قصص من زمن الكورونا – رشاد أبوشاور
1–
امرأتان
وأنا أتهيأ للانطلاق في مشوار المشي الصباحي مستغلا فترة السماح بالخروج من البيت لشراء بعض الحاجيات..تنبهت لهما.
انبثقتا من منعطف الشارع وهما تسيران بخطى متناسقة. كأنني أراهما لأول مرّة . شئ ما جمدني واقفا مستمتعا برؤية كتفيهما شبه المتلاصقين..برأسيهما المائلين قليلاً..بتناسق خطاهما، بتشابههما طولا.. وبالمنديلين الازرقين المنحسرين قليلا عن مقدمة رأسيها..بحيث يتبدى الشعر الأسود غير المصبوغ..وهما تتهامسان وتضحكان بدون صوت.( انطباعاتي هذه تكونت لدي بعد مراقبتي لهما عدة أيام ).
بت حريصا على انتظار إطلالتهما من زاوية نهاية الشارع المتقاطع مع شارع يتجه إلى الشارع العام.
الأسئلة تزداد مع كل صباح: من هما؟ من أين تأتيان؟ أهما توأمان؟ ..صديقتان؟ ما هذا التشابه في اللباس؟ طولهما واحد بلا زيادة ولا نقصان.. لون بشرة وجهيهما متشابه: سمار رائق جذاب.(أحدق بسرعة خاطفة في وجهيهما..فلا تنتبهان لاستغراقهما في الكلام).
صرت فضوليا..معنيا بمراقبة كل شئ فيهما. أرهف سمعي عندما أحاذيهما..علّي ألتقط جملة ما من مناجاتهما اليومية الصباحية المرحة التي لا تنقطع.
ماذ تقولان؟ اتستغيبان زوجيهما؟ أهما متزوجتان؟ هما فوق الثلاثين..ربما!.
تضجان صحة وعافية ونشاطا ومرحا..يعني لا تعانيان من مرض يدفعهما للحرص عل رياضة المشي الصباحية ..بعكسي أنا..فأنا أعاني من السكر والضغط..ولهذا السبب أمشي صباحا..وأحيانا مساء..بحسب الطقس.
أتتمشيان لتتكلما؟ ألا تتكلمان في بيتيهما مع أسرتيهما؟
ما سر تدفقهما بالكلام الذي لا ينقطع..والذي يبدو ممتعا لهما؟!
كم بودي أن أقترب منهما..وأن أحاذيهما، وأسير معهما..و..أصغي لحديثهما الذي يبدو ممتعا. ولكن ماذا يهمهما من رجل فوق السبعين يعاني من الضغط والسكّر..والخوف من الكورونا..ويضع كمامة على فمه وأنفه، ويتمشى كل صباح دون أن يتبادل الكلام مع أحد؟! (هما لا تضعان كمامتين على أنفيهما..وإذا مرتا بجوار أحد ما تلفان طرفي منديليهما حول أنفيهما..ولا تأبهان لانزياحها سريعا).
إنهما مطمئنتان أنهما غير مصابتين..وأنهما لا تعدي واحدتهما الأخرى..وأنهما لا تعديان أحدا.
تنبهت في هذا الصباح أنهما غطتا رأسيهما بمنديلين زهريين فضفاضين..وأنهما ردتا طرفي المنديلين حول أنفيهما وفميهما..وأن ضحكاتهما تنتشر عبر المنديلين، وهو ما جعلني أضحك ضحكة..أسكتها بسرعة عندما أدارتا رأسيهما صوبي، ثم هزتا رأسيهما، واشاحتا عني سريعا وهما تبتعدان..وكأنهما تسخران من متطفل خائف من الكورونا يغطي أنفه وفمه بكمامة سوداء سميكة.. ويتمشى لاهثا.
——————————————-
تنويه: في الشهور الأولى الثلاثة من هجمة covid 19 الكورونا، شغلت نفسي وأنا محظور في البيت..بالكتابة، والقراءة، و..المشي على سطح البناية التي أقيم في إحدى شققها.
*كتبت حكايات، نشرت بعضها، ولم أنشر بعضها. وكتبت يوميات بانطباعاتي عن ما يجري حولي..وأمامي، وما أسمع به..وجميعها ستصدر في كتاب عن منشورات ( دار الشروق – عمان – رام الله) قريبا.
*هذه واحدة من ( القصص) القصيرة والحكايات التي كتبتها…
*أنا كروائي، لم أدر ظهري لكتابة القصة القصيرة، فانا أكتبها منذ عام 1966..وما زلت، وحتى الآن صدرت لي ثماني مجموعات قصصية. *ومنحت جائزة القصة القصيرة (محمود سيف الدين الإيراني) من رابطة الكتاب الأردنيين عام 1996 .