قرار كوشنر…ووعد ترامب! – عبد اللطيف مهنا
كأنما كان يتلو عبارات صاغها، أو لقَّنها له، نتنياهو. اعلن الرئيس الأميركي ترامب ضم القدس الكبرى، التي تشكّل مساحتها الآن من 12 إلى 15% من مساحة الضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني، فاتحاً الطريق لضم ما تبقى منها، المهوّد وما في سبيله للتهويد. اعترف بها عاصمة للمحتلين، وأمر بنقل سفارة بلاده من تل ابيب إليها. استحق هذا منه امتداح رؤبين ريفلين، رئيس هذا الكيان، ل”أجمل هدية (لإسرائيل)” في الذكرى السبعين لإقامتها، والخمسين لاحتلال القدس الشرقية. لقد كان استكمالاً لمشوار اميركي بدأه ترومان، واحياءً على طريقته الكاوبوي للذكرى المئوية لوعد بلفور بوعد رديف يمكن أن يطلق عليه وعد ترامب.
وإذ لا يمكن تخيّله إلا قراراً صهيونياً بامتياز، وحتى وصفه بقرار صهره ومستشاره كوشنر، فلا يعتي عدم كونه اميركياً وبامتياز أيضاً، فالرجل لم يفعل أكثر من تنفيذ قرار للكونغرس كان قد اُتّخذ عام 1995 وباجماع اغلبية كلا الحزبين فيه الجمهوري والديمو قراطي، لكنما الرؤساء الأميركان من يومها وحتى ترامب أجّلوا تنفيذه حرصاً منهم على المصالح الأميركية في المنطقة. خالفهم ترامب فقدَّم المصالح الصهيونية والانتخابية لينفَّذ ما رأى أنه قد “تأخَّر كثيراً”، وهو لم ينفّذه إلا بعد إلقائه نظرةً على الواقعين، العربي البائس، والدولي المناسب، ثم ما استشفه ابَّان اتصاله برام الله وعمان والقاهرة لإبلاغهن بقراره، ليخلص بالتالي إلى ما تطابق مع ما قاله الجنرال عاموس يادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية الصهيونية ازاء التحذيرات التي سبقت الإعلان، من أن “الفلسطينيين والعرب والأتراك يهددون بمسدس فارغ”!
ليس ثمه من شك في أن بؤس الواقع العربي والتهافت الأوسلوي هو من سهَّل على إدارة ترامب ما صعُب على الإدارات الأميركية السابقة. ردود الفعل العربية الرسمية ومعها سلطة رام الله، حتى الآن، لا يبدو أنها في وارد تجاوز توصيف الجنرال يادلين. يحذرون ويشجبون بينما العدو يرسم العلمين الصهيوني والأميركي ضوئياً على اسوار القدس… نقول هذا بمعزل عن ردود الافعال الشعبية العربية، هذه التي كمقدمة لآتيها، يسيل الآن الدم في القدس وغزة ورام الله تعبيراً عنها ومجرَّد بدايةً للمتوقَّع منها، والتي إن هي ليست في حسابهم، فلن تكون في مدى غير بعيد بحسبانهم.
الجامعة العربية، ناشدت ترامب عشية اعلانه لقراره ب”لعب دور محايد”! ونحن بانتظار ما ستصدر في بيان اجتماع مجلس وزراء خارجية دولها المزمع من ادانات سمعنا مثلها مراراً في بيانات سابقة، وكذا مؤتمر دول العالم الإسلامي الذي تمت دعوته ولم يعقد بعد. أما العالم، ولنأخذ اوروبا مثالاً، ذلكم لتغنَّى بعض الواهمين ببعض اعتراضاتها احياناً على سياسات، أو حماقات ترامب. لقد لخَّصت السيدة موغريني مواقف اتحادها المتعلقة ب”خطوة آحادية الجانب”، لها “تأثير سلبي” على عملية السلام، وكان أقصى مداها أن ماكرون “يأسف”، وميركل “لا تدعم”، وتيريزا ماي “لا تتفق” مع ما اقدم عليه ترامب… وهذه أمور مما لا يأبه به رجل من مثل ترامب!
قبل هدية ترامب لريفيلين، اصدر مجلس النواب الأميركي بالإجماع قانوناً بقطع المساعدات الأميركية لسلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود تحت الاحتلال ما لم توقف صرف مخصصات أسر الشهداء والأسرى، التي يصفها القانون ب”المكافآت على جرائم العنف”! وتم اقفال مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وذلك ضغطاً ممهداً لجلب فلسطينيي اوسلو للتفاوض انطلاقاً من التسليم سلفاً بأن القدس، و المستعمرات، وعودة اللاجئين، والسيطرة على الأغوار، أو الحدود مع الأردن، قد باتت وراء ظهر المتفاوضين، وتعالوا لنتفاوض حول كيفية ادارة ما خلاها من نتف سكانية متناثرة ومعزولة وحيث لا مانع من تسميتها دولة أو امبراطورية، وإلا نحمّلكم فشل “صفقة القرن” التي لم نطرحها بعد ولم يعقد بازارها!
ليس ما اقدم عليه ترامب، وبالنظر لراهن الحال العربية، هو من غير المتوقَّع، وعلى خطورته، فإن فيه ما يجعلنا نقول رب ضارة نافعة … دفن ترامب بفعلته احبولة “المسيرة السلمية” الكارثية، وأهال التراب على شرك “حل الدولتين”، وشيَّع ما كان يدعى زوراً “النظام العربي” إلى مثواه الأخير، وأجهز بضربة واحدة على أوهام “صفقة القرن”، أو نفَّذها سلفاً على طريقته وكفى نفسه عناء عقد بازارها، فاحرج الملوحين بعروض التطبيع المجّاني في انتظار غيثها، وأزرى بمتذرعي “التمكين” التصالحي في الساحة الفلسطينية…وأخيراً، اسقط فرية “الشرعية الدولية” بمواثيقها وشرائعها وقوانينها، أو الأسس المزعومة المقام عليها ما يدعى “النظام الدولي”، التي لم يحترمها الأقوياء وكانت هراوتهم لقمع الضعفاء، الذين وحدهم من يحترمونها ولم يشفع لهم تمسُّكهم بها…
باختصار قال لعربه وعرب الأمة، أميركا عدوكم الأول، وإذا لم يك بالممكن أن يتم اصطناع الكيان الصهيوني الاستعماري الغازي في بلادكم بدون المشاريع الاستعمارية الغربية، فليس من الممكن تمكينه وابقائه وضمانة استمراره بين ظهرانيكم من دون تعهُّد ذلك من قبل صانعيه…
…رب ضارة نافعة، لعلها الصدمة التي تحتاجها الأمة العربية، خدمة غير مقصودة، منعطف لخلاصها من قبضة الانهزامية وثقافة الاستسلام، وفرصة اتاحتها عدوانيته لانبعاث روح المواجهة وثقافة المقاومة في ربوعها الجريحة.