قلب الذئب رواية شجيّة عن الحب..والوطن الممزّق – رشاد أبوشاور
عرف ماجد أبوغوش شاعرا، لكنه ينتقل لكتابة الرواية، لأنها تمكنه من بّث ألمه، وغضبه، وحزنه، وتمكنه عبر فصولها من التنقل في أرجاء وطنه المحتل عام 48 والمحتل عام 67…
كثيرون هم الشعراء الفلسطينيون الذين ( جمعوا) بين الشعر والرواية، ومنهم من اختار الرواية، ويكاد يقلع عن كتابة الشعر، وما هذا بغريب، فنحن في زمن ازدهار الرواية…
ماجد أبوغوش شاعر فلسطيني يقيم في رام الله، انتماؤه ( شيوعي)، وهو في روايته ( قلب الذئب) يتنقل بالقارئ بين مدن فلسطين المحتلة، وبخاصة أشهرها: القدس درتها، وشقيقاتها: حيفا..وعكا..وغيرهما، وبينها وفيها يعيث الاحتلال قهرا وتنكيلاً وعدوانية على أهلها الفلسطينيين، ويعبث بمعالمها.
رواية ( شاعرية) بسيطة، عميقة الشجن واللوعة، كتبها معايش يكابد عدوانية الاحتلال مع شعبه في( كل) وطنه..فلسطين.
يهدي ماجد أبوغوش روايته لرفيق مناضل غائب – حاضر، هو: نعيم الغول، الذي نعرف أن آثاره اختفت أثناء حرب 1982 على لبنان، وأدّت إلى ( رحيل ) الثورة الفلسطينية، ومن بعد إلى مذبحة صبرا وشاتيلا…
تبدأ الرواية بسفر بطلها من رام الله إلى القدس، حيث سيكتب عن أمكنتها ومعالمها، ووصوله بعد ساعتين من المعاناة بسبب حاجز قلندية الاحتلالي، الذي يمتهن كرامة الفلسطينيين، وينكّد عليهم، فيقضون ساعتين لبلوغ القدس، في طريق يمكن أن توصلهم في عشرين دقيقة.
ينبهه شاب يجلس بجواره إلى وصول القدس، مخاطبا إيّاه: وصلنا يا خال..فيهبط، ويتجه إلى مقهى لشرب فنجان قهوة، وإذ هو متشاغل في تأمل بعض معالم القدس تباغته ( رفيقة): ها أنت في ديارنا..ونتعرف بها، فهي ( لولو)..وهي مصابة بالسرطان، وبعد الترحيب ، وبحوار رشيق يكشف عن بعض جوانب الشخصيتين..تسأل عن مؤتمر الحزب، فيجيبها( الرفيق) ب: لا أعرف يا رفيقة إن كان بناءً أم إعادة ترميم…
بهذه الإجابة المتبرمة نعرف أنه غير مرتاح لأحوال الحزب..والتي يعرفنا ناقدا فيما بعد بأسباب غضبه وقهره من ترديها.
ثم يمضي إلى القدس، ويتجول بالقارئ في أرجائها، لا كدليل سياحي، أو منبهر بمعالمها الدينية – التي يحترمها- ولكن كفلسطيني مسكون دائما بعراقتها، وبأنها لؤلؤة فلسطين منذ الأزل.
المدن بأمكنتها حاضرة في الرواية، بشوارعها، وروائحها، بجغرافيتها وتاريخها..وناسها، وبحرها..وسمكها بالتأكيد الذي يتغنّى به الفلسطينيون، ويتلذذون به.
لكن الأمكنة ليست فارغة، وليست مجرّد بيوت وشوارع..إنها ناس، والرواية المسرودة بضمير الأنا تدخلنا إلى حياة هؤلاء الناس في عمق الوطن، من خلال حكاية الحب بين الشابة سلمى و..( الكهل) المثقل بالحزن، ومعاناة التجربة عبود الصاحي.
في الحراكات الأسبوعية التعرفيّة على( البلاد)، وبينما كان عبود في الحافلة، تضطر سلمى، عندما لا تجد مكانا خاليا، للجلوس بجواره..ويتعارفان بحوار رشيق سلس لا افتعال فيه، فهي لديها فكرة عنه هو( الكاتب)، وهي تعرفه بنفسها فهي تدرس الفنون المسرحية في القدس.. وأسرتها تقيم في عكا.
هي من داخل فلسطين، وهو ابن مخيم ( قدورة) جار رام الله، هو شيوعي يتألم من أوضاع الحزب..وهي ابنة مناضل شيوعي..وعائلة طيبة منفتحة.
قصص الحب تحدث دائما بالمصادفة، ولا غرابة أن تنسج قصة حب بين سلمى وعبود، وتتعمق وتتطور من خلال التجربة التي تقع لهما..ورغم فارق العمر.
يزور عبود مع سلمى أسرتها في عكا..وترحب به الأم التي تعد وليمة سمك من بحر فلسطين، وفي طريق العودة تنشغل سلمى بالالتفات إليه ، وهي تقود السيارة، ف..يقع حادث سير يتسبب لها بكسور في ساقيها..يكاد يتسبب لها بالشلل.. وتضطر للمكوث في البيت.
عبود يعود إليها في عكا، ويقف معها، ويشعرها بأنه لن يتخلّى عنها مهما حدث لها..وعنده كل الحق بهذا الإخلاص المبرر لفتاة جددت روحه، ونشطت قلبه، وأعادته للحياة من جديد بعد أن أدار ظهره للعلاقات العابرة المملة..وما عاد يتعامل مع النسا إلاّ كرفيقات، أو بنات، أو أخوات…
عبود الصاحي يزور المدن الفلسطينية لأنه يشتاق لها، ويحبها، ويرتاح للتمتع بمشاهدة بحرها، ولذا يصعد في الحافلة المتجهة إلى يافا..لا لشئن إلا ليشرب فنجان قهوة ويدخن سكائره على الشاطئ، ولأن الاحتلال ( حاضر) في كل فلسطين من بحرها لنهرها، فإن داورية تعترض سبيله لأنها شكت به..ويرّد على أسئلتهم نشئ من التحدي، ثم ينتهي الأمر بتركهم له في حال سبيله…
عبود معتقل سابق، وغالبا ما يعتقل الاحتلال الفلسطينيين والفلسطينيات..ودون مبرر، فالاحتلال يحقد عليهم لأنهم راسخون في فلسطينهم، ويواصلون الحياة ..ويبدعونها.
يقول عبود لنفسه: لو كانت عندي إبنة لكانت بعمرها…( ص 37)
سلمى هي التي تقود حكاية الحب، وتمضي بها، رغم تردد عبود..والحكاية تمضي..والتردد يخفت ..والحب يجدد نبض قلب عبود…
ولأن حكايات الحب تُعترض دائما بما ينكّد عليها، فإن عبود يصاب بسرطان الدم..ولكن سلمى لا تتخلى عنه، وهو بالحب يستقوي على المرض، ويقرر انتصار عليه …
لماذا السرطان حاضر في الرواية؟ ألهذا علاقة بالاحتلال؟
نعم، فقد قرأت دراسة حول السرطان يقول فيها كاتبها بأن القهر والاضطهاد تسبب السرطان..وهذه موجودة في( كل) فلسطين، ومسببها هو : الاحتلال…
عبود المثقل بالقهر من الاحتلال، ومن تحوّل الحزب إلى مؤسسة للتوظيف في مؤسسات السلطة، وتخليه عن دوره، وتراجع حضوره، المفتقد لأصدقائه المناضلين الغائبين..عبود يواصل الحياة مجددا نبض قلبه بحب يقويه، ويعمق تشبثه بالحياة…
والرواية لا تنتهي، فهي ليست رواية فرد يجد نفسه بعد تيه، ولكنها رواية فرد مثقف يجدد صلابته بحب فتاة من هناك..من عمق فلسطين، رغم فارق العمر…
هذه الرواية الرشيقة الأنيقة اللطيفة تصل إلى نفس القارئ بسلاسة، وتنقل له حزن، وقلق، وألم..وحب الفلسطينيين لوطنهم.. لمدنهم، لبحرهم..لوعود الحياة بأن يكون وطنهم لهم..كاملاً من بحر يافا وحيفا وعكا..حتى النهر، وأقصى ذرة رمل في قطاع غزة.
هل أقلع ماجد أبوغوش عن كتابة الشعر وتحوّل إلى الرواية؟
لا، ففي روايته غزارة شعرية ..تتشابه مع شعره البسيط الذي يصل إلى القلب بعفوية وتلقائية..لأنه شعر لا يدّعي، ولا يتفذلك، تماما كشخصية ماجد أبوغوش التي نعرفها بوضوحها وطيبتها ونبلها.