كان الرهان طوال ربع قرن رهانا بين الختيار والحكيم – زكريا محمد
( اسمحوا لي ان أعيد نشرها في ذكرى استشهاد عرفات. مع أنني لو أردت أن أعيد كتابتها من جديد فسوف أعدل فيها. لكنني ما زلت متمسكا بالجوهري فيها)
علي أن أعترف للحكيم
علي أن أقدم له اعتذاري.
فقد وقفت في الصف المعاكس له. وقفت مع أخصامه، وحاربت فكرته. وأظن أن أخصامه كانوا هم المخطئين، وأنني كنت مخطئا معهم.
كان الجدال يدور حول البرنامج المرحلي، وحول الدولة المستقلة، أو حول (السلطة الوطنية المستقلة) يومها. لم يكن الحكيم مقتنعا بهذا البرنامج. وحين أرغم على الاقتراب منه، لم يكن ذلك بقناعة كافية.
فكرة الحكيم كانت كما يلي:
لا يمكن قيام دولة فلسطينية مستقلة على الضفة والقطاع في ظل موازين القوى الحالية. هذا وهم. شروط قيام دولة مستقلة تعادل شروط هزيمة إسرائيل تقريبا. لذا من الخطر إيهام الناس أن بالإمكان الحصول على دولة فلسطينية في المدى المنظور.
في أوائل الثمانينات وقفت مع أخصامه، مع الذين رفعوا شعار السلطة الوطنية المستقلة، وراية البرنامج المرحلي.
الآن، أعترف أن هذا البرنامج وهذا الشعار دفعانا للوصول إلى هنا. كأن الشعار والبرنامج حيلة لإيصالنا إلى هنا، إلى المأزق الحالي.
لم تكن المشكلة في الشعار. كانت في حساب موازين القوى التي ستنتجه.
الحكيم كان يقول أنها غير متوفرة، وأنها لن تتوفر قريبا. لذا فلا داعي للكذب على الناس. وقد ثبت أنه الأصح في هذه النقطة.
كان يراها بعيدة، ويرونها قريبة.
وكانوا مخطئين.
لكنهم لم يعترفوا بخطئهم. بدل ان يعترفوا به قلصوا من مطالبهم. فبدل الدولة المستقلة، أو (السلطة الوطنية المقاتلة)، كما كانت تدعى تلك الأيام، حصلنا على (سلطة الحكم الذاتي المحدود). سلطة تحت الاحتلال، ولا تستطيع أن تعيش إلا إذا قدمت له الخدمات.
لم تكن موازين القوى لتعطي دولة مستقلة. أقصى ما كانت تعطيه هو (سلطة حكم ذاتي محدود) حتى عبر المحاولات الجبارة الرهيبة لياسر عرفات، الختيار.
إرادة الختيار وشوقه لم يكونا كافيين لتغيير موازين القوى.
وأظن أن الختيار قبل موته مسموما كان قد بدأ يعي شيئا مما أصر عليه الحكيم. كما أظن أن الحكيم أدرك القوة الهائلة لإرادة الختيار، التي كانت تريد تحقيق الدولة رغم اختلال موازين القوى.
كل واحد منهما كان يرى ما لدى الآخر.
كان الرهان طوال ربع قرن رهانا بين الختيار والحكيم.
وعلي أن أعترف أن رهان الحكيم قد انتصر: لا يوجد مجال لقيام دولة فلسطينية مستقلة في ظل موازين القوى السائدة.
وكتأكيد على هذين الخيارين عبر الختيار الجسر، ورفض الحكيم عبوره.
لكن عبور الختيار انتهى بموته مسموما. لقد قتل بالسم، وقتل معه وهم الدولة المستقلة بموازين القوى الحالية.
لقد سار الختيار في الطريق إلى نهايته. اكتشفه حتى آخر سنتمتر منه. وصل إلى الصخر، كما يقال في الحفريات الآثارية. وحين تصل إلى الصخر ترمي المعول والفرشاة. لكن الختيار ذا الإرادة الحديدية لم يكن قادرا على رمي المعول. كان ينتظر وقتا أفضل.
ولم يمنحوه إياه.
في لحظة ما كنا نرى، نحن المسكونين بالتاريخ، أن الختيار هو معاوية، وأن الحكيم هو علي، لكن عبر تنافس شريف وبلا دماء. الختيار سياسي واقعي وسيحصل على شيء لنا. أما الحكيم فنقدر له سعة قلبه وثباته على الحق، لكنه مجرد شاعر لا غير.
ووقفت أنا مع السياسي ضد الشاعر.
مع معاوية ضد علي.
مع الختيار ضد الحكيم.
أنا أعتذر للحكيم عن ذلك.
كان موقفي خاطئا.
كنت أنا والختيار مخطئين.
وكان الحكيم أقرب إلى الصحة.
وأقول في نفسي الآن: من الذي كان شاعرا في الحقيقة، الحكيم أم الختيار؟ ومن الذي كان قريبا من علي منهما؟
أميل الآن إلى ان أقول انه الختيار. لقد سار وراء عاطفته، وراء شوقه. في حين كان الحكيم حكيما أكثر منه شاعرا.
بين رهاني الختيار والحكيم أمضيت عمري
بين رهانهما جرى الفلسطينيون طوال عقود
وكفرد، كمراقب، كمشارك، أميل إلى ان أقول أن رهان الحكيم كان أصدق وأعمق.
الرحمة للختيار الذي قضي جائعا عطشا محاصرا كحسين كربلاء
والرحمة للحكيم الذي مات منفيا
المحاصر والمنفي… هذا هو مختصر تاريخنا طوال عقود.
هذه المقالة نشرت عام 2008.