كمال زيدان يتذكر معركة علمان 1985 – إعداد نضال حمد وموقع الصفصاف
كي نتذكرهم ولكي لا ننساهم
في مثل هذا اليوم الرابع عشر من شهر شباط – فبراير 1985، وهو المصادف يوم الحب العالمي، حيث كثير من سكان العالم وبالذات الغربي يحتفلون بيوم القديس فالنتينو، المرتبط بالحب ويومه حسب اعتقادهم. في ذلك اليوم الأحمر الذي صبغ بدماء الشهداء في نهر الأولي بمنطقة علمان، كانت مجموعة كبيرة من شباب مخيمات لبنان وبالذات مخيم عين الحلوة، من محبي فلسطين الكاملة وعاشقي فلسطين، تحاول عبور النهر بإتجاه مدينة صيدا “معروف سعد” ومخيم عين الحلوة، للدفاع عن المخيم بوجه عصابات وخونة ومرتزقة القوات الفاشية الانعزالية اللبنانية من أيتام المقبور بشير الجميل بقيادة المجرم سمير جعجع.
عشرات من شباب المخيم المندفعين باتجاه مخيمهم للدفاع عنه وصد هجمات الارهابيين المتصهينين، قضوا نحبهم هناك في النهر وفي الوادي بالقرب منه، منهم من استشهد ومنهم من جُرِح ومنهم من تم اعتقاله من قبل جنود العدو. من بين الشهداء الأحياء في تلك المواجهة البطولية، كان هناك صديقي أديب الشهابي – أبو فواز- الذي سبق وكتبت حكايته. وكذلك الشاب الصفصافي كمال زيدان – أبو عمر-، الذي هو بطل حكاية اليوم… والذي سنسمع تفاصيل المواجهة نقلاً عن لسانه، خاصة أنه هو الذي قام بالتفاوض مع الجنرال الصهيوني خلال الاشتباك وبعد الاعتقال.
يقول الأخ كمال زيدان:
(في ذلك اليوم للأسف كان الجنود الصهاينة متواجدون بكثافة ومنتشرون في كل المنطقة وعلى التلال المشرفة على الوادي حيث كانت نقطة استراحتنا. بدأت المعركة باطلاق النار الكثيف. كان الجميع يحسب حساب الموت وكنا نرمي القنابل على العدو من مسافة عدة امتار، لم نكن في وضع نتحكم فيه بالرمي، كنا محاصرين في مكان ضيق جداً ومحدود المساحة (10 متر فقط). كنا نقاتلهم وجهاً لوجه لكنهم كانوا مستحكمين بشكل جيد ومتحكمين فينا خاصة من فوق من المرتفعات. كل شاب من مجموعتنا اتجه نحو النهر تم قنصه واستشهد. رأيت بعيني أربع شباب على ضفة النهر وقد تم قنصهم واحداً وراء الآخر. كانوا يقنصونننا الواحد تلو الآخر، وأحكموا علينا الطوق والحصار في مربع بحجم 10 متر فقط. كان ذلك بعد استشهاد سبعة من أفراد المجموعة التي كنت فيها.
في ذلك الوقت شاهدت جنديا صهيونيا جريحا وهو يهرول فخرجت من مكاني وأطلقت عليه صليه رصاص وعدت الى موقعي. في اثناء ذلك كان اخوتنا الجرحى يصرخون… ثم بعد هدوء تام وتوقف إطلاق النار والقصف الجوي والمدفعي والرشاشات والقنص، طلب منا العدو بمبكرات الصوت أن نستسلم. بعد التشاور فيما بيننا طلب بعض الشباب أن نستسلم وبعد أن اتفقنا على ذلك طلبت من الشباب أن اقوم أنا بعملية التفاوض. أول شيء فعلته أنني طلبت من قائد قوات العدو ضمانات. قائد العدو طلب مني الخروج والتفاوض في ذلك الوقت كان الجرحى من شبابنا يأنون ويصرخون. خرجت وذهبت الى الجنرال الصهيوني وطلبت منه أن، يخرج الجرحى أولاً فرفض على الفور. أصر أن نخرج كلنا.. فقلت له نخرج جميعنا جرحى وغير جرحى لكي لا يكون هناك اعدامات. كما طلبت منه أن تكون الصحافة موجودة فقال لي ها هي سيارة الصحافة وصلت وكانت صحافة “اسرائيلية”.
طلبت من الشباب الجرحى القادرين أن يخرجوا ويتوجهوا باتجاه النهر، فبدأوا بالخروج وكان الوضع صعب كثيراً، صعب ولا يمكن وصف صعوبته. عندما وصلنا ألقونا أرضاً وقاموا بتكبيلنا بعض الشباب تراجعت معنوياتهم فصرخت فيهم وحدوا الله واقرئوا الفاتحة على أرواح الشهداء. أما أنا فكنت أصغرهم سناً. المهم جاء الصحافيون وأرادوا التحدث مع الشباب فطلبت من الشباب أن لا يتحدثوا معهم وأنا فقط أتحدث مع الصحافة لأبلغهم بمطالبنا. في تلك الاثناء أوسعني الجنود ضرباً وطلبوا مني أن أسكت. اقترب مني الصحافيون وأرادوا سؤالي فقلت لهم لن أنطق بحرف قبل أن تفكوا قيودي ويدي، وكانتا قد تورمتا بفعل القيد. وأضفت أنني أريد أن أرجع الى الوادي لكي أتأكد من عدم بقاء جرحى وأحياء من شبابنا.
بعد التشاور فيما بينهم وافق الضباط والجنود الصهاينة وفكوا قيدي ثم توجهت الى الوادي حيث كنا. الشهداء لازالوا في أماكنهم. رأيت الأخ طلعت أبو علول جالس ووجهه أصفر كثير الاصفرار، ورأسه تلولح بشكل خفيف. طلعت كان من المفترض أنه هو قائد المجموعة. في تلك اللحظات كان جريحاً ولم يزل على قيد الحياة…ربما كان ينازع الموت… بدأت أكلمه…وكان جسمه ثقيل، ورأسه تتمايل ببطء، لم أنتبه الى أنه كان لازال يمسك بخيط قنبلة “مدقة”… كنت أتحدث معه ولما اقتربت منه وحركته يبدو أن القنبلة فلتت من قبضته فأرتميت أنا على الأرض، وانفجرت هي، حينها بدأ الجنود الصهاينة يطلقون النار بكثافة على طلعت ورغم ذلك بقيت فيه روح ولم يستشهد على الفور. ثم جاء ضابط صهيوني وأطلق رصاصة على رأسه وفعل الشيء نفسه مع بقية الشهداء.
أتذكر أنه في اثناء التفاوض مع الضابط الصهيوني سألني كم واحد أنتم.. فقلت له لا أعرف من إنسحب ومن بقي في المعركة.. وسألته كم واحد وجدتم هناك؟ فأجابني “ذبحنا أربعة هناك” وكان قصده أنهم قتلوا أربعة من شبابنا. بقيت تلك الكلمات في رأسي تطن طوال الوقت. على فكرة من هؤلاء الشباب الأربعة الشهيد مصطفى خضر الدنان الذي سبق وكتبت عنه.
في حديثه لموقع الصفصاف قال كمال: تنظيم فتح الانتفاضة الذي أرسل المجموعة الى علمان اعتبر الشهداء مفقودين ولم يأخذ بكلامي أنهم استشهدوا وأن الضابط الصهيوني ابلغني بقتلهم حين قال ذبحنا أربعة. بعد سنة خرجنا من السجن الصهيوني في عملية تبادل للأسرى. في أعقاب ذلك تواصلت مع قادة في الحركة لكنهم كانوا على رأيهم أن الشباب في عداد المفقودين. قمت بنفسي بعد إشكال معهم وتعرضي للسجن لمدة أسبوع، بالتوجه مع صديقين إلى مكان العملية في الوادي بعلمان، وبعد البحث عن أثار لهم، وجدنا هياكل عظمية تعود للأربع شهداء مع ملابسهم وبعض حاجياتهم الخاصة. على ما يبدو أن الوحوش إلتهمت بعض أطرافهم. أتذكر الآن أسماء ثلاثة من الشهداء هم مصطفى خضر الدنان، وليد قمر وأحمد الرفاعي. هذا ولم يتمكن كمال من تذكر إسم الشهيد الرابع بعد 37 سنة على تلك المعركة.
كمال زيدان – أبو عمر- لم يستسلم وأصر أن يبحث عن رفاقه الشهداء وتتبع أثرهم، فقد بقي يحفظ في مخيلته وذاكرته مكان استشهادهم وجملة الضابط الصهيوني عن “ذبحهم” في المكان المذكور. فقام مع رفيقيه بالوصول الى المكان وبالعثور على رفاقه، قاموا بجمع هياكلهم العظمية وهوياتهم وملابسهم وحاجياتهم المتبقية ووضعوها في صندوق السيارة وتوجهوا الى المخيم، لكن عند حاجز نهر الأولي للتنظيم الشعبي الناصري، تم فتح الصندوق فصدم حراس الحاجز بمشهد الهياكل العظمية. قام الحراس على الفور باعتقال كمال ورفيقيه وحققوا معهم عن كثب ولم يطلقوا سراحهم إلا بعد تدخل (سفيان) أحد مسؤولي تنظيم حركة فتح المجلس الثوري، الذي أشرف على دفن الشهداء في مقبرة درب السيم بعد الاتصال بعائلاتهم وبعد أن تم تشييعهم بموكب رسمي وشعبي.
قال لي كمال أن ابن عمه الشهيد عبد زيدان وهو شاب من جيل كمال وقد كبرا وشبا معاً في منزلين متجاورين في حارة الصفصاف في مخيم عين الحلوة. أنه كان محاصراً بنفس المكان، وأنه كان يتموضع خلفه مباشرة لكن بمكان مرتفع أكثر قليلاً، مما مكن القناص من قنصه من الخلف، فعندما أحس عبد بإصابته لمس مكانها حيث سالت الدماء على كفه، ثم نظر نحوه ومد يده ليريه الدماء ثم سرعان ما فارق الحياة، مات على الفور. حاول كمال أن ينتزع رشاش الدكتريوف من يد الشهيد عبد لكنه لم يستطع لأنه كان ممسكاً به بقبضته بكل قوة.
أما الشهيد عباس فيقول كمال أنه أستشهد أيضا بقربه وكل الشهداء كانوا على بعد مترين أو ثلاثة من مكانه وكذلك الجرحى. يضيف أبو عمر زيدان: “كنا محاصرون بشكل محكم ولم يكن أمامنا سوى خيارين الموت أو الاعتقال”.
فيما يخص الشهيد الآخر أحمد الرفاعي بحثنا في موقع الصفصاف عن صورة له لنشرها ولم نعثر عليها، وهو من مخيم شاتيلا بحسب بعض الأصدقاء. أحمد الرفاعي كان ضمن الأربعة المفقودين. وليؤكد كمال أن الهيكل العظمي الذي وجده في مكان الاستشهاد هو لأحمد الرفاعي. قال لنا في موقع الصفصاف، أنه بنفس الليلة كان قام بربط شارة مكتوب عليها “قوات الشهيد معروف سعد – إننا لعائدون”، على رأس الشهيد أحمد الرفاعي.. وأنه بعد سنة وعند البحث عثر عليها وهي لازالت على جمجمة الشهيد أحمد، في نفس مكان الاستشهاد بعد سنة من استشهاده. في نفس المكان كانت توجد جثث الشهداء الأربعة. أما الشهيدان مصطفى الدنان ووليد قمر فقد تعرف عليهما كمال من ثيابهما.
14-2-2022