كيري في عمان لإجهاض الانتفاضة – منير شفيق
ليس ثمة من شك. ولا يجوز لأحد أن يشك أو يشكك في الانتصار الذي حققته انتفاضة القدس في إحباط عملية تنفيذ اقتسام الصلاة في المسجد الأقصى. وذلك بالرغم من أنه انتصار جزئي ومؤقت، وبالرغم مما قد ينجم عنه باتجاهه أو ضدّه. فالتراجع السريع والمذل من قبل نتنياهو أمام انتفاضة القدس والتي كانت في بداياتها، أو لم تبلغ بعد ما تضمره من قوة وزخم، يدل دلالة قوية على ما يسود من توازن قوى لم يسبق له مثيل من قبل.
عندما نتذكر الإجراءات والتصريحات الصهيونية على المستويين الرسمي والأمني من جهة، والاقتحامات التي تعرّض لها الأقصى من جانب تجمعات وعصابات لفرض وجودها في باحات الأقصى من جهة ثانية، يُلمَس تراجع نتنياهو الذي جاء مناقضاً وإجهاضاً لتلك الإجراءات والتصريحات.
الكثيرون اعتبروا أن الاقتسام الزماني والمكاني للصلاة في المسجد الأقصى حاصل لا محالة. فنتنياهو وحكومته اتخذا قرارهما، وأُرسل المشروع للكنيست. ونفذ الجيش والأجهزة الأمنية خطة السيطرة الكاملة على المسجد. فلم تقتصر على مداخله الخارجية وباحاته فقط، بل وصلت إلى حد اقتحام الجنود ببساطيرهم لداخل المسجد وطرد حماته والمصلين فيه، وبلا مبالاة بما يعنيه ذلك من تدنيس لحرمته، وصولاً إلى المصلى ومنبر صلاح الدين.
بكلمة، كان القرار من جانب نتنياهو قد اتخذ، وبوشر بالتنفيذ، وبإصرار، وتحققت عدة خطوات في هذا الاتجاه. من هنا ندرك أن انتفاضة القدس حققت ذلك النصر حين اُضطُر نتنياهو إلى إعلان عدم تغيير الواقع الذي كان قائماً في المسجد، ثم أصبح هذا النصر (وإن كان جزئياً ومؤقتاً)َ أشد سطوعاً، عندما فتَحت الأجهزة الأمنية المداخل إلى المسجد الأقصى ومن دون اعتبار للسن، كما كان محدداً لمن تجاوز الخمسين سنة، ومن دون أخذ الهويات ممن يسمح لهم، من أجل ضمان مغادرتهم. وإذا بعشرات الألوف تملأ المسجد وباحاته نساء ورجالاً شيباً وشباناً وأطفالاً. بمشهد مهيب يعيد للأقصى أمجاد الصلاة فيه.
لهذا، ليس ثمة من شك، ولا يجوز لأحد أن يشك أو يشكك في هذا الانتصار الذي حققته الانتفاضة. وعندما نقول انتفاضة أي بالقوّة وبكسر إرادة نتنياهو وإذلاله، وبشل قدرة قواته الأمنية، لينتصر الشعب المقاوم المنتفض على البطش، ولينتصر الدم على السيف، والحق على الباطل.
إن معادلة ميزان القوى التي أحدثتها الانتفاضة وهي لم تزل في أولى تأثيراتها، أي قبل أن يعلو مَوْجَها إلى حدٍ يفجر الانتفاضة في الضفة الغربية. فالضفة الغربية لا تستطيع أن تحتمل أن تبقى هادئة كما تريد السلطة الفلسطينية فيما المسجد الأقصى يُقتسم ويُهان وجماهير القدس تنتفض وتبذل الدماء وتتعرض إلى أشد البطش والتنكيل، كما لا تستطيع المقاومة والجماهير في قطاع غزة ألاّ تتحرك، بدورها، عند تطوّر المواجهات في القدس عند نقطة معينة. وذلك بالرغم من ثقل المصالحة والحصار ونتائج الحرب. أما في مناطق الـ48 فقد بدأ الحراك والمواجهة وراح نتنياهو يهدد ويتوعد بإنزال أشد العقوبات.
هذا وراح تأثير انتفاضة القدس يحرّك فلسطينيي الشتات ويبعث بالرسائل التي ينتظرها الشارع العربي والإسلامي والرأي العام العالمي.
صحيح أن انتفاضة القدس كانت وحدها عملياً في الأسابيع الماضية. ولكنها كانت تنذر في الوقت نفسه بانتقال تأثيرها إلى الضفة الغربية وفلسطين كلها كما إلى شعوب العرب والمسلمين والعالم. الأمر الذي يفسر سرعة تغيير وزير خارجية أمريكا جون كيري برامجه ليطير إلى العاصمة الأردنية عمان ويستدعي نتنياهو ويلتقي الملك عبد الله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس كل ذلك خوفاً على نتنياهو من هزيمة أكبر في القدس، وخوفاً عليه أكثر كما على سلطة رام الله، وما بنته أمريكا من أجهزة أمنية، من اندلاع الانتفاضة في الضفة الغربية وما سيجر ذلك من حراكات في كل مكان.
إن هرولة كيري إلى عمان استهدفت إجهاض الانتفاضة في القدس وامتداداتها إلى الضفة الغربية وما سينجم عن ذلك من تداعيات قد تفرض أو ستفرض تحرير القدس والضفة الغربية ولن تقتصر على هزيمة مشروع نتنياهو في المسجد الأقصى. فكيري جاء إلى عمان والخوف يهزه هزاً.
هذا ما تقوله موازين القوى الجديدة عالمياً وإقليمياً وعربياً وفلسطينياً قالكيان الصهيوني ضعيف أضعف من احتماله لانتفاضة شاملة في القدس والضفة. فهذا ضعف ظهر من خلال هزيمته العسكرية في حرب غزة الأخيرة، وهذا الضعف تكشف عنه، أيضاً، تراجع نتنياهو السريع عن تنفيذ مشروعه في المسجد الأقصى. وهذا الضعف امتداد لما أصاب السيطرة الأميركية – الأوروبية من ضعف على المستويين العالمي والإقليمي- العربي.
هذا الضعف هو الذي سمح للمقاومة والشعب في قطاع غزة أن ينتصرا في الميدان العسكري بالرغم من الحصار العربي ومن تركهما يواجهان حرباً دامت 51 يوماً من دون قمة عربية أو قمة إسلامية بل في ظل انشغالات في صراعات داخلية في عدد من البلدان العربية.
نعم، هذا الضعف هو الذي سمح لانتفاضة القدس، ضمن الظروف نفسها، أن تحقق نصرها، المتمثل في وقف تغيير الواقع القائم في المسجد الأقصى، وشلّ القيود التي تضيق على المصلين فيه.
إن التركيز على هذه الظاهرة الجديدة في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني يراد له التخلص من الموضوعات التي تشكلت خلال القرن الماضي حين كان الغرب يسيطر على أجزاء كبيرة من العالم ولا سيما على البلاد العربية والإسلامية وكان الكيان الصهيوني يضرب بلا رادع ويتوسّع من حول فلسطين ويتهدّد العواصم العربية. فهذه الموضوعات انتهت صلاحيتها اليوم أصبحت عائقاً كبيراً، وبالمجان، في الاستمرار بإثباط الهمم والتخويف من المواجهة.
هذا ما يجب أن يدركه الفلسطينيون لا سيما، في فتح والسلطة الفلسطينية، كما أدركه الشعب والمقاومة في قطاع غزة كما أدركه المنتفضون في القدس وهم يذودون عن المسجد الأقصى.
وكما يدركه كيري فجاء إلى عمان ليسابق الانتفاضة في القدس والضفة ويحبطها بداية، من خلال، تكريس تراجع نتنياهو عن تغيير الوضع في المسجد الأقصى، ووقف استفزاز المقدسيين والتضييق على المصلين، ثم إجراءات أخرى لاحقة، بما في ذلك السعي لإعادة إحياء مسار التسوية التدميري للقضية الفلسطينية والنضال الفلسطيني.
والرد يجب أن يكون سريعاً في استمرار انتفاضة القدس أولاً لأن مشكلة القدس ليست في تقسيم الصلاة في المسجد الأقصى أو الاعتداء على المقدسات وإنما في احتلالها وتهويدها ومصادرة بيوتها وتهجير أهلها. فالانتصار الذي تحقق على مستوى المسجد الأقصى والصلاة فيه أو ما يمكن أن يتبع من خطوات تحذيرية، هو انتصار عظيم ولكنه جزئي لأن القدس ما زالت تحت الاحتلال وهو مؤقت لأن الحفريات تحت المسجد ما زالت مستمرة وهدف بناء الهيكل المزعوم ما زال قائماً. ومن ثم لا تثبيت لهذا الانتصار إلاّ بتحرير القدس وتحرير الضفة وإطلاق كل الأسرى، وبلا قيد أو شرط. وهذا لا يتحقق إلاّ بالانتفاضة واستمرارها في القدس وانتقالها إلى الضفة الغربية، وما يتبع من تداعيات داعمة فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ورأياً عاماً عالمياً.
أما العودة إلى التهدئة كما يريد كيري، وسلطة رام الله، والعودة إلى اتباع استراتيجية التفاوض والتسوية بديلاً لاستراتيجية المقاومة والانتفاضة سيكونان طريقاً لاستشراء تهويد القدس واستيطان الضفة الغربية وضياع القضية الفلسطينية.