(قصة قصيرة لبيو باروخا بمناسبة عيد ميلاده) – ترجمة د. طلعت شاهين
(قصة قصيرة لبيو باروخا بمناسبة عيد ميلاده)
ترجمة د. طلعت شاهين
بيو باروخا إيه نيسي (بالإسبانية: Pío Baroja) كاتب وطبيب إسباني ينتمي إلى جيل 98. وُلد في سان سباستيان، إسبانيا في 28 ديسمبر عام 1872. هو أخو الرسام والكاتب ريكاردو باروخا والكاتبة كارمن باروخا. تخصص في كتابة الأعمال الرروائية بشكل كبير، فيما تميزت أعماله الروائية بوجود بطل رئيسي. وكانت معظم شخصياته كائنات معارضة للمجتمع غير قادرة على التكيّف معه، إلا أنها كانت تصل إلى الهزيمة والاستسلام إلى النظام الذي ترفضه. وتُوفي في مدريد في 30 أكتوبر عام 1956.
-1-
المنظر أسود، قاحل ويسيطر عليه الخراب، مشهد لكابوس ليلة من الحمى، الهواء ثقيل مشبع بالروائح الكريهة، يرتعش كعصب مؤلم.
بين ظلال الليل انتصبت القلعة على قمة إحدى الروابي، مليئة بالأبراج ذات الظلال، وتخرج من النوافذ الصغيرة أبراج صغيرة من الضوء تنعكس ببريق دموي على مياه الخنادق الراكدة.
على السهل الواسع يمكن رؤية مصانع كبيرة لإنتاج القرميد، مداخنها مليئة بألسنة اللهب، تخرج دفعات كبيرة من الدخان، تبدو كثعابين سوداء تصعد ببطء ناشرة حلقاتها وتذيب لونها في السماء المظلمة.
في ورش المصانع، المضاءة بأنوار الأقواس المتوهجة، تعمل أفواج من الرجال المتصببين عرقا، لهم وجوه مخيفة، ملطخة بالفحم، بعضهم يطرق المعدن اللامع على السندان، ليحولوه إلى شرر، آخرون يجرون عربات حديدية ويعبرون المشهد وينظرون دون أن ينطقوا بكلمة واحدة، مثل جميع المفتشين.
البعض، بقضبان خشبية في أيديهم، يغذون الأفران بماكينات ضخمة، فتصرخ الأفران وتعوي وتصفر بقوة جبارة في مواجهة الليلة السوداء المفعمة بالخطر.
خلف نوافذ القلعة المضاءة، تمر ظلال بيضاء بسرعة الأحلام، في داخل القصر، ضوء وحركة وحياة، وفي الخارج حزن وكآبة ومعاناة، وتعب لا ينتهي، في الداخل، المتعة الفانية، وفي الخارج الإحساس النقي.
كان قد أشعل نارا من الحشائش الجافة واستكان ملتفا في عباءة من الخرق، محاولا تدفئة جسده النحيل… كان عجوزا شاحبا وحزينا، منهكا وعاجزا، بدت نظرته الباردة كما لو كانت لا ترى ما تنظر إليه، على فمه ابتسامة حزن مريرة، كل جسده ينضح بالحزن، كل جسده يتنفس الانكسار والانهيار، يبدو على وجهه هم ثقيل، عيناه تتأملان ألسنة اللهب بعمق، وتراقبان بعد ذلك الدخان الذي كان يصعد ويصعد، ثم تتعلق حدقتاه بالسماء السوداء، مفعمة بجزع غير مفهوم.
اقترب ملثمان من الرجل، أحدهما ذو شعر أبيض وخطواته مذبذبة، والآخر أكثر شبابا ونشاطا.
تساءل العجوز:
– ما هذا الطيف؟ أهذا كلب؟
قال الرجل المنهك:
– سيان عندي، إنه أنا.
العجوز: وأنت، من تكون؟
شخص ما: أنا “شخص ما”.
العجوز: أليس لك اسم آخر؟
شخص ما: كل إنسان يسميني كما يريد، بعضهم يسميني رجلا، آخرون يطلقون عليّ “تعاسة”، و أيضا هناك من يناديني حقيرا.
الشاب: ماذا تفعل هنا في هذه الساعة؟
شخص ما: أستريح، لكن إذا كان هذا يضايقكم سوف أذهب.
العجوز: لا، يمكنك أن تظل، البرودة شديدة، لماذا لا تعود؟
شخص ما: إلى أين؟
العجوز: إلى بيتك؟
شخص ما: ليس لي بيت.
الشاب: اعمل وسوف يكون لك بيت.
شخص ما: أعملّ! أنظر إلى ساعدي! ليس بهما غير الجلد والعظام، عضلاتي ضامرة، ويدي مشوهتان، ليست لدي قوة، ولو كانت لدي فلن أعمل، لماذا أعمل؟
الشاب: لتطعم أسرتك، أم ليس لك أسرة؟
شخص ما: كيف ليس لي أسرة، زوجتي ماتت، وبناتي هناك (مشيرا إلى القلعة) كن جميلات، وأبنائي هناك أيضا، إنهم أقوياء ويحرسون القلعة من هجماتنا نحن الفقراء البائسون.
العجوز: قاوم؟ ألا تعرف أن ذلك جريمة؟
شخص ما: لا أقاوم، أصبر.
العجوز: (بعد برهة) ألا تعتقد في الله؟
شخص ما: اعتقدت إلى أبعد حد، أكثر من الآن (مشيرا إلى الشاب) لقد أقنعوني بأن السماء كانت خالية، لقد سمموا معتقداتي.
الشاب: نعم هذا حقيقي، أعطيناك الأمل، لكن لم نقدم لك الحماس، والإنسانية، ألا تعتقد في الإنسانية؟
شخص ما: في ماذا؟ في إنسانيتكم؟ أم في إنسانية ذلك القطيع من الرجال الذين يخدمونكم كدواب الحمل؟
العجوز: ألا تعتقد في الوطن؟
شخص ما: الوطن! نعم. إنه المذبح الذي تضحون أمامه بأبنائنا لنغسل عاركم.
الشاب: ألا تثق في العلم؟
شخص ما: أثقّ! لا. أنا أثق فيما رأيته، والعلم معرفة، إنه معرفة لا اعتقاد، ما أشتاق إليه شيء مثالي.
الشاب: أن تعيش. الحياة من أجل الحياة، وهناك تجد حماسا جديدا.
شخص ما: أن تعيش لتعيش، مسكينة هذه الفكرة، مسكينة، قطرة ماء في مجرى نهر جاف.
الشاب: إذن ماذا تريد؟ ما هي أحلامك؟ تنتظر أن يقدم لك العلم والحياة قوة جديدة، وشبابا جديدا؟
شخص ما: لا، لا أنتظر شيئا من ذلك، ما أتطلع إليه شيء مثالي، الآن سوف ترون، انتم أصحاب القلعة تحتاجون إلى الطعام، و نحن نزودكم به، تحتاجون إلى الملابس، ونحن نحيك لكم أقمشة ثمينة وجميلة، تحتاجون إلى الاستمتاع بنا، فنعطيكم المهرجين، وتحتاجون إلى الاستمتاع بشهواتكم ونزواتكم، فنعطيكم النساء، وتحتاجون إلى حراسة أراضيكم، فنعطيكم الجنود، ومقابل كل هذا ماذا نطلب منكم؟ أنتم الأذكياء، أنتم الصفوة؟ إننا نطلب حلا يخدرنا، أملا يدخل العزاء إلى قلوبنا، نريد شيئا مثاليا.
العجوز: يمكننا أن نطوع ذكاء هذا الرجل. (إلى شخص ما) اسمع يا شخص ما، تعال معنا، إننا لن نخدعك بوعود كاذبة، سوف تعيش في سلام إلى جانبنا، سوف تعيش في هدوء و سكينة…
شخص ما: لا، لا، ما أحتاجه هو شيء مثالي.
الشاب: هيا، سوف تعيش معنا الحياة النشطة القوية، الحياة المليئة بالعواطف، سوف تخطيء في إعصار المدينة الجهنمي المدمر، تماما كتلك الورقة التي تسقط من شجرة، مع أوراق الخريف التي ترقص محمومة في الهواء.
شخص ما: (ناظرا إلى النار) أريد شيئا مثاليا، أريد شيئا مثاليا.
العجوز: تمتع بهدوء الحياة الريفية، تلك الحياة ذات التقاليد الجميلة البسيطة، يمكنك تذوق هدوء المعبد، وروائح البخور التي تتدافع من المباخر الفضية، والاستماع إلى الموسيقى النائمة كأصوات الإله القادر على كل شيء.
شخص ما: أريد شيئا مثاليا! شيئا مثاليا!.
الشاب: سوف تكون لك نفس الحقوق، وذات التفوق…
شخص ما:ا (يقف) لا أريد حقوقا، ولا أريد تفوقا، ولا متعة، أريد شيئا مثاليا أتجه إليه بعيوني المضببة بالحزن، مثالا أعلى أريح فيه روحي الجريحة المتعبة من سخط الحياة، هل لديك هذا؟ لا… إذن دعني، الأفضل أن أظل أتأمل فخامتكم ومتعتكم، أريد أن أجتر المرعى المر لأفكاري، وأن أركز النظر في هذه السماء السوداء، السوداء جدا كأفكاري…
العجوز: إنه مجنون، يجب أن نتركه.
الشاب: نعم، يجب أن ندعه وحاله، إنه مجنون. (يذهبان)
شخص ما: (يركع) آه أيتها الظلال، أيتها القوى الخفية، ألا يوجد شيء مثالي لروح مسكينة ظمآنة كروحي.
-2-
قال “هو”: اسمعني، ولا تخف، لأنك أنت المختار لتحمل كلمتي إلى الناس.
سأل شخص ما:
– من أنت؟ ما اسمك؟
أجاب هو:
– أنا العدالة والإنصاف بالنسبة للبعض، وللبعض الآخر أكون الدمار والموت.
شخص ما: أنت تشدني، عيناك تحرقان الروح، وعلى معطفك أرى دماء كثيرة.
هو: لا تنخدع، إنها دماء ضحاياي و جلادي.
شخص ما: ماذا تريد مني؟
هو: تعال اقترب وأنظر.
شاهد “شخص ما” سهلا واسعا مليئا بالمدن والقرى والكفور، مقامة على حقول من الروث، حيث تهتز جموع من الناس الشبقين السكارى، وأنانيون تعلوهم القذارة والبؤس.
قال هو:
– إنهم رجال، كانوا مسجونين ومقتولين، ولكن لا زال العار والخجل يجللانهم، سوف يكونون أكثر نبلا، وأعظم، وتتحول قلوبهم أكثر نقاء من ذلك الحقير الذي يعيش تحت عبودية الرذيلة والعجز.
أجاب شخص ما:
– لماذا تريني كل هذه الخطايا، والبؤس، ألا أكون أنا أكثر بؤسا بخسارتي.
رد هو:
– أنت جبان، وأناني، ألا يوجد في قلبك ألم أكثر من آلامك الخاصة؟ أنظر أنظر، ولو أنك لا تريد، هذه القرى حيث الأرواح تعتصرها المعاناة كالجذور الجافة، والكرب والحمى يسيطران على كل الأنحاء، أنظر إلى الصغار في الشوارع متروكون للطبيعة، بديلا عن الأم، والنساء مشدودات بالرجال إلى الموت الخلقي، ألم يستيقظ قلبك؟
شخص ما: نعم، لكن بالكراهية لا بالحب.
هو: أنت من أتباعي، سوف تعمل باسمي ولن تخور قواك، هناك تجد رفاقا.
شاهد شخص ما أطيافا داخلية، وورشا ميكانيكية وحجرات طبية، كان هناك رجال لهم نظرة حزينة وساهمة، يعملون جميعا في صمت، لم يكن يجمعهم شيء مشترك، عمل أحدهم عمل الجميع.
قال له مشيرا إلى المصانع:
– هيا الآن، اذهب إلى حيث يوجد الرجال وقص عليهم ما شاهدت.
اختفى “هو” وظل شخص ما محملقا في النار، التي كانت تطلق الشرر، وفي نوافذ القلعة كانت لا تزال الظلال البيضاء تتحرك بطريقة هزلية، وفي السهل كان الرجال يغطيهم العرق، بوجوههم المخيفة الملطخة بالدخان، يغذون الماكينات الضخمة بالفحم، وتعوي تلك الماكينات وتصرخ وتصفر بقوة جبارة في مواجهة الليل الأسود المفعم بالخطر.
أطلق شخص ما البشارة فسقطت الأفكار على الأرواح كبذرة في أرض بكر، ونبتت وأزهرت وسيطر على السهل قلق غريب، اهتزت القلعة من الرعب، تجمع رجال السهل ومن خلفهم كل الفقراء، والمرضى، والداعرات، والبؤساء، وقطاع الطرق المنبوذين، وتسلحوا بالفؤوس والمطارق وقضبان الحديد والأحجار الكبيرة، كونوا سيلا جارفا، وتقدموا باتجاه القلعة يدفعهم الحماس، للإجهاز على المظالم والتعسف و لفرض العدالة بالقوة.
يقود السيل رجال غريبو الأطوار، أناس شاحبون بنظرات حزينة، وعيون محمومة كعيون الشعراء، والمتمردين، يغنون جميعا نشيدا خطيرا ومدويا، كصوت جرس برونزي، إلتحم جيش القلعة مع رجال السهل وانتصر عليهم، فتقاتلوا بالسلاح الأبيض.
كان الفناء تاما، لم يبق منهم سوى طفل صغير، كان شاعرا، يتغنى بأشعار ساطعة كالذهب، كان يتغنى بالمتمردين الموتى، وبالحقد المقدس على المنتصرين، وتنبأ بفجر “قدسي” جديد، كان يلمع بين سحب من نار ودم في مستقبل ليس ببعيد.
المصدر : بروفيل فيسبوك الشاعر الامارتي الكبير محمد أحمد السويدي