قمم الرياض على قياس دونالد ترامب – منير شفيق
يقصد من هذا العنوان القول أن قمم الرياض الثلاث: القمة الأمريكية- السعودية، والقمة الأمريكية- الخليجية، والقمة الأمريكية- الإسلامية، عقدت تحت قيادة ترامب وزعامته ورغباته.
كان من المفترض، كما جرى العرف ما بين رؤوس الدول أن تكون زيارة ترامب للسعودية زيارة رسمية، وقمتها ثنائية أمريكية- سعودية فقط. ولكن ترامب أرادها أن تكون، في الإعلان، زيارة رسمية للسعودية، أما في الواقع فعقد ثلاث قمم فيها. وقد استدعى إليها، بالإضافة إلى الملك السعودي 36 رئيس دولة و6 رؤساء حكومات عربية وإسلامية. فأصبح لدينا مضيف وصاحب دعوة هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الناحية العلمية والواقعية والتنفيذية. ولكي تتأكد هذه المعادلة ترجمت في لحظة نزول ترامب من طائرته باصطحاب الملك سلمان بسيارته فيما العادة كانت أن يصحب الملك السعودي ضيفه بسيارته الخاصة. فبدلا من أن تلاحظ هذه المعادلة مقلوبة على رأسها، منذ الإشارة الأولى، علقت الصحف السعودية عليها بأنها كسرا للبروتوكول السعودي مما يدل على حرارة الضيافة فيما معناها الحقيقي إهانة للبروتوكول السعودي، وحالة خضوع غير لائقة لعنجهية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
أما أن تعقد ثلاث قمم في يومين، ويُستدعى 37 رئيس دولة عربية وإسلامية وست رؤساء حكومات، إلى الرياض للاحتفاء بالرئيس الأمريكي، وللقاء معه بضع دقائق للسلام والمجاملة، فأمر لا يليق، بكل المقاييس، في العلاقات ما بين الرؤساء، أو في عقد المؤتمرات، ناهيك عن عدم لياقته بما يتمتع به كل رئيس دولة في بلده من هيبة وتعظيم وما يعلنه إعلامه من نديّة وعزة واستقلالية وتفوّق. فنحن هنا أمام منظر مُهين. ثم لا حاجة إلى القول ومَنْ هذا الرئيس الذي يستحق أن يُحتفى به؟ وهو الذي لم ينجز إنجازا واحدا لبلاده أو في الخارج سواء أكان عسكريا أم سياسيا. فما هو بروزقلت ولا أيزنهاور ولا هو ترومان ولا كينيدي. فسمعته في أثناء حملته الانتخابية مزيج من السطحية والمسخرة فضلا عن عصبية عنصرية ضدّ العرب والمسلمين.
أما خلال المئة يوم من رئاسته فقد قوبِل بمعارضة شعبية داخلية واسعة، وبنقد لا مثيلَ له من الصحافة والإعلام. والأهم لم يتبرأ بعد من خلال التحقيقات التي قد تودي به إلى الاستقالة. فماذا سيفعل أو يقول المشاركون في القمم الثلاثة إذا ما أسفرت التحقيقات عن هذه النتيجة المروّعة؟ ولهذا فإن من الكياسة لكل من سيتناول استراتيجية إدارة ترامب وسياساته المستقبلية في التحليل أن يستدرك بالقول: “هذا إذا أَفلت من التهم الموجهة إليه واستمر رئيسا”.
ولهذا فإن من الضروري الاستدراك هنا بالقول: “إذا أَفلت من التهم الموجهة إليه واستمر رئيسا”. وذلك قبل الخوض في تحليل القمم الثلاث، والمرور بزيارته إلى الكيان الصهيوني الذي اغتصب فلسطين وشرد ثلثي شعبها منذ 1948 وهو يُمعن في استيطان الضفة الغربية وتهويد القدس.
إن السبب الأول الذي دعا دونالد ترامب أن يختار الرياض مكان القاهرة لزيارته الأولى وعقد القمم الثلاث فيها يرجع إلى البعد المالي- (النهب المالي) الذي حصل عليه، بطريقة ابتزازية مفضوحة من السعودية بلغ 350 مليار دولار، وهذه مجرد بداية طريق الابتزاز. فضلا عن مئة مليون دولار “مساعدة” خيرية لجمعية تديرها ابنته إيفانكا وكانت النجم الثاني بعد “الدادي الرئيس” في الوفد الأمريكي الزائر. فالعودة بمبلغ 350 مليار دولار إلى الولايات المتحدة. (ويقال أن المبلغ سيصل إلى خمسمئة مليار)، فضلا عن مغزى هرولة زعماء مؤتمر القمتين الثانية والثالثة للقائه حيث يخدم بدوره الهدف الداخلي الأمريكي أيضا. ألا وهو محاولة امتصاص الأزمة التي يواجهها ترامب مع المحقق الأمريكي والرأي العام الأمريكي بسبب علاقة روسيا بحملته الانتخابية. الأمر الذي يُعّرضه إذا ما قام الدليل القاطع على التهمة لخطر الاستقالة.
فهل هنالك ما هو أهم لديه في هذه اللحظات من أن يبقى بالسلطة وينجو من تهمة خطيرة تمس في الصميم وطنيته الأمريكية؟ أما تركيزه ضد إيران وحزب الله وحماس فهو في المرتبة الثانية قياسا بالهم الداخلي بالنسبة إلى دونالد ترامب.
أما البعد الثاني الذي يحتاج إلى تحليل (أو تفسير) فالمتعلق بالاهتمام السعودي بزيارة دونالد ترامب إلى حد إعلان البيعة الكاملة له. وهو ما عبّر عنه كل ما جرى خلال الزيارة والقمم الثلاث من مواقف وصولا إلى أصغر التفاصيل. لعل الكثيرين ممن تعاطوا بقراءة السياسات السعودية خلال السبع سنوات الماضية، وعلى التحديد بعد سقوط نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي في مطلع 2011، لم يلحظوا مستوى القلق الذي عاشته القيادات السعودية على بقاء النظام السعودي، والذي بلغ أعلى مداه بعد أن سيطر الحوثي وعلي صالح على اليمن بأسره. فمن جهة انهار “محور الاعتدال العربي”، ومن جهة ثانية حدثت متغيرات في موازين القوى عالميا وإقليميا وعربيا هزت معادلات ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية ومعادلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة أيضا، أما من الجهة الثالثة ما عبّرت عنه سياسات إدارة أوباما من تخل، عمليا، عن تعهد حماية النظام السعودي الذي عُقد بين أمريكا والسعودية في لقاء روزفلت-عبد العزيز آل سعود عام 1945، واستمر ساري المفعول حتى 2011.
من هنا يُفهَم لماذا وصل الموقف السعودي إلى ما يشبه البيعة الكاملة لدونالد ترامب وصولا إلى تلبية كل ما يمكن أن يطلبه منها ماليا وسياسيا. وذلك بعد أن أعلن عودة أمريكا لبسط حمايتها لحلفائها التقليديين والمستجدين. أما اعتباره بأن عودة الحماية مشروطة بالدفع عدا ونقدا، وبمشاريع استثمارية، مقابل ذلك، كما الإسهام في ما يطلب منها من مساعدة عسكرية، فهو أسهل ما يطلب من السعودية. لأنها مستعدة لدفع أضعاف المبلغ الذي أعلن عنه في الزيارة مقابل تلك الحماية. والأخطر ما قد يطلبه ترامب منها على حساب القضية الفلسطينية والعلاقة بالعدو الصهيوني لأن ما من شيء أغلى من بقاء النظام وحمايته.
يلحظ حتى الآن أن إدارة ترامب لم تبلور بعد، بصورة قاطعة، أولويات استراتيجيتها العالمية، ولا سيما إزاء روسيا والصين. وهما الدولتان القادرتان على منافسة زعامتها الدولية عسكريا وسياسيا (روسيا)، واقتصاديا وعسكريا (الصين). وهو ما تخبطت به (فقدان استراتيجية “صحيحة”) إدارات كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما. وأدى إلى ما وصلت إليه أمريكا في عهد أوباما من إرباك وتردد وضعف وتراجع في سيطرتها العالمية ولا سيما في منطقتنا العربية- التركية- الإيرانية.
على أن زيارة ترامب للرياض وما عقده من قمم ثلاث، وما أعلنه قبيل الزيارة وفي أثنائها، وفي لقائه مع نتنياهو، ولا سيما إعلانه المحافظة على حلفاء أمريكا التقليديين وإضافة ما يستجد من حلفاء، وما أشار إليه من شروط مقابل الحماية، ثم ما نوّه عنه في الموضوع الفلسطيني وعداء لإيران وحزب الله وحماس، يشكل بلورة استراتيجية أمريكية إقليمية تختلف اختلافا نوعيا عن سياسات إدارة أوباما خلال الثماني سنوات الماضية. وهي السياسات التي عزلت أمريكا عن حلفائها التقليديين وتركتهم في حالة قلق على مصائرهم وفي المقدمة تركها لزعماء دول محور الاعتدال العربي لقلع شوكهم بأيديهم.
الأمر الذي يعني من جهة ثانية ضرورة التنبه إلى ما قد ينتظر القضية الفلسطينية من خطر التصفية مع إعلان ترامب عن طموحه لعقد صفقة تاريخية فلسطينية- عربية- صهيونية- أمريكية حول القضية الفلسطينية. وذلك مع خطورة تعهداته لنتنياهو بالتماهي التام مع سياساته في أثناء زيارته له ولمدينة بيت لحم. ولهذا لم يرمِ حتى بفتات من المائدة لمحمود عباس ولو ذرا للرماد في العيون. حقا “مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ/ ما لجُرْح بمَيّت إيلامُ” وهنا موت الضمير. ولكن الأخطر والأسوأ هو قرار محمود عباس بفتح معركة كبرى ضد قطاع غزة. وهو قرار يتوافق مع ترامب إن لم يكن بطلب منه.
طبعا يجب أن يُلحَظ أن السبب وراء هذا التماهي والتهالك الذي أبداه ترامب نحو نتنياهو، وهو المتغطرس عادة، يرجع بنا إلى أولويته في الإفلات من أزمته الداخلية على أمل أن يساعده اللوبي الصهيوني الأمريكي إن لم يكن كله فبعضه في الأقل.
وأخيرا يمكن القول أن زيارة الرياض والقمم الثلاثة والتي هي مع زيارة نتنياهو أعطت دفعا لدونالد ترامب في معركته الداخلية. ولكنها حملت أيضا توجها لإدارة ترامب باستعادة دور الهيمنة الأمريكية على الحلفاء التقليديين. أما من جهة أخرى فيجب أن يُلحَظ بأن انعقاد المؤتمرات الثلاثة في يومين قد أخذ شكلا متعجلا ومرتجلا ومظهريا ومعنويا أكثر منه وضعا لأسس تحالف جديد أو تشكل محور جديد. ولكن هذا لا يعني أنه لا يمهد لمرحلة جديدة ستحاول فيها أمريكا تشكيل حلف جديد.
على أن هذا الحلف الجديد سيظل حبرا على ورق ما لم تدخل مصر فيه قلبا وقالبا. وتصبح قيادته العربية. وتُقر لها السعودية بذلك. علما أن مصر السيسي حتى الآن تضع قدما هنا وقدما هناك في علاقاتها بالسعودية. ومن ثم فإن موقف مصر ودورها في أي تحالف يريده ترامب سيقرر مصيره ومدى جديته أو احتمالات فعاليته. علما أن إدارة ترامب تدرك هذه الإشكالية وتعمل لإعطاء مصر ذلك الدور.
وبكلمة: ما زال ترامب في المربع الأول، وكل شيء يتوقف على وضعه الداخلي، كما على ما سيتخذ من سياسات لاحقا. ولكن “وجهُهُ ليس وجه” من يستطيع “إخراج الزير من البير”. فالرغبات شيء، وموازين القوى شيء آخر.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الصفصاف وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً