قصة قصيرة أَلمُتَسَلِّق – مصطفى عبد الفتاح
قصة قصيرة
أَلمُتَسَلِّق
بقلم: مصطفى عبد الفتاح
اختمرت الفكرة في رأسه، قرر أن يمارس حقّه في الوصول إلى قيادة البلد، فبعد أن يأس أهل بلده مِن الديمقراطية الغربيّة، التي جَرَّت عليهم كلَّ موبقات العصر، وويلات الغَرْب، اجتمع أعيان القرية وزُعماء الطوائف والقبائل والحمائل والعائلات والأفخاذ، وقرّروا أنّهم لن يخوضوا الانتخابات الديمقراطية الغربية بعد اليوم حتى لو كانَ القانون يفرضها عليهم.
اقتنع النَّاس أَن الوطن أصبح في مهب الريح تأكله الأحقاد، وتشتعل فيه نيران الفُرقة، لا أحد فيه يعرف الأمان، الأحلام تتحول إلى أوهام، والأفراح تتحوّل الى أحزان، أطفاله ينشؤون على العنف، فلا يقتنون من الألعاب، غير المسدس والطيارة والدبابة والسيف والرمح، وكل ما يخرج منه نار او دخان. الشباب يتباهون بالعضلات، والكبار يعيشون الأحقاد، ضمائرهم مستترة، وأحلامهم مؤجلة.
أصبحَ النَّاسُ يَعْزونَ أيَّ قضية يعانون منها الى الديمقراطية الغربيَّة التي لا طائل منها غير التفرقة والفُرقة بين العائلات وبين الطوائف والحمائل والافراد وتُثير بينهم القلاقل والمشاكل والطوشات التي تؤدي في الكثير مِن الاحيان إلى العنف والإقتتال وحتى إلى القتل إن لزِم الأمر، وتخريب البيوت، وفي ظلّها تنمو الشللية والمحسوبية والمنافع الذَّاتية، ووجد فيها البعض طريقة لسرقة الأموال من جيوب المواطنين، وسيطرة القوي على الضعيف، وسطوة الطوائف والقبائل والحمائل.
في اجتماعهم الجماهيري الرافض للديموقراطية الغربية المزعومة، استعاضوا عنها بديمقراطية عربيّة أصيلة، تُرضي الجميع ولا تُؤدي الى القتال أو الإقتتال فيما بينهم، وتوافق الجميع على أن يجري في القرية مهرجانًا انتخابيًا ديمقراطيًا وسباقًا رياضيًا في اليوم الأخير إلى قمَّة جبل “الديدباء” يقوم فيه المتنافسون باستعراض قُدراتهم وإمكانياتهم الفكرية والجسدية ويتم اختيار أفضل المتنافسين مِن بينهم ليكون زعيمهم.
توافد الناس افرادًا وجماعات، جاءوا من كلّ حَدَبٍ وصوب يحملون راياتهم، ويتلون خطاباتهم، علَّهم يفوزون بالسِّباق ويصلون سدَّة الحكم، تزاحمت الكلمات المنمَّقة والخطب وتعدَّدت المواهب والاتجاهات، وحكماء البلد يسجّلون النّقاط، ويرسمون المَسارات.
نظر “معاوية” الى صورته في المرآة، مدَّ عُنقه إلى الأمام، رفع رأسه إلى الأعلى، وترك لعينيه أن تتفحّص صفحات وجهه، مرّر أصابع يديه العشرة بين خصلات شعره، هزّ رأسه بإعجاب، قرأ خطابه الذي سيلقيه أمام الجموع المحتشدة للمرّة العاشرة، حتى كاد أن يحفظه عن ظهر قلب، طوى الخطاب ووضعه في جيبه، وهو يخاطب نفسه بفرح:
- سأنافس على الزعامة، لن يردعني أحد، لن يكلّفني الكثير، فأنا ما شاء الله طول وعرض وصحة، وعقل ومال، واسم، وأنا رجل مستقيم ومتعلّم، وأنا إنسان طيّب، وأضحك للجميع وأمازحهم، وفوق هذا وذاك فأنا رجل متدين، لا أقطعها فرض، وأقف في الصَّف الأمامي يوم الجمعة، وأقوم بجميع واجباتي الدينية على أكمل وجه والجميع يشهد لي بذلك. وأتمتع بجسم رياضي قوي ومُستعدٌ لمنافسة أقوى وأرشق رياضي في بلدي، فالمتنافسين بالعشرات وأنا أفضلهم، سأخوض التجربة، سأصبح زعيم بلدي الأوحد والجميع سيهتف بإسمي.
وفجأة كمن تذكر شيئا خطيرًا، تغيرت ملامح وجهه، طأطأ رأسه مفكرًا، وراح يقلِّب أفكاره يُمنةً ويسرة، كمن فقد ثقته بنفسه في لحظات، ثم انتفض كمن يطرد من ذاكرته همًا، وراح يهمس لنفسه في لحظة صراحة:
- صحيح أنني لست صاحب مبادئ ومواقف، ورؤى ونظريّات وأفكار، من هذه التي صدَّع الشباب المتحمّس رؤوسنا بها، وصحيح أنه ليس لي تاريخ نِضالي، وليس لي ملف أمني، وليس لي في السّياسة شيء، ولا أفهم بالوطنية كثيرًا، ولم امارس العمل السّياسي يومًا، ولم أُقدم على أيّ عملٍ وطني أو اجتماعي أو سياسي في قريتي، فهذا كلّه هُراء ولا أحد يلتفت إلى ذلك أو يهمه، سأهزمهم جميعًا، وسأكون الزعيم الأوحد.
انتصب كالمارد أمام لجنة التحكيم، وجمهور المحتشدين، ليلقي كلمته العصماء فألهبَت الجماهير المُحتشدة، قال فيها:
- يا أبناء بلدي:
- لا أبحث عن السلطة من أجل السلطة، لأن غاية الحياة هي الوصول إلى الفضيلة، إلى الحياة الحرة الكريمة، فلا أبغي الوصول إلى السلطة الّا من خِلالكم، تعالوا يا إخوتي نحتفي معًا بالاستقامة، والصّدق والأمانة، فبهم تَبني الأمم أمجادها، تعالوا معًا ننبُذ التملّق والخِداع والكذب لأنهم وصفة لهدم الحضارات وتحطيم الآمال وزرع الشكوك والأحقاد، تعالوا يا اخوتي نبني صروح العلم والمعرفة وندشّن للثقافة والمعرفة صروحها ونسكن مقاماتها، بها نحيا ونرفع رؤوسنا وتشمخ كرامتنا بين الأمم، تعالوا معًا نعمل لخير الإنسان أينما كان ونشتغل لرفعة وعلو بلدنا، بدل أن نقضي أوقاتنا بالتفاهات والعواطف الكاذبة ألتي تهدم ولا تبني. لنتعامل بيننا بالعدل وبالسلم وبالخير والمساواة، لتكن لغتُنا لغة حوارٍ ونقاشٍ وجدال منطقي، بدلًا من السفسطة والكلام الفارغ من المعنى والهدف، فنبني بلدًا وشعبًا بدل أن نهدم وطنًا وبيتًا.
صمت جميع الخُطباء، انسحب البعض صامتًا، وراح غيرهم يشكّك بأقواله، أما الجمهور فصفّق له طويلًا، ازدادت ثقته بنفسه، عرف أنَّه كسب ودّهم، رفع يديه ملوحًا، وعدهم أنه سيسير على هدي رسالته إن وصل.
في اليوم الأخير يوم السّباق الرياضي نحو قمة الجبل، حيث يتم سباق رياضي قاس، يتسلق فيه المتنافسون قمة جبل “الديدباء” فيستلم الفائز قيادة البلد ويصبح حاكمها، كان معاوية حاضرًا متحفزًا لاستلام السلطة فكلّ التوقعات تشير اليه.
منذُ الصباح مشى بخطى واثقة نحو الشرق نحو الشّمس إلى قمة الجبل، الجبل
الذي حمَل قُرص الشّمس على خاصرته اليُسرى، بعد أن تعب مِن حمل نور القمر ليلًا على خاصرته اليمنى، فأرسلت خيوطها البيضاء لتستحم بقطرات النّدى العالقة على أطراف الاغصان، وهي تتراقص طربًا, لطرد فلول خيوط الظلام التي اختبأت خلف ظلال أشجار السنديان والسريس والخروب والبلوط التي غطّت سفح الجبل من أخمص قدميه عند عيون الماء الرَّقراقة، التي روت عطش الأهالي سنين طوال وحتّى قمة رأسه المدبّبة أمام “مغارة الأربعين” التي تحمل في جعبتها قصّة تاريخ لم يُكتب فتناقله الآباء والامَّهات عن الأجداد والجدَّات يروونه للأبناء بجمال تناسقي أبدعته الطبيعة في أجمل تجلياتها، كي نعيش نحن لحظات اكتشاف اسرار ذاتنا التي امتزجت بمكنونات الجبل.
إنَّه جبل “الديدباء” ظهير البلد وحاميها منذ آلاف السنين وقد آن الأوان أن يردّوا اليه اعتباره وهيبته ومكانته , على المتنافسين، يتبعهم جماهير الشعب، أن يصِلوا إلى “مغارة الأربعين” الموجودة على قمّة الجبل الشاهق, هذه المغارة تحمل مِن تاريخ القرية الكثير، أربعون فارسًا كانوا هناك يحرسون البلد في انتظار الأعداء القادمين من جوف الجبل من قلب وادي “قانا”, الوادي السحيق القادم من سهل البطوف الممتد عند أطراف الجبل الشّاهق, حيث تصدوا لهم، هناك دارت رحى حرب ضروس، وسالت فيها الدماء، فصبغت الشجر والحجر بلونها، والتصقت ذرات التراب ببعضها وتماسكت حتى أنَّ مياه السيول لم تستطع اختراقها ففاضت المياه إلى السهل حتى حمل الوادي اسمه، وبقي الجبل صامدًا، وبقي الشعب مناضلًا.
دوّى صوت معاوية في أرجاء الجبل، وتردد صداه في أنحاء الوادي، عندما وصل في مقدمة المتنافسين إلى قمة الجبل، إنَّه المتسلّق الأول، والزعيم الاوحد، وفي غمرة نشوته، وصلت الجموع إلى القمّة، تُؤدي يمين الولاء، كان المنظر ساحرًا واللحظة تنتظر التاريخ ليدوّنها، لم يتردد في إطلاق صرخة النصر، بعد أن نظر حوله فرأى الوطن بكلّ جلاله وجماله، يمتد على مدى البصر، فتح ذراعيه ليستقبل نسمات النصر، وضحك حتى النشوة، وجلس على كرسي العرش وقرر ألّا يفارق القمة ابدًا.
في تلك اللَّحظات، كانت الشّمس تبتعد عَن القرية في طريقها إلى الغرب، وكانت خيوط الليل تتسرب من بين اصابعها، ليحيك الزعيم بها قوانين حكمه، وقف الجميع على السَّفح مبهورين بعظمة المكان، وقوة الزعيم، كانت ابصارهم مشدودة نحو الغرب، وينتظرون الغد الاتي مع شروق شمس جديدة، قادمة من الشرق، قادمة من قمة الجبل، تاهوا بين الشرق والغرب، فباتوا على السفح.
10أيلول 2020
ملاحظة: نشرة القصة في مجلة شذا الكرمل، الاتحاد العام للادباء الفلسطينيين الكرمل 48
العدد الثالث، السنة السادسة
أيلول 2020.