كتب محمد عادل: في هذا التيه.. مزوِّرون وكاذبون بالتبعية.. لا بالأصالة! محمد الأسعد
في هذا التيه..
مزوِّرون وكاذبون بالتبعية.. لا بالأصالة!
محمد الأسعد
هل المثقف، والعربي تحديداً، صانع أفكار أم هو مجرد مستهلك ومروج لأفكار؟ سؤال فرضته السنين القليلة الماضية، وتفرضه مجريات الأحداث وأصدائها في أيامنا هذه.
ما يبعث سؤالا في أذهاننا بهذه الصيغة هو متابعتنا لما يصدر عن وسائل الإعلام الغربية ومراكز أبحاثها وشاشاتها، وما ينطق به باحثوها أحياناً، وما يكشفون من خفايا تظهر إلى النور الكيفية التي تُصنّع فيها الأفكار الرائجة هناك، وبأي طرق يتم تسريبها إلى وسائل الإعلام العربية، فتجدها في مقالات هنا وهناك، وتدور على ألسنة “مثقفين” تتم تلفزتهم وتظليل أسمائهم بأثواب فضفاضة ضافية تدرك بعد دقائق من الاستماع إليهم أنهم ليسوا أهلا لها.
وتشير تجربة السنوات الثلاث الماضية بجلاء إلى صحة ما نذهب إليه. ففي هذه السنوات التي منحها الإعلام الغربي صفة “سنوات الربيع العربي”، وترددت هذه الصفة في كل صحيفة وشاشة وقاعة وردهة عربية تقريباً طيلة هذه السنوات، لفق هذا الإعلامُ قصصاً عن “ربيع” و “ديموقراطية” و “كرامة” و “عدالة”، وجرى مثقفون عرب، سواء كانوا من المغفلين أو المجندين لقاء أجور، في هذا المجرى من دون تدبر ولا عقلنة حتى في ضوء ما كان يجري من وقائع على الأرض. فأي مراقب نزيه من خارج هذا السيرك، الذي لم يلملم خيامه حتى الآن، كان بإمكانه أن يسأل: كيف يستقيم الحديث عن “ربيع عربي” في الوقت الذي نشهد فيه اجتثاث الأشجار وتسميم مياه الينابيع؟ وكيف يمكن الحديث عن بشائر بالديموقراطية في الوقت الذي تطلق فيه وحوش من كهوف ماقبل التاريخ بخناجرها وأحقادها لتقتل وتدمر وتنسف شواهد كل حضارات بلادنا؟ وكيف أمكن للمتلفَزين أن يتمطقوا بألفاظ الكرامة والحرية بينما يُقتل ملايين البشر ويشردون أمام أنظارهم وأنظار أسيادهم لتثري شركات الأسلحة؟
* * *
اعترض ذات يوم ثلاثة أشخاص يرتدون أقنعة أفريقية في غابة من غابات شرقي جنوب أفريقيا أحد أفراد أقوى القبائل هناك في تصديها للمستعمرين الغربيين، قبيلة “كوسا” التي تنتمي شأنها شأن قبائل الزولو إلى شعب “البانتو”، وزعم الثلاثة أنهم من أجداد القبيلة وعادوا ليبشروا قبيلتهم بأنها ستنتصر على الغزاة الغربيين، وستشرق شمسها، شمس مجدها، والعلامة هي معجزة شروق الشمس من الغرب هذه المرة. ولكي تساهم القبيلة في حدوث المعجزة، وعودة أمجادها، على أفرادها أن يحطموا محاريثهم ويذبحوا أغنامهم وأبقارهم، ويحرقوا أكواخهم، ويجلسوا في انتظار المعجزة.
حدث هذا بتدبير من”جورج جري”، حاكم مقاطعة الكاب البريطاني، في يوم من أيام العام 1857. وبهذا الاستغلال الشيطاني لمعتقد من معتقدات “البانتو”، بأن الأسلاف يعودون من عالم الموتى لمساعدة أحفادهم في أوقات الأزمات، وتقديم النصح والمشورة لهم، قصم المستعمرون البريطانيون ظهر أقوى القبائل الأفريقية التي كانت تقاومهم في شرقي جنوب أفريقيا.
في عصرنا الحاضر، يكاد ما قدمه صنّاعُ حملة الأقنعة الدينية للعرب بعامة وللمسلمين بخاصة (اللحى والسيوف والرايات وعجائب الأزياء المستمدة من عصابات “الننجا” اليابانية) يشبه ما فعله “جورج جري”، مع فارق أن الأسطورة المعتمدة جرى تحديثها. فالشمس التي سيأتي بها الغرب، أمريكا وبريطانيا وفرنسا .. إلخ، التي أخرجت لنا مصانعها حملة الأقنعة الدينية، هؤلاء الذين يعترضون سبيل الناس من على الشاشات وأعمدة الصحف وقاعات الندوات والمؤتمرات، ويتدفقون يدفع بهم المجمع المخابراتي الغربي الملقب باسم “نادي السفاري”، كما لو أنهم جيوش ياجوج وماجوج الأسطورية من كل حدب وصوب، هذه الشمس الموعودة هي شمس الديموقراطية والحرية والكرامة التي لن تشرق إلا بعد أن يحطم العرب جيوشهم ومؤسساتهم وشواهد حضاراتهم ويغتالوا قادتهم ويخربوا مدنهم، وعندها ستحدث المعجزة. أليس هذا هو ما حدث في أفغانستان والعراق وليبيا، وما يحاولون إحداثه في سوريا واليمن ومصر الآن؟
* * *
القارئ أو المستمع العربي الذي لم يحظ بلغة أجنبية، أو بوقت كاف ٍ لمتابعة شؤون عالم شاسع تتصادم فيه القارات وليس الشركات فقط، لن يتمكن من معرفة من صنع هذه الآراء والتحليلات ولابسي جلابيب الأجداد والننجا وكل ما خطر ببال صناع مهرجانات المساخر في أوروبا القرون الوسطى، ولن يتسنى له معرفة من يخترع القصص الملفقة التي وجهته وجرفته في الاتجاه الخطأ، بل وقولبت أفكار حتى أناس كان يكن لهم شيئاً من الاحترام فضللوه بعد أن وقعوا هم ذاتهم ضحية التضليل، لأن مثقفين، مستهلكين ومزورين وكاذبين بالتبعية لا بالأصالة عن أنفسهم حتى، يخفون عنه أبسط الأمور، وهي أن كبريات وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الشهيرة التي يكثر فقهاء التحليل الاستشهاد بها هي وسائط تمتلكها شركات عملاقة؛ شركات أسلحة وطاقة وأموال، أي الحكومات الغربية في الحقيقة، حسب صراحة المخرب الاقتصادي الأمريكي “جون بيركنز”. ولهذه الشركات الغربية (الحكومات) التي تمسك بالسلطة بثبات وراء وجوه رؤساء وزعماء يتغيرون، سياسات محددة موصوفة ومعروفة، وأفضل من حددها هو “بريزينسكي” الذي كان له قرص في كل عرس من أعراس العصابات الإرهابية بمختلف مسمياتها حين كان مستشارأمن قومي في البيت الأبيض في عهد الرئيس كارتر، وكان له كتاب “رقعة الشطرنج الكبرى” (1995) الذي وصف فيه بشكل دقيق كيفية إدارة الصراع على قلب آسيا الذي نشهد بعض ذراه الآن. هذه السياسات تقوم على الركائز ذاتها التي قامت عليها كل إمبراطوريات الغزو والتوسع، وهي:
– ممنوع على البرابرة أن يتوحدوا
– ممنوع على البرابرة أن يتسلحوا
– ممنوع على البرابرة أن يعتمدوا في حياتهم ومعاشهم على غير الامبراطورية.
وكلمة “البرابرة” حسب معجم الامبراطورية تعني كل الشعوب الحرة غير الخاضعة للسيطرة. وقد استخدمها “بريزنسكي” تشبيهاً لامبراطوريته الأمريكية بتلك الرومانية العتيقة التي هي حلم كل امبراطورية اختلقها الغرب في الأزمنة الحديثة، منذ الامبراطورية الرومانية المقدسة، فامبراطورية نابليون، فهتلر، وصولا إلى امبراطورية المجمع الصناعي/العسكري الأمريكي.
بالطبع لن يتمكن قارئ أو مشاهد عربي من الوصول إلى تقارير معهد “كارنيجي” التي اقترحت على حكومة الامبراطورية إنشاء “خلافة” إسلامية تحت القبضة الأمريكية منذ العام 1995 تمتد من البلقان، عبر تركيا فسوريا والعراق، وصولا إلى شواطئ المحيط الهندي، ولن يقدم له مثقفوه الآن خريطة العسكرية الأمريكية التي نشرها “رالف بيترز” في حزيران من العام 2006، في مجلة القوات المسلحة الأمريكية، وفيها تظهر الدول العربية مجرد شظايا مذهبية وعرقية، ملونة وتافهة، متقاتلة إلى أبد الآبدين، لإلقاء الضوء على الأدوات التي يتم تحريكها الآن لتحقيق وتجسيد هذه المقترحات والخرائط.
حين نُشرت خطط الغزو والتفتيت الشهيرة في ثمانينات القرن العشرين، ثم جاءت خريطة “بيترز”، وتم الإعلان صراحة من ما سمي “الشرق الأوسط الكبير” أو “الجديد” على لسان دمى شركات الطاقة والسلاح وأسواق المال (رؤساء الدول الغربية) ، لم تصرح ذئاب الرأسمالية، ولا عرفت الضباع التي تجري وراءها، بشيء عن الأدوات والوسائل التي ستحقق تحويل الوطن العربي إلى شظايا، ولم تقل صراحة، كما قال البريطاني “جورج جري”، عن طريق رسلها المتجلببين بجلاليب الإسلام، حطموا جيوشكم واقتلوا رؤسائكم وخربوا مدنكم واقتلوا بعضكم بعضاً لتشرق عليكم شمس الديموقراطية والحرية والكرامة، ولكن هذا هو ما يقولونه وما يحدث الآن حرفياً.
* * *
إن كبرى وسائل الإعلام، وأشهرها الفضائيات المملوكة للصهاينة وضباعهم، ليست كما تعلن عن نفسها، فهي ليست مصدراً للحقيقة والجرأة والمصداقية.. وبقية هذا الهراء، بل هي أدوات يديرها موظفون لهم أجورهم ومصاريفهم وما يدخرون، ولها من يمتلكها ويستخدمها. ومن يظن من القراء أو المستمعين أن وسائط الإعلام وجدت لخدمته، سيكون أشد غفلة من أرنب يظن أن الكون خلق من أجله.
ولكن ما شأن المثقفين الذين يبعدون أنفسهم عن حفلة التزوير والكذب التي يقيمها مثقفو شركات الأسلحة والطاقة والأموال؟ وكيف يتم خداعهم وجرفهم ليسبحوا مع السابحين، بدل أن يقاوموا الخداع والتزوير؟
ضعف هؤلاء، وفي ضوء قراءة ما يكتبون وسماع ما يقولون، له أسبابٌ؛ وأول الأسباب أنهم في غالبيتهم العظمى مثقفون موسميون، ليس للشأن العام مكانٌ حاضر دائم في أذهانهم، إنه يحضر في مناسبات، كأن يحدث حدث كبير مثلا، أو تريد شركات الأسلحة والطاقة والأموال (الحكومات) تحريك الرأي العام وجعل هذا الحدث من مشاغله (إما لدخول حرب على الأغلب، أو استعداء أوسع الجماهير على عدو لهذه الشركات).
وثاني هذه الأسباب أنهم ينتمون إلى فئة المثقفين “الأميبيين” الذي أشار إليهم “إدوارد سعيد” ذات يوم بالقول أنهم من المشوِّهين لأداء المثقفين حين يغيرون آرائهم حسب الظروف. وأضيف على مسؤوليتي؛ إنهم فئة تغيّر آراءها حسب تركيبها العضوي، فهي بلا قوام أساساً مثل الكائن الأميبي المجهري الذي يغيّر ويتغيّر وتنشأ له أعضاء مؤقتة حسب حاجاته البيولوجية في لحظة محددة، ثم تزول حين تنتفي الحاجة إليها، فإذا أحسّ بالجوع تشكل له جهاز هضم، وإذا أحس بالخوف انكمش، وإذا إراد تناول شيء تشكل له ذراع.. وهكذا.
والسبب الثالث، وهو الأخطر، أن غالبية المثقفين العرب لاتمنح المعرفة وتحصيلها حقها الذي تستحقه. ومن يستمع إلى بعضها لايسمع إلا هرجاً ومقطوعات إنشائية. وحين يزعم أي مثقف أنه يستحق هذه الصفة عليه أن يدرك أن الأمر يقتضي مراقبة الشأن العام مراقبة دائمة، كما يرى “ميشيل فوكو”، وليس هذا فحسب، بل تقتضي هذه المراقبة “معرفة واسعة لايكلّ ولا يملّ الساعي إليها”، تتضمن التنقيب عن مصادر بديلة، وليس الاكتفاء بلغو مذيعي ومذيعات التلفاز، وتتضمن إخراج الوثائق من ظلمات الأقبية، وإحياء مؤلفات في التاريخ تم نسيانها أو التخلي عنها.
وتثبت السنوات القليلة الماضية، والويلات الراهنة المتواصلة التي تلم بالوطن العربي من كل جهاته، أن المواطن العربي لم يكن وحده المخدوع والمنجرف، بل وسبقته بخطوات واسعة إلى مهاوي الانجراف والهراء، الذي سمعناه ونسمعه عن ربيع وحريات وديموقراطية وكرامة، غالبية مثقفيه، أي من يفترض أنهم من ينيرون الطريق، ويتوفرون على حظ من المعرفة لايصل إليها المواطن البسيط.
ويمكن القول باطمئنان أن هؤلاء الذين لعبوا دور المزوِّرين بالتبعية، وروجوا أكاذيب السبعة المشهورين الذين أطلق عليهم الفرنسي “باسكال بونيفوا” لقب “المثقفون المزيفون”، وأحدهم الصهيوني “برنار هنري- ليفي” مخترع تعبير “الربيع العربي”، لم يكونوا قادرين حتى على اختراع الأكاذيب، بل على ترويجها فقط، شأنهم في ذلك شأن أي نصاب ومحتال، وترويج حتى قوالبها وصيغها الثقافية التي صنعها المرتزقة الفرنسيون السبعة. لقد كانوا مثقفين متلفزين، تماماً مثل المثقفين الذين إذا شط بنا الخيال يمكن أن نتخيلهم يُرسلون لمن يطلبهم عن طريق الفاكس.. أو شبكة الانترنت.
محمد عادل