قراءة في رد حزب الله وأسباب الاحتواء (الاسرائيلي) – أطلس للدراسات
بعد عدوان القنيطرة على موكب حزب الله، كانت الفرضية الأكثر ترجيحاً لغالبية المهتمين أن الحزب سيرد قريباً، وأنه مضطر للرد لأسباب كثيرة، وكان السؤال الأهم يدور حول كيفية ومكان وحجم الرد، في ظل معرفة واسعة تقريباً للاعتبارات التي تحدد حتمية الرد وتأخذ بعين الاعتبار تحقيق أهداف الرد على الجبهتين الداخلية و(الاسرائيلية) ويترجم مفهوم التناسب “الثأري” وفي نفس الوقت التصدي لنتائجه واحتواء مخاطره.
كتبنا في السابق ان عدوان القنيطرة كان عدوانا من النوع الاستراتيجي، قياساً بنوعية المستهدفين وعددهم، وأهدافه ومكانه وزمانه ونتائجه المتوقعة، واليوم سنحاول ان نفهم خفايا وسياقات رد الحزب والمضمون الخطابي المواكب، بالإضافة لقراءة أسباب الاحتواء الاسرائيلي والامتناع عن الرد.
رد الحزب
منذ اللحظة الأولى التي نفذت فيها إسرائيل عدوانها توقعت رداً من الحزب، وزخر الإعلام الإسرائيلي بتوقع الرد، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا انها تفهمته، لا سيما بعد التأكد من وجود الجنرال الإيراني دادي من بين الضحايا، وربما أرادته لاستدراج الحزب الى معركة غير مريحة له من حيث الظروف والتوقيت، لكنهم في اسرائيل اختلفوا في توقع حجم الرد ومكانه، هل سيكون في سياق تنفيسي ورد الاعتبار أم انه سيرد بشكل قوي يفهم منه ألا تراهنوا على حكمتنا ولا على حساسية ظروفنا لبنانياً وسورياً؟
في الدقائق الأولى من هجوم الحزب على الموكب العسكري الإسرائيلي، وقبل ان يتبدد الغبار والدخان الذي غطى المشهد العسكري بالكثير من عدم الوضوح؛ انبرت قناة الميادين المعروفة بقربها من حزب الله بحملة مواكبة إعلامية كبيرة، أثارت منذ البداية انطباعاً قوياً أن الحديث يدور عن عملية كبيرة جداً على الأقل من حيث أعداد القتلى الإسرائيليين.
كما ان الحديث عن إطلاق عدد من صواريخ الكورنيت – التي يعتبرها الإسرائيليون من النوع الفتاك والتي لا تخطئ أهدافها – على موكب كبير للضباط والجنود الإسرائيليين، حتى لو لم تقتل سوى ضابط وجندي وإصابة سبعة آخرين؛ عزز رأياً وخلق انطباعاً ان رد الحزب سعى لتحقيق “التناسبية الثأرية” بغض النظر عن النتائج والتداعيات، وأن من أصدر القرار بإطلاق عدد كبير من صواريخ الكورنيت على الموكب الاسرائيلي امتلك الإرادة والشجاعة للدخول في حرب واسعة ومدمرة، نظراً لأن التسبب بعدد كبير من القتلى الاسرائيليين سيجعل من الصعوبة بمكان على متخذ القرار الاسرائيلي تجاهل عدد كبير من القتلى، لا سيما في ظل حساسية المرحلة الانتخابية.
بيد ان جملة قالها نصر الله في خطاب التأبين بددت الانطباع السائد آنفاً وجعلتنا نقرأ الرد بشكل مختلف؛ حيث قال “حتى النتيجة هالقد مش أكثر، هذا توفيق من الله” وكأنه سعيد ومغتبط ان الله وفقهم ألا يكون عدد القتلى أكثر، انه أمر غريب ومدهش في غرابته ان تجد قائداً من قادة المقاومة يشكر الله علناً ان عدد قتلى جنود العدو لم يكونوا أكثر مما كانوا، كما انه المعروف عن الحزب تمتعه بالمهنية والحرفية العسكرية والتنظيمية العالية ولا يركن على التوفيق الإلهي، بل يعد له ويوفر أسبابه.
ويبدو ان تلك الجملة إن لم تكن زلة لسان – ونحن لا نعتقد انها كذلك – وجهت الى اسرائيل لتفهم منها ان الحزب يمتلك القدرة العسكرية والحرفية العالية التي تجعله قادراً بمهنية على التحكم بحجم اللهب، ويستطيع في كل وقت ان يوقع بهم عدداً كبيراً من الخسائر، لكنه لا زال يمتلك الحكمة والرغبة في عدم إشعال حرب جديدة، رغم انه مستعد لها، وعلى إسرائيل ألا تجربه، وقد قال ذلك بعبارات شديدة الوضوح، موجهة للشارع الاسرائيلي ولقيادات الجيش أكثر منها لحكومة نتنياهو “لا نريد الحرب ولا نخشاها ولا نخافها، وسنواجهها إذا فرضت علينا”.
لا نعرف كيف استطاع الحزب ان يصنع رداً موزوناً بمهارة احترافية تكتيكية سياسية وعسكرية، تشبه مهارة الجراح الذي يجرح دون ان يسيل دماً، وهي شهادة على احترافية المستويين السياسي والعسكري، كما ان تكرار عبارة عدم الخوف من الحرب والتهديد بالرد على أي عدوان مهما كان نوعه دون التقيد بقواعد الاشتباك، ينبع من قراءة الحزب لتوجه اسرائيلي نحو الحرب، مبني على تقدير اسرائيلي ان الحزب يمر بأسوأ مراحله، والحزب الذي يخشى من تكرار نتائج سوء التقدير الاسرائيلي لتوجهات حماس وقدراتها الذي أدى في حينه الى حرب طويلة ومدمرة؛ يرغب في ان يرسخ لدى اسرائيل تقدير ان الحزب جاهز للحرب فليس من المجدي لكم تجربته.
تهديد نصر الله هو نوع من الحرب النفسية لردع اسرائيل عن أي توجه عدواني، وليس من الضروري أن يلتزم الحزب بما يتوعد به إسرائيل، ويمكن الاستناد في ذلك الى خطوطه الحمر التي أعلنها في لقاء “الميادين” والى حجم رده على العدوان الاسرائيلي ذي الطبيعة الاستراتيجية، ومن جهة أخرى فإن ما أثاره رده في الانطباع الشعبي الحاضن للمقاومة لن يجعله في المستقبل مضطراً للرد بسرعة ليبرهن على مصداقيته، حيث شحنت عملية شبعا رصيد مصداقيته بشكل كبير.
المواكبة الاعلامية لعملية شبعا
إعلام المقاومة، بما في ذلك قناة “الميادين”، لعب دوراً أساسياً في تحقيق وترجمة الأهداف الداخلية للعملية في إثارة انطباع أولي وسريع وراسخ، ان الحزب أوفى بوعده وانتقم لدماء الشهداء بما يتناسب وحجم الحدث الجلل في القنيطرة، نوعاً وكماً، وقد نجح الإعلام في ذلك نجاحاً كبيراً، فأخرج الجماهير للشوارع فرحاً وابتهاجاً، ونفّس الاحتقان والتوتر، وجعل مطلب الرد من خلف ظهر الحزب وحرره منه، وجاء خطاب نصر الله ليضيف زخماً الى زخم احتفالات النصر، وليروج لمفاهيم جديدة تترجم الانتصار، تتعلق بتغيير قواعد الاشتباك، رغم ان مكان تنفيذ عملية الرد لم يغير شيئاً في قواعد الاشتباك، حيث اختار الحزب ان يرد داخل منطقة مزارع شبعا، وهي منطقة محتلة تتركز فيها منذ سنوات عمليات الحزب، فلا يوجد جديد هنا.
بيد ان قواعد الاشتباك التي يريد الحزب ان يرسيها، والتي عبر عنها صراحة خطاب نصر الله، هي تمسك الحزب بوقف إطلاق النار على طول الجبهة الاسرائيلية اللبنانية، ونقل ساحة الاشتباك الى جبهة القنيطرة – الجولان، وهو ما يعتبر تحييداً لجبهة الحدود اللبنانية، وهو ما ترفضه إسرائيل، وللحقيقة لا زال الحديث عن جبهة القنيطرة – الجولان يستند فقط على ما ينشر إسرائيلياً.
الاحتواء الإسرائيلي
بداية نعتقد ان الاحتواء الاسرائيلي لعملية شبعا وعدم الرد عليها لم يكن تحصيل حاصل، ومفهوماً من تلقاء نفسه، لا سيما من قبل قيادة سياسية يمينية في مرحلة انتخابية توظف العامل الأمني لخدمة أجندتها الانتخابية، وتقدم نفسها على انها الأقدر على صد الأخطار والتهديدات الأمنية، وتجتهد على إظهار جدية تلك التهديدات وأولوية التصدي لها على أولويات الأجندات الأخرى التي تعاني فيها فشلاً وتقصيراً كبيراً، حسب نتائج قراءات انطباعات الشارع الإسرائيلي.
ومن أقدم على هجوم القنيطرة رغم التأكيدات الاسرائيلية – التي اعتمدت على المصادر الأمنية – بوجود الجنرال الإيراني دادي؛ أخذ بعين الاعتبار أسوأ سيناريوهات الرد، أي انه تهيئ للدخول في حرب كرد فعل على رد فعل كبير ونوعي من حزب الله، وهو ما دعانا في تحليل سابق ان نستخلص – بالإضافة لأسباب أخرى – ان اسرائيل تستعجل حرباً على حزب الله في ظروف مؤاتيه لها.
وفي تقديرنا؛ فإن أسباب كثيرة قد تقف خلف قرار الاحتواء الاسرائيلي من أهمها:
– النتائج الكمية لخسائر اسرائيل في عملية شبعا، ورسالة القوة والتهديد التي تنطوي عليها العملية، “فالخسائر المحدودة” جعلت اسرائيل قادرة على احتوائها على المستوى الجماهيري، مقارنة بخسائر الحزب في عدوان القنيطرة، ولأجل المقارنة اضطر يعلون ان يلمح الى المسؤولية الاسرائيلية عن عدوان القنيطرة، كما ان جرأة الرد في ظل الاستنفار الأمني والوعيد والتهديد الاسرائيلي جعلت إسرائيل تعيد حساباتها من جديد؛ هذا علاوة على رسائل التهدئة التي يقال اسرائيلياً ان الحزب اجتهد بسرعة لإيصالها لإسرائيل عبر قائد اليونيفيل.
– رد الحزب في منطقة محتلة، مستهدفاً عسكريين لا مدنيين، وفي إطار رد الفعل على عدوان القنيطرة؛ أفقد اسرائيل أي شرعية دولية بالرد، وقد جاء الموقف الأمريكي الذي دعا الى التهدئة ولم يمنح اسرائيل كعادته شرعية الدفاع عن نفسها وحماية مواطنيها.
– نعتقد ان قيادة الجيش الإسرائيلي، وتحديداً رئيس الأركان غانتس الذي سيسلم منصبه لخليفته إيزنكوت، قد لعب دوراً رئيسياً في فرملة أي رد متهور، فهو ينتظر بفارغ الصبر ان تنتهي ولايته دون أية مضاعفات سلبية تلطخ سيرته المهنية، وهو مع قيادة الجيش يشعرون بثقل المسؤولية عليهم في ظل اقتصار سلطة القرار السياسي على (نتنياهو ويعلون وبينت وليبرمان) في مرحلة انتخابية حساسة، وفي ظل اتهامات سياسية ان نتنياهو يطوع الجيش والأمن لخدمته وخدمة أجندته الأمنية، فقيادة الجيش في هذه الحالة تكون أكثر تحفظاً وحرصاً وتردداً في تقديم خططها الحربية، وهو تقريباً سيناريو تكرر مع نتنياهو وباراك عندما رفض قادة الموساد والجيش والشباك (دغان واشكنازي وديسكن) الاستقامة مع توجهات نتنياهو وباراك فيما يتعلق بالملف الإيراني سنة 2012 .
– المزاج السياسي والشعبي الاسرائيلي ضد الحرب، ولا يرى فيها حرباً اضطرارية، أي يغيب عنها الاجماع السياسي والشعبي، وقد ظهر ذلك في استطلاعات للرأي أجاب فيها 48% بأنهم يؤيدون عدم الرد.
مع كل ذلك؛ فإن شبح الحرب لم يبتعد كثيراً، فنتنياهو، الذي هدد بجباية الثمن ممن يقفون خلف العملية، قد يلجأ الى المزيد من العدوان سواء غيلة أو قصفاً لما يقال اسرائيلياً انها بنى تحتية للمقاومة في جبهة الجولان بهدف استفزاز الحزب واحراجه واستدراجه، إن لم يكن في هذه الفترة فقد يكون خلال العام الجاري إذا ما نجح في تشكيل الحكومة القادمة.
قراءة في رد حزب الله وأسباب الاحتواء (الاسرائيلي) – أطلس للدراسات