قضيّة موسى الصدر وجلاء الحقيقة؟ – أسعد أبو خليل
عاماً بعد عام، تحيي «حركة أمل» ذكرى «تغييب» موسى الصدر. عاماً بعد عام، تكرّر قيادة الحركة بشخص نبيه برّي مطالبتها السلطات الليبيّة (القذافيّة والحاليّة والمستقبليّة) بضرورة الإعلان عن مصير موسى الصدر. لكن هل الحركة تبالغ في إعلاناتها ومناشدتها ومطالبتها؟ هل هذه نتاج تلك الثقافة الحركيّة التي رفعت شعارات في جنوب لبنان تقول _ تحت صورة نبيه برّي _ «يا ويلنا من بعدك»؟ هل الحركة تعاني من أزمة قيادة غائبة وحاليّة أو واعدة؟
هل الحركة تحتاج إلى قضيّة موسى الصدر كي تبرّر وجودها؟ جذبت قصّة اختفاء موسى الصدر عدداً من الباحثين وكُرّست لها أطروحات جامعيّة، وهناك عدد من الكتب عنه. الليكودي اللبناني، فؤاد عجمي، كتب عنه كتاباً جعله متنفّساً لأحقاده ضد الشعب الفلسطيني. بيتر ثرو وماجد حلاوي كتبا عنه كتابين بالإنكليزيّة، والكل مهتم بملابسات اختفائه. هي قصّة تُروى وإن شاب روايتها الكثير من الخزعبلات والأساطير والمزاعم الدعائيّة.
لو أن موسى الصدر لم يوجد، لكان هناك حاجة لإيجاده. هو صعد في أوّل الستينيات في حقبة كان العنصر الطائفي الشيعي مُغيّباً فيها تماماً. تصارعت الطائفيّات في لبنان ولم يُسمح للعنصر الطائفي الشيعي فيها. لكن الموضوع ليس طائفيّاً فسحب: كانت المرجعيّة الشيعيّة الدينيّة في لبنان تعاني من فراغ هائل بعد وفاة الإمام عبد الحسين شرف الدين. ولم يكن دور شرف الدين دوراً دينيّاً محضاً، كان زعيماً سياسيّاً ومصلحاً اجتماعيّاً ونشط في أعمال الخير. يكفي المدرسة الجعفريّة التي كُنّيت باسمه والتي خلّدته. الدولة اللبنانيّة وزعماء الإقطاع الشيعي تقصّدوا إهمال أهل الجنوب، لكن المدرسة الجعفريّة ساهمت بصورة أساسيّة _ هي والمنح الجامعيّة في دول المعسكر الاشتراكي في ما بعد _ في نهضة الجنوب اللبناني وأهله. لا فضل للدولة اللبنانيّة في أي من ذلك على الإطلاق. كان عبد الحسين شرف الدين ذا هالة عظيمة عند شيعة الجنوب وحتى عند غير الشيعة. كان صديقاً لجدّي وكان «صالون» منزل جدّي في صور يحمل صوراً لجدّي وعمّي أسعد (الذي توفي في سن مبكّرة) وصورة العالم شرف الدين. وكانوا في صور يصفون صفة القرابة بالنسبة إلى «المفتي» (ابنه، محمد جواد) فكان يُقال «ابن المفتي» أو «بنات المُفتي».
وجذب العمل الخيري شرف الدين، بالإضافة إلى زعماء المدينة الميسورين. لكن الزعامات التقليديّة (البائدة) غابت عن أعمال الخير والنفع. لم يترك آل الأسعد أو آل عسيران أو الزين أو غيرهم أي معلم يُقارن بالمدرسة الجعفريّة مثلاً. على العكس، كان كامل الأسعد يخشى من العلم والمتعلّمين، وكان يساوي بين المثقّف والمتعلّم وبين الشيوعي أو البعثي (كانت الشيوعيّة والبعثيّة منتشرة في كل أنحاء الجنوب في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات _ حتى أواخرها). في هذه السياق، ظهر موسى الصدر. لكن الصدر كان ظاهرة سياسيّة أكثر مما كان ظاهرة علمائيّة دينيّة. يتحدّث أتباع الصدر الحاليّون عن «فكر الإمام الصدر»، لكنه لم يترك أثراً فكريّاً أو دينيّاً واحداً، فيما ترك شرف الدين مراجع وكتباً مثّلت تراثاً في المرجعيّة الدينيّة. لكن الصدر كان بارعاً في السياسة وفي التنظيم وفي قراءة الصراعات السياسيّة اللبنانيّة، كما أن له هالة كاريزما عند الناس (وإن لم أرها عندما التقيته في طفولتي).
كانت القيادة السياسيّة التقليديّة عند الشيعة في لبنان مُتنازعة بين آل الأسعد وآل حمادة، وزاد من حدّة الصراع أن صبري حمادة كان متزوّجاً (زواجه الثاني) بشقيقة كامل الأسعد. المصاهرة لم تزد الصراع بين العائلتين إلا حدّة، كما فعلت المصاهرة بين كمال جنبلاط ومي أرسلان. الرجلان تصارعا على رئاسة المجلس في كل فترة الستينيات إلى أن ضمنها الأسعد في وصول عضو تكتّله («الوسط»)، سليمان فرنجيّة إلى سدّة الرئاسة. الصدر صعد في تلك الفترة. سلّم حمادة بقيادة الأسعد في الجنوب، كما سلّم الأسعد بقيادة حمادة في البقاع. تقاسم الإقطاع كان من سمات النزاع بين العائلتين. واحدة تحالفت مع الشهابيّة (احتقر فؤاد شهاب كامل الأسعد) وأخرى تحالفت مع التيّارات اليمينيّة بين الزعماء الموارنة.
عرف موسى الصدر أن عدة عوامل تجتمع كي تسمح ببروز دور له جديد: 1) جمّد الصراع بين الزعامتين أحوال الجنوب والبقاع وتركهم عرضة لمبادرات رمزيّة من قبل الدولة (ومعظمها لم يُنفّذ، مثل «مشروع الليطاني» أو «استصلاح الأراضي» _ يُنصح بمراجعة مقالة جعفر شرف الدين في كشف دور كامل الأسعد في تجميد مشروع الليطاني في مجلة «الشراع»، 30 أيلول، 1991 _ أو «مجلس الجنوب»، الذي حوّله الفساد الأسعدي والأملي في ما بعد إلى «مجلس الجيوب»). 2) افتقر الجنوب والبقاع إلى زعامة دينيّة قويّة. ظهر ذلك عام 1971 عندما زار الإمام الخوئي لبنان وهبّ شيعة لبنان من مختلف المناطق في تظاهرة لفتت أنظار الدولة لأن خمول واستكانة الشيعة كانا فرضيّة رسميّة عند أهل الساسة، وقد رسّختها زعامات الإقطاع في لبنان. ووفاة شرف الدين (بصرف النظر عن الكلام غير الموُثّق الذي قيل عن أنه أوصى بأن يخلفه الصدر بعد لقاء وجيز بينهما في زيارة قصيرة للأخير إلى لبنان في منتصف الخمسينيات) زادت من حاجة مدينة صور _ على الأقل _ لمرجعيّة دينيّة واجتماعيّة. 3) تفاقم حالة الإهمال والإفقار في الجنوب اللبناني والبقاع. 4) تنامي الخطر الإسرائيلي في (وعلى) لبنان. 5) التعبير عن الابتعاد الشعبي عن زعامات الإقطاع في الجنوب والبقاع من خلال ظهور لحركات المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة اللبنانيّة (أو الأحزاب التي انضوت في ما بعد في إطار تلك الحركة). 6) زيادة التوتّر الطائفي في بنية النخب الطائفيّة الحاكمة (الصراع بين الفئة الحاكمة من ملامح إمكانيّة التغيير الثوريّة عند لينين).
عرف الصدر كيف يستفيد من الصراع بين حمادة والأسعد، وقرّر مُبكّراً أن ينحاز إلى قيادة حمادة لأن الأخير كان أسهل في التعامل والتخاطب، وكان منفتحاً أكثر من المُتزمّت والمُتعجرف، كامل الأسعد، الذي ساهمت نواقصه وعيوبه في إنهاء الإقطاع السياسي عند الشيعة قبل اندلاع الحرب الأهليّة. كان المشروع الأوّل عند الصدر فصل التمثيل المذهبي للشيعة وتنظيمه عن باقي المذاهب الإسلاميّة. يُسجّل له، عادة، تأسيسه في عام 1969 للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي توجّس منه الأسعد كثيراً، وكان على حق إذ إنه تحوّل إلى هيئة ساهمت في تشكيل بديل سياسي عن الزعامة الأسعديّة التقليديّة. لكن هل كان قرار الصدر بتشكيل مجلس منفصل عن السنّة قراراً صائباً؟ هل ساهم ذلك في الفرقة بين المسلمين في لبنان؟ ومن المعروف أن القيادة التنظيميّة الدينيّة للمسلمين كانت واحدة قبل ظهور الصدر، وكان مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة مفتياً لكل المسلمين والمسلمات في لبنان.
والصدر كان أبرع في السياسة من مهارته في إنتاج الفكر الديني (ما يُسمّى بـ«مؤلّفات الصدر هي مجموعة خطب ومقالات). عرف كيف يخاطب الناس وكيف يبني لنفسه تأييداً في مدينة صور وضواحيها قبل ان تمتدّ قيادته إلى مناطق أخرى في الجنوب والبقاع. كما انه عرف مُبكّراً ان المال هو «حليب السياسة» كما يقول أهل بوسطن في أميركا. جمع حوله شلّة من رجال الأعمال الشيعة الجدد الذين لم يكونوا يدورون في أفلاك الزعامات الإقطاعيّة التي لم ينتموا إليها: هو استفاد من مالهم في حملاته ومشاريعه وهم طمحوا الى أن يلعبوا دورا سياسيّاً في حال نجاح الصدر في تفتيت القواعد الشعبيّة لزعمات الإقطاع الشيعي. تعرّف إلى كل عائلات الأثرياء في الجنوب، باستثناء تلك العائلات التي كانت محسوبة على كامل الأسعد الذي منع أياً من أنصاره من التعامل مع الصدر، وخصوصاً بعدما لعب الصدر دوراً سياسيّاً بارزاً في انتخابات 1972، ثم في الانتخابات الفرعيّة في النبطيّة في عام 1974، والتي كانت نذير نهاية الزعامة الأسعديّة.
أقام الصدر علاقات وطيدة مبكراً مع النظام السوري، وهذا ما تغفله كل الروايات المُتجدّدة عن سيرة موسى الصدر، وهذا ما يغفله عن قصد الحنين المُصطنع لـ 14 آذار عنه. كان الصدر من أوائل حلفاء النظام السوري الجديد بعد انقلاب حافظ الأسد، ولم يحد مرّة واحدة عن تأييده لسياسات وقرارات وأفعال النظام. كان الصدر أقرب إلى النظام السوري من كلّ حلفائه، باستثناء «منظمّة حزب البعث» في لبنان. ومن المعروف أن الصدر أسدى خدمة سياسيّة كبيرة للنظام عندما قرّر (سياسيّاً وليس من مرجعيّة دينيّة) اعتبار العلويّين اثني عشريّين، وهذا خالف تاريخ المذهبين. لم تكن مهمّة الصدر في بناء حركة سياسيّة سهلة، فهو كان يحارب على جبهتين: جبهة الإقطاع السياسي وجبهة التنافس مع أحزاب الحركة الوطنيّة اللبنانيّة ومنظمّات المقاومة الفلسطينيّة. منذ 1958 عندما سيطرت حركة القوميّين العرب على مدينة صور بوجه السلطة، لم يتوقّف صعود الحركات القوميّة واليساريّة في المدينة، بالرغم من أن تزوير السلطة كان يضمن بقاء الزعامات الإقطاعيّة في الانتخابات النيابيّة (لم يكن دور المُحافظ سريّاً في إدارة التزوير بأوامر من السلطة. وقد لام الأسعد محافظ الجنوب في عام 1974 لأنه لم يقم بواجبه خير قيام). كان التدريب في صفوف المنظمّات الفلسطينيّة طقس عبور للمراهقين في الجنوب اللبناني وكانت الثورة الشبابيّة سائدة.
لا يمكن الحديث عن صعود الصدر من دون ذكر دور جريدة «النهار» وغسّان تويني تحديداً. قرّر تويني أن الصدر هو مسلم مقبول، خلافاً للمسلمين غير المقبولين عنده. تويني وباقي أفراد الطبقة الحاكمة من الطائفة المسيحيّة أرادوا منذ إنشاء الجمهوريّة قولبة وتكوين مُسلم مقبول. المُسلم المقبول هو مثل الأسود المقبول في الولايات المتحدة والذي يصلح لدور الممثّل غير المُستفزّ لعنصره. شفيق الوزّان كان الممثّل المقبول كثيراً عند حزب الكتائب لأنه كان قنوعاً، ينفّذ ويطيع ولا يسأل. عندما قابلته في منتصف الثمانينيات عند إعدادي لأطروحتي، كنتُ أسأله عن سنوات تجربته في الحكم مع أمين الجميّل وعن مختلف القرارات وكان يجيبني: كانوا يتخذون القرارات من دون أخذ مشورتي أو موافقتي. قلتُ له: ولماذا تقبل، ولماذا لم تستقل؟ لم يجب. جريدة «النهار» وجدت في موسى الصدر صورة تختلف عن صورتها النمطيّة السلبيّة عن المُسلم، وخصوصاً عن رجل الدين المُسلم. أذكر في منتصف الثمانينيات أنني سألت السيد محمّد حسين فضل الله عن رأيه في موسى الصدر فأجابني: أنا لم أرتح للظاهرة لأن المارونيّة السياسيّة روّجت له كـ«ستار» (وقال الكلمة الأخيرة بالحرف).
عرف الصدر أن لغة الكفاح المسلّح هي السائدة، فاستعان بالنظام السوري وحركة «فتح» من أجل تنظيم ميليشيا خاصّة به. لكنه لم يوضّح طبيعة مهمّة السلاح، باستثناء «الزينة». كان الصدر ينتقد تقاعس الدولة عن حماية لبنان بوجه العدوان الإسرائيلي المتكرّر، لكنه لم يحدّد طبيعة «حركة أمل»، هل هي سياسيّة أم عسكريّة أم اجتماعيّة؟ فشلت محاولات الصدر لإقامة علاقات ودّ مع كامل الأسعد لأن الأخير لا يتحمّل منافسة من أي نوع. ردّ له الصدر الصاع صاعين في انتخابات النبطيّة الفرعيّة في عام 1974 عندما خسر المرشّح الأسعدي. كانت تلك الانتخابات المدوية فاصلة في تاريخ الجنوب وتاريخ شيعة لبنان. لم يكن بمقدور الأسعد الاستمرار في دور الزعامة من دون فرض من الدولة اللبنانيّة (والسوريّة بعد 1976). لكن نشوب الحرب الأهليّة قوّض من زعامة الأسعد والصدر على حدّ سواء.
كان الصدر قريباً من كمال جنبلاط، وسُمح لـ«حركة أمل» (قبل انطلاق الميليشيا) بالتمثيل في اللقاءات المنتظمة لأحزاب وتنظيمات «الحركة الوطنيّة». هناك مَن لم يرتح لتمثيل «أمل»، وكان هناك اتهامات بتسريب محاضر تلك الاجتماعات إلى أطراف معادية في لبنان. لكن «حركة أمل» بقيت قريبة من أجواء المقاومة الفلسطينيّة و«الحركة الوطنيّة» إلى ما بعد اندلاع الحرب الأهليّة. اندلعت الحرب الأهليّة ولم يكن لـ«أمل» دور يُذكر. تساءل الناس عن مصير الميليشيا التي كان من المُفترض أن تحمي الجنوب. شاركت كل أحزاب الحركة الوطنيّة في الحرب، لكن «أمل» بقيت على الهامش. كان هناك فصائل مُقاتلة في الشيّاح محسوبة على «أمل» (مثل «فتيان علي») لكن أعمالها أحرجت الحركة التي سرعان ما تنصّلت منها.
اضمحلّ دور موسى الصدر في سنوات الحرب. لم يعد له دور يُذكر بعدما طغت الأحزاب المُسلّحة اللبنانيّة والفلسطينيّة في مناطق الجنوب والبقاع. أما عشرات الآلاف الذين حضروا مهرجاناته في 1974 في بعلبك وفي صور، فلعلّه أدرك أن هذا لم يكن جمهوره الحصري، بل كان الجمهور المنضوي في أحزاب «الحركة الوطنيّة» و«المقاومة الفلسطينيّة». أثّرت الحرب على الصعود المطّرد للصدر، وأضرب عن الطعام في 1975 في مسجد العامليّة احتجاجاً على العنف الطاغي. كانت المبادرة غريبة على الثقافة العربيّة والسلوك الثوري السائد آنذاك. لم تلق رهجة أو اهتماماً شعبيّاً. زاره مؤازراً بعض السياسيّين والإعلاميّين، لكن حركته لم تلق تجاوباً شعبيّاً.
لكن التحدّي الأكبر الذي واجه الصدر كان في التعاطي مع التدخّل العسكري السوري في عام 1976. كان الصدر قد تلقّى قبل ذلك انتقادات واسعة في أوساط جمهور الحركة الوطنيّة بسبب «قرار» تسليم النبعة إلى الكتائب، ودارت أحاديث عن صفقات سريّة لم يُعلم عنها شيء. بقي الصدر على تحالفه الوثيق مع النظام السوري، ما عرّض حركته لحملة عنيفة في حزيران 1976 عندما تعرّضت كل الميليشيات اللصيقة بالنظام السوري (مثل «اتحاد قوى الشعب العامل» و«منظمة البعث» و«الصاعقة» _ ظهر حنّا بطحيش، المسؤول في «الصاعقة» على عكازين ليعلن للملأ أنه لاقى معاملة حسنة من قبل حركة «فتح» التي اعتقلته _ وحركة «أمل») إلى هزيمة عسكريّة. تم إغلاق كل مكاتب «أمل» بعد أقل من يوم من القتال، وهذا دليل على حجم الحركة آنذاك. غادر الصدر لبنان إلى سوريا ولم يعد إليه إلا بعدما انتشرت قوّات الردع العربيّة وانضمّت حركته إلى «الجبهة القوميّة»، وكانت بديل النظام السوري من «الحركة الوطنيّة».
لكن عودة الصدر تزامنت مع عوامل أخرى في الميزان: انتهت الحرب ببداية سقوط مشروع «الحركة الوطنيّة». لم تحتفظ «الحركة» ببريقها الثوري، وخصوصاً عندما ورث وليد جنبلاط قيادتها. «التجاوزات» والفساد في صفوف المقاومة الفلسطينيّة، بالإضافة إلى حملات دعائيّة فعّالة من الفريق الإسرائيلي في بيروت الشرقيّة (وخصوصاً من «صوت لبنان» التي كانت تخضع لمُشغّل إسرائيلي مُباشر) قوّضت من صورة الفريق التقدّمي. وكان الصدر يقيم شبكة علاقات عربيّة ساهمت في تعزيز موقعه اللبناني. لكن الصدر «اختفى» في زيارته لليبيا آب 1978. من الملاحظ أن أحداً لا يروي سبب زيارة الصدر لليبيا، وأن أحداً لا يستفيض في الحديث عن علاقة الصدر بالنظام الليبي؟
حملت حركة «أمل» قضيّة تغييب الصدر لسنوات وساهمت في تعزيز دور ونفوذ حركة «أمل» في الجنوب والبقاع. ربّما ذكّر «التغييب» (الكلمة التي استعملها «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» الذي أنشأه الصدر) جمهور الشيعة بغيبة الإمام («المهدي المُنتظر»)، لكن الكلمة فعلت فعلها. شعر جمهور الشيعة في الجنوب بأن مؤامرة حيكت ضد طائفتهم في حقبة كان فيها أهل الجنوب يشكون من سوء إدارة منظمة التحرير للمناطق الخاضعة لنفوذهم في لبنان. وانتصار «الثورة الإيرانيّة» في إيران ساهم أيضاً في صعود حركة «أمل». باتت الحركة هي المنافس الطائفي للفريق اللبناني _ الفلسطيني المنضوي في مشروع المواجهة مع القوّات الانعزاليّة وراعيتها إسرائيل.
لكن «الحقيقة» (لكل طائفة «حقيقتها» الغائبة) كان من المفترض أن تتكشّف بعد سقوط نظام القذّافي. قدّم النظام الجديد (على سوئه) كل التسهيلات إلى الحكومة اللبنانيّة من أجل تقديم الأجوبة. قدّمت الحكومة الليبيّة رواية مُحكمة عن قتله من قبل النظام بعد ساعات من وصوله. هناك في «حركة أمل» من يرفض أن يحسم الموضوع وأن يعلن وفاة الصدر. لكن إلى متى تبقى القضيّة مُعلّقة؟ ومَن يستفيد من عدم إعلان الحقيقة للجمهور؟ ما هي الحقيقة التي لا تزال حركة «أمل» تطالب النظام بها؟ ألسنا نعلم أن النظام الليبي قتله بعد وصوله إلى ليبيا؟ ولماذا توحي قيادة «الحركة» بأن هناك مؤامرة مستمرّة لتغييب الإمام وكأنه لا يزال موجوداً في سجن سرّي في الصحراء الليبيّة؟
قضيّة موسى الصدر وجلاء الحقيقة؟ – أسعد أبو خليل
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)