قراءة في الانتخابات الأمريكية – زهير كمال
كانت نتائج الانتخابات الأمريكية لعام 2016 محيرة ومدهشة ومثيرة للصدمة لكثير من المتابعين لما تحمل من نتائج مؤثرة على كل الصعد في هذا العالم بعد ان أصبحت الكرة الأرضية قرية كبيرة ، فكل قرار يصدر عن ساكن البيت الأبيض يؤثر حتى على المستوى الشخصي للفرد أينما عاش في هذا العالم.
عندما لا يعتقد سيد البيت الأبيض مثلاً أن هناك تغيرات خطيرة في المناخ بفعل النشاط الإنساني أو ما يطلق عليه زيادة الانبعاث الحراري ثم لا يفعل شيئاً ، فإن العواصف والأعاصير وموجات التسونامي قد تدمر الحياة في أقصى جنوب شرق آسيا، أو ستعمل على اختفاء جزر بأكملها كما يحدث الآن مع جزر المالديف في المحيط الهندي بفعل ذوبان الثلوج بنسب خطيرة وغير معهودة في القطبين الشمالي والجنوبي.
أما إذا اتخذ قرارات سياسية سيئة تؤثر على الاقتصاد فإن حياة الفرد في إفريقيا أو آسيا قد تتأثر بارتفاع سعر الدولار أو انخفاضه .
وقد يستطيع اتخاذ قرار حرب ضد بلد ما فسنجد القنابل تنهمر على رؤوس السكان وتحصد
أرواحهم بدون ذنب جنوه.
يركز المرشحون للرئاسة الأمريكية على الاقتصاد وعلى ما سيفعلون لتحسين حياة ناخبيهم، وقد
يظهرون مساوىء الرئيس الحالي وكيف أنه يصدّر الوظائف التي من حقهم وحق أبناءهم الى
الخارج سواء الى الصين أو المكسيك أو الى البلاد الأخرى التي تستثمر فيها الشركات
الأمريكية التي تبحث عن الأيدي العاملة الرخيصة لتزيد من أرباحها.
أما الموضوع الثاني المفضل فهو تخويف الناس من الإرهاب والتطرف وبخاصة التطرف
الإسلامي.
وهناك الأوضاع العالمية الأخرى ولكنها تعتبر ثانوية للناخب الأمريكي العادي.
ولم تخرج انتخابات العام الحالي عن هذا النمط وقدم كل مرشح تصوراته لمعالجة هذه المسائل.
ولكن لو تناولنا المسألة الاقتصادية لوجدنا أن الموضوع ليس حاداً كما يتصور بعضهم بل على العكس فإن هذا الاقتصاد العملاق قد تعافى من نزيف فترة رئاسة بوش وحروبه الكارثية ،والمواطن العادي يلمس هذا التحسن الطفيف والمستمر ، فنسبة التضخم ضئيلة وبعض السلع قد نقص سعرها وبخاصة البنزين الذي انخفض سعره الى النصف تقريباً بفضل الاكتشافات النفطية في داخل أمريكا التي مكنت الولايات المتحدة من الاستغناء عن الخارج. ويضيف الاقتصاد شهرياً من مائة ألف الى مائتي ألف وظيفة. ونسبة البطالة معقولة وعادية.
وهكذا فإن أي رئيس منتخب سيجد وضعاً مريحاً على المستوى الداخلي إذا استمر في نفس السياسة الاقتصادية القائمة حالياً.
أما بالنسبة للأمن فالمواطن الأمريكي لا يشعر بأي تهديد خارجي مثلما يحدث في أوروبا القريبة من مراكز الصراع في الشرق الأوسط ، ويدرك هذا المواطن أن هذه المنظمات الإسلامية المتطرفة إنما هي صناعة مخابراته وتصب في نهاية المطاف لمصلحة أمريكا وإسرائيل، وأما الحوادث المتفرقة التي تشهدها الولايات المتحدة فهي ليست أسوأ من حوادث القتل بالجملة التي تحدث بعض الأحيان في مدارس الولايات المتحدة.
في تحليل نتائج الانتخابات الأمريكية وفوز دونالد ترامب بالرئاسة ، علينا دراسة الأعداد التي تقوم بالانتخاب ، وسنجد نتائج مذهلة ، فالأرقام لها لغتها الخاصة التي تكلمنا إن درسناها.
لن نرجع كثيراً الى الوراء وحسبنا دراسة أرقام الانتخابات الخمسة الأخيرة، أي منذ عام 2000 وحتى اليوم. لنجد أن المرشح الجمهوري بغض النظر عن الاسم قد حصل على ما يقارب ستين مليون ناخب بشكل دائم ، ما عدا سنة 2000 التي حصل فيها جورج بوش الابن على خمسة وخمسين مليوناً مقابل نفس العدد لآل غور.
ونستطيع القول إن هذه كتلة صماء تصوت للمرشح الجمهوري كائناً من كان، وهذه الكتلة موجودة في ولايات الداخل الأمريكي.
انتخبت هذه الكتلة جورج بوش الابن مرتين بالرغم من معرفتها بحماقاته وبإدارته السيئة للاقتصاد، وها هي تنتخب دونالد ترامب بكل الصفات التي تتداولها وسائل الإعلام عنه ،والأدهى أنها تغاضت عن تقديمه للكشف الضريبي الذي يعتبر عملاً مقدساً بالنسبة للانتخابات الأمريكية.وفي المقابل نجد أن ولايات الساحلين الشرقي والغربي عادة ما تصوت للحزب الديمقراطي.
وإذا استطاع المرشح الديمقراطي زيادة عدد الناخبين الى أكثر من ستين مليوناً كان البيت الأبيض من نصيبه ، وقد لاحظنا ذلك في حالة باراك أوباما الذي حصد أكثر من 69 مليون ناخب في العام 2008 و65 مليوناً في العام 2012. واستطاع تحويل بعض الولايات الجمهورية الى ديمقراطية. وتخطى حاجز ال 270 صوتاً للمجمع الانتخابي لكل الولايات.
بينما نجد أن جون كيري وهيلاري كلينتون لم يتجاوزا حاجز 60 مليوناً في انتخابات 2004 وانتخابات 2016 على التوالي ، وفشل كلاهما في ضم أية ولاية جمهورية الى رصيده.
ماذا يختلف المرشحون الديمقراطيون عن بعضهم عن بعض؟
إنها قوة الشخصية والرسالة التي يحملها المرشح والتي تجعل الناخب يذهب الى الإدلاء بصوته.
آل غور وجون كيري وهيلاري كلينتون شخصيات سياسية باهتة لا تحمل أي جديد ولا تبث الحماسة في وسط الجماهير. بينما نجد أن أوباما رغم أنه أسود واتهم بأنه مسلم ووصل التشنيع عليه الى حد القول إنه غير مولود في الولايات المتحدة، بما يخالف الدستور الأمريكي، استطاع أن يستغل فشل سلفه بوش وقدم رسالة قوية ورفع شعاراً أصبح الجميع يردده خلفه، شعار ( نعم نستطيع)، وربما كانت انتخابات 2012 التي فاز فيها أوباما أكبر دلالة على بحث الجماهير عن شخصية قيادية تتمتع بالكاريزما.
هل كان من الممكن للحزب الديمقراطي أن يحافظ على سيطرته على البيت الابيض هذا العام؟
نعم، لو قدم مرشحاً قوياً مثل بيرني ساندرز ، رغم اتهامه من قبل الجمهوريين بالتطرف والاشتراكية.
من فينة لأخرى يقدم الحزب – كونه ممثلاً للطبقة الوسطى في المجتمع الأمريكي – بعض الوجوه اللامعة مثل هوارد دين وبيرني ساندرز ولكن سرعان ما يتلاشون ولا يصلون الى النهاية حيث تحاربهم بيروقراطية الحزب المتحالفة مع رأس المال.
فالجماهير وبخاصة الشباب تبحث عن رسالة وهدف، لم يجدوه في هيلاري كلينتون ، فتقاعسوا عن الذهاب الى صناديق الانتخاب، ولقنوا الحزب درساً لن ينساه، فقد سيطر الجمهوريون على الكونغرس بمجلسيه أيضاً.
ترامب والعالم:
ربما كان دونالد ترامب آخر محاولة من الرجل الأبيض لوقف التحولات التاريخية التي تجري في الولايات المتحدة والعالم ، وفي العادة فإن مرشحي الحزب الجمهوري يميلون عادة الى سياسة العزلة ، ولكن ترامب بز أقرانه في هذا الشأن ، فقد أظهر في كل مداخلاته أنه يسبح ضد تيار العولمة ، هذا التيار الجارف الذي لا يستطيع أحد إيقافه، وسيكون مصير أية محاولة لوقف التطور الجاري هو الفشل .
ولعل مثال جنوب إفريقيا وسياسة التمييز العنصري التي كانت تتبعها هو خير مثال على عدم اتباع منطق العصر الذي نعيشه فكان مآلها الانهيار . والأمر نفسه سينطبق على إسرائيل وسياسة التوسع الاستيطاني وسرقة أراضي الفلسطينيين حيث ستلاقي نفس المصير ، فهي لا تسير مع منطق العصر .
وخير مثال على سباحة ترامب ضد التيار هو سياسته في شأن الهجرة ، فكما هو متوقع فإن اللغة التي ستسود في الولايات المتحدة في عام 2050 هي اللغة الإسبانية ، فنسبة توالد المهاجرين من أصول إسبانية تفوق بكثير نسبة توالد المهاجرين من أصول أوروبية، كما أن بناء جدار مع المكسيك هو محاولة عقيمة لوقف الهجرة من الجنوب الى الشمال، ربما ينبغي له أن يحاول تحسين اقتصاديات بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية بهذا المبلغ الضخم والمقدر بـ 11 مليار دولار ، فلا يمكن إغفال أن استغلال هذه البلاد من قبل الشركات الأمريكية قد تركها دولاً فقيرة ومعدمة ، ولكنه بالطبع لا يعتقد بحلول طويلة الأمد كهذه، فبحسب طريقة تفكيره فالولايات المتحدة ليست مؤسسة خيرية.
وسيكون موضوع بناء الجدار هو أكبر محك لرئاسة دونالد ترامب فقد وعد ببناء الجدار بأموال جمهورية المكسيك ، الأمر الذي سترفضه ، ولكن ربما سيحاول الالتفاف على الأمر بجعل الحكام العرب يدفعون تكلفة بنائه وهناك مثل آخر يتعلق بمحاولة إرجاع المصانع الأمريكية التي تعمل في الدول الأخرى ، وهو يدل على عدم فهم للاقتصاد العالمي وتحولاته ، ويعتقد ترامب أن تشجيع الأغنياء بإعطائهم محفزات ضريبية ستجعلهم يفتحون المصانع في داخل الولايات المتحدة، ولكن نسبة الأرباح التي يجنونها بالوضع الحالي تفوق عشرات المرات كافة التخفيضات التي سيقترحها وإنما ستجعل الأغنياء يزدادون غنى ، وسيكتشف بعد أربع سنوات أنها كانت محاولة يائسة فقد تمت تجربتها في بداية عهد سلفه بوش وأدت الى انهيار الاقتصاد الأمريكي.
أما بالنسبة الى المنطقة العربية، فسيكون التعامل معها سهلاً له ، فحكومات هذه المنطقة تابعة ذليلة للسيد الأمريكي ، وتستمد حمايتها منه ولن تمانع بالتضحية بما تملك من أجل رضى الأمريكي واستمرار بقائها في الحكم. وقد ينجح ترامب في نقل السفارة الأمريكية الى القدس بدون أية معارضة تذكر، بعكس كل أسلافه الذين وعدوا أثناء حملاتهم الانتخابية ثم لم ينفذوا عند وصولهم الى البيت الأبيض.
وأخيراً فإن كافة الاحتمالات الخطرة على مستقبل الولايات المتحدة والعالم قائمة في عهد الرئيس ترامب ، فعلى مستوى الولايات المتحدة فإن مطالبة بعض الولايات خاصة في الساحل الغربي بالانفصال تصبح واردة إذا اتبع سياسات متهورة مثل إلغاء التأمين المجاني للفقراء .
أما على مستوى العالم فاستعمال السلاح الذري وارد أيضاً. الأمر الذي لا يتمناه أحد، والذي أصبح التهديد المجرد به أمراً غير مستساغ.
فهل سيتبع دونالد ترامب منطق التاريخ ؟ هذا ما ستكشف عنه فترة رئاسته البالغة أربع سنوات.