قطاع غزة بين سلاح البندقية وأنسنة القضية
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
قد ينطلي الأمر على البعض ويصدق التصريحات الإسرائيلية المخادعة، ويصغي السمع إلى دعايتهم المشوهة وإعلامهم المزيف، وحرصهم الكاذب وخوفهم المصطنع، واتصالاتهم المشبوهة وتواصلهم المريب، رغم أن تاريخهم يشهد على جرائمهم، وسجلهم بالكذب حافل وماضيهم بالكره عامر، ولا يوجد ما يدعونا للثقة بهم أو للإيمان بكلامهم والتسليم بوعودهم، وقد جربناهم كثيراً، واكتوينا بنارهم مراراً، وما زلنا نعاني من حصارهم الشديد واعتدائهم المتكرر، وتجنيهم الدائم علينا، ولعل المثل العربي القديم هنا يصدق عليهم وعلينا ويعبر عن حالنا وحالهم أصدق تعبير إذ يقول ” الذي يُجَرِبُ المُجَرب عقلُه مُخرَب”، ونحن قد جربناهم كثيراً، وخبرناهم طويلاً، وعقلنا واعي ويقظ، ومستنيرٌ ورشيد، وليس معطلاً أو خرباً حتى يضحكوا علينا من جديد.
فقد كثرت في الأيام الأخيرة تصريحاتٌ منسوبةٌ إلى مسؤولين سياسيين وأمنيين وعسكريين وإعلاميين، على كل المستويات القيادية العسكرية والسياسية، وباتت تغطي وسائل الإعلام المختلفة، وتنتشر بين المواطنين الفلسطينيين والعرب، وتصل إلى أسماع الغرب وغيرهم، فيما يبدو أنهم يحسنون القول، ويصدقون النصح، ويريدون الخير للفلسطينيين في قطاع غزة، وأنهم يبحثون لهم عن حلولٍ منطقيةٍ ومخارج عملية، وأنهم لا يفكرون فعلياً في التضييق عليهم وحرمانهم من سبل العيش الإنساني الكريم.
ويدعون أنهم يتطلعون إلى التخفيف عنهم وتحسين أحوالهم والنهوض بمقدراتهم الاقتصادية، وتخليصهم من مشاكلهم الاجتماعية، وأزماتهم اليومية، وتوفير أفضل السبل لرعايتهم الصحية وتقديم أفضل الخدمات الطبية لهم، وإعادة بناء ما دُمِّر خلال الحروب الأخيرة، وتيسير مشاريع الاستثمار المحلية والأجنبية، وإدخال المعدات والآليات اللازمة، وتمكين الدول الداعمة والمؤسسات الراغبة في تقديم العون والمساعدة إلى فلسطينيي غزة، ورفع الحصار عنهم، وفتح معبر رفح بصورةٍ دائمةٍ، وتطوير عمل بقية المعابر التجارية ولتنقل الأفراد.
يمني الإسرائيليون قطاع غزة بالكثير من المشاريع، ويعدونهم بتحقيق العديد من أحلامهم، إذ يدرسون فكرة إنشاء جزيرةٍ عائمة قبالة شواطئ قطاع غزة، تشرف عليها وتديرها وترعاها دولٌ صديقة أو فرقٌ مختصة من الأمم المتحدة، وقد وضعوا الكثير من الدراسات والأفكار حول هذا المشروع، وقدموا التصورات الممكنة لتشغيل هذه الجزيرة المفترضة والاستفادة منها إلى أبعد مدى ممكن، في ظل الإجراءات الأمنية الواجب إتباعها، على ألا تقتصر الجزيرة على خدمات النقل والشحن، بل قد تتطور ليكون فيها ميناء للركاب، ومطار صغير للسفر، بحيث تستخدمه شركات طيران خاصة يتم الاتفاق معها، ممن تضمن السلامة الأمنية للإسرائيليين، وتتكفل الالتزام بكل الشروط المطروحة، وتقدم الخدمات الضرورية للسكان.
ويعدونهم بإمداداتٍ غير مقطوعةٍ من الكهرباء التي تولدها الشركات الإسرائيلية، وبوقودٍ دائمٍ للسيارات والآليات وشركة كهرباء غزة، وغازٍ للطهي ومشتقات نفطيةٍ أخرى، وأطعمة ومأكولاتٍ ومنسوجاتٍ وحليبٍ ومشتقات الألبان المختلفة، ويغرونهم بسياراتٍ حديثةٍ وأجهزةٍ متطورة تواكب الحضارة والتقدم، وتشغل الشباب وتملأ أوقاتهم، وتربطهم بالعالم الخارجي عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وبزيارة القدس الشرقية والصلاة في المسجد الأقصى، وأن يكون تعاملهم مع سكان قطاع غزة إنسانياً، يحفظ كرامتهم ويلبي حاجتهم.
لكنهم يشترطون لتقديم هذه الوعود وضمان هذه الالتزامات التي تبدو بالنسبة للفلسطينيين كالأحلام، أن يقبل سكان قطاع غزة بالتخلي عن سلاحهم، وتفكيك معداتهم، وردم أنفاقهم، وتسريح جنودهم، وتسليم برامجهم، وإتلاف أدواتهم ومواد التصنيع الخام التي لديهم، وتحويل معاملهم العسكرية إلى مصانع مدنية، وورش تصنيع السلاح إلى ورش حدادة وخدماتٍ مدنيةٍ، والتوقف التام عن كل أعمال التدريب والتأهيل والحفر والتخزين والتطوير والأبحاث العلمية المتعلقة بتقنية السلاح، وغير ذلك من قائمة المطالب الأمنية الإسرائيلية التي لا تنتهي، والتي ربما تصل إلى المطابخ، فتحصر الأدوات، وتختصر بعضها، وتفقد قيمة بعضها الآخر خصائصها لتصبح عديمة الفائدة وقليلة النفع.
ويريد العدو من المقاومة في قطاع غزة أن تمتنع عن ملاحقة العملاء والجواسيس، وأن تتوقف عن مطاردتهم ومعاقبتهم، وأن تفرج عمن هو معتقلٌ في سجونها، وألا تعتبر تعاونهم معها جريمة، وتخابرهم وإياها جاسوسية، وعليها أن تتعهد بضمان أمنهم وسلامتهم، وعدم المساس بحياتهم أو تعكير صفو عيشهم، ولعلهم يتطلعون أيضاً إلى عودة العملاء الفارين والجواسيس الهاربين، وتقديم كامل الضمانات لهم بعدم المساس بهم أو تهديدهم، بل والعفو عنهم وتأمينهم بين أهلهم وفي أحيائهم، ومعاقبة كل من يحاول إيذاءهم أو الاعتداء عليهم، في الوقت الذي تنشط هي بينهم، فتشغلهم لصالحها، وتجند آخرين للعمل معها.
يتصدر القادة العسكريون وكبار المسؤولين الأمنيين الدفاع عن هذه الأفكار والترويج لها، ولا يقتصر تبنيها على بعض الوزراء مثل إسرائيل كاتس، بل إن أغلب أعضاء المجلس الوزاري الأمني المصغر “الكابينت” يؤمن بها ويدعو إليها، ويرى أن فيها خلاصاً من قطاع غزة، وانعتاقاً من أزماته ومشاكله التي لا تنفجر إلا في وجهه، ولا تتعقد إلا أمامه، ولا يكون مسؤولاً عن خلق حلولٍ لها غيره، إلا أن وزير حربهم أفيغودور ليبرمان يصر على أن يسبق أي عطاء، وترتبط أي تسهيلات بأن يصبح قطاع غزة كله منطقة آمنة مسالمة، لا سلاح فيها ولا خطر منها، فلا تهدد عمقاً ولا تقلق جواراً.
يتوقع العدو الإسرائيلي أن يقبل قطاع غزة بشروطهم، وأن يلهث وراء رغبتهم، ويستجدي للحصول على وعودهم والظفر بها، وأن يتسابق لتنفيذ شروطه والالتزام بحدوده، وكأنه ما كان يقاتل إلا من أجل رفاهيته، وما قاوم إلا ليحصل على رغيف الخبز، وليستمتع بالكهرباء ويستجم على البحر، ويسكن في بيوتٍ فارهةٍ وشققٍ جميلةٍ، وما علم أنه حمل السلاح وقاوم إلا ليحرر أرضه، ويستعيد حقه، ويرفع أسوار وطنه، ويعلي في السماء أعلام بلده، وأنه قدم آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى والأسرى، وخاض حروباً وتعرض لاعتداءاتٍ عدوانيةٍ همجيةٍ، ليعيش شعبه في كرامةٍ، ولترفع أمته رأسها بعزةٍ وإباءٍ وشممٍ.
لكن العدو الإسرائيلي يعرف يقيناً أن قطاع غزة بدون سلاحه سيكون ضعيفاً هزيلاً مسكيناً جائعاً متسولاً، وسيكون مطيةً سهلةً، ومفشة خلقٍ دائمةً، ولن يصغي إليه أحد، ولن تهتم به دولة، وسيكون أمام العدو أرضاً رخوةً، وسهلاً منبسطاً يعبره متى شاء، ويسير فيه سيراً هيناً يقطعه كسكين في الزبد الطري، إذ لا مقاومة دون سلاح، ولا صمود من غير قدرات، ولا شئ يخيف العدو ويردعه غير القوة، إذ ما توقف عن عربداته، وما امتنع عن غزواته لولا أن قطاع غزة مسلحٌ وقوي، وعنده ما يوجع به، ولديه ما يقتل به، ولهذا فإنه لن يتخلى عن سلاحه، ولن يخلع بزته العسكرية، ولن يسمح لعدوٍ أن يدوس كرامته، ويسحق هامته.