايتونية الثقافية على وعي وعقول أجيالنا. مهما تلوَّنوا فهم في المحصلة رديف لأخرين باتوا الآن يحتلون الشاشات مروجين بلا حياء للرواية الصهيونية وحدَّائين لبدعة الحليف العدو ضد العدو البديل!