كيف ثبّت السيسي أركان حكمه بوجه حلفائه وأعدائه؟ – علي الرجّال
تعرّض حكم الرئيس السيسي إلى زعزعة كبيرة وتهديدات حادة، ولكنه مع ذلك نجح في تثبيت أركان سلطته. وهو نجح في تقويض كل الضغوط الدولية والداخلية، والإجهاز على القوى الاجتماعية المختلفة، سواء المناوئة له، أو تلك الحليفة له في الداخل والخارج: المجتمع المدني الذي تعتبره السلطة المصرية خصماً لها، والقوى النيوليبرالية التي يمكن اعتبارها حليفاً له أو جزءاً من التشكيلة الحاكمة.
التصفية العسكرية للمجتمع المدني
لم يكن إصدار “قانون الجمعيات الأهلية”، الذي يعطي السلطة أشكال من الهيمنة غير المسبوقة على هذا الحقل، ويقيد من حركته لدرجة ينعدم معها وجوده، وليد اللحظة، وليس نتاج سلطوية السيسي وحده. فالتعامل مع المجتمع المدني منذ لحظة اندلاع الثورة، وتحت قيادة المجلس العسكري، أخذ طابعاً حربياً. ففي ظل قيادة المشير محمد طنطاوي، هجمت القوات المسلحة (قوات من الصاعقة المصرية) والشرطة، ومعهم وكلاء من النيابة العامة على 17 منظمة غير حكومية في التوقيت نفسه، في عملية عسكرية محضة. ومن أبرز هذه المراكز، دولياً “المعهد الجمهوري الأمريكي” و”المعهد الديمقراطي الامريكي”، و”مؤسسة كونراد إيزنهاور” الألمانية، وأبرزها محلياً هما “المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة”، و”مرصد الموازنة العامة وحقوق الإنسان”. وانتهت هذه الهجمة إلى ما يعرف بقضية التمويل غير المشروع تحت مزاعم أن هذه المؤسسات تقوم بزعزعة الأمن والاستقرار ونشر الفوضى في مصر، ثم بفضيحة إجلاء المتهمين من مطار القاهرة عبر طائرة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية. \
أعقبت هذه المحاولة مساعي الإخوان المسلمين للسيطرة على المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني من خلال إصدار عدة قوانين، ولكنها لم تكن ناجعة ليس بسبب رغبتهم باحترام الحقوق والحريات ودعم حقوق الإنسان وتعزيز دور المجتمع المدني الخ.. بل لعدم قدرة الإخوان على الهيمنة وإحكام سيطرتهم على الحكم، وعدم تجانس جهاز الدولة تحت قيادتهم. ثم جرت محاولات مختلفة ومنها مداهمات طالت “المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”، ثم منع أعضاء مؤسسات المجتمع المدني من السفر، مثلما حصل مع جمال عيد وآخرين. وانتهى الأمر بمحاولات وأد الحركة النسوية مؤخراً من خلال التقدم بقضايا ضد كل من عزة سليمان ومزن حسن وتجميد اموال جمعياتهما، وكلاهما من أهم كوادر الحركة النسوية والمجتمع المدني في مصر بشكل عام.
فاستتروا!
ومنذ اللحظات الأولى لاندلاع الصراع في 2011 اتهمت الدولة مؤسسات حقوق الأنسان ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بالحريات والحقوق بأنها أدوات الغرب والصهيونية لتكدير الصفو العام والسلم الاجتماعي. ولا تتورع السلطة عن طرح تساؤلات من قبيل: لماذا يقوم هذا المجتمع المدني بتفجير القضايا الاجتماعية في العلن. هي تتهمه بأنه يفضح عورات المجتمع المصري ولا يتستر عليها! وهذا تجلى في صيغة القانون الجديد، وبالأخص الجزء الذي يمنع المؤسسات من القيام بأبحاث ميدانية ونشرها بدون إذن مسبق من الدولة، أي أن السلطة لا تسعى فقط لإغلاق الفعل المباشر لهذه المؤسسات، ولكنها تسعى لمنع إنتاج أي معرفة عن المجتمع من المؤسسات غير الحكومية. وهذا الأمر، على الرغم من غرابته في أي دولة تدعي انها حديثة، إلا أنه مستق تماماً مع رؤية الدولة المصرية المحافظة والقمعية. فمن ناحية، سيتسبب النقاش في مسائلة السلطة وفضح ما بها من عوار، وكذلك سيدفع العديد من القطاعات الاجتماعية إلى التصدي لنمط السلطة المفروض عليها وعلى المجتمع بشكل عام. ومن ناحية أخرى، فأن طرح المشكلات ومسائلة السلطة سيعني تدخل الجموع في التأثير على عمليات اتخاذ القرار، وهو الأمر الذي تعتبره هي “مساحة سيادة” لا يجوز المساس بها، وتحتكر الحق في الحديث عنه وتحديد مساراته. وتعتبر السلطة أن أي زعزعة لهيمنتها على تلك المساحة السيادية هو مساس بهيبة الدولة وسيادتها وإخلال بالأمن القومي وأمن الدولة.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2015، أي قبل حلول ذكرى الثورة بأيام، قامت السلطة بعملية إخلاء للمجال العام على الطراز العسكري وليس حتى الأمني.
فمقاهي وسط البلد كانت إما خاوية أو مغلقة، وقبل شهر من ذلك شنت هجمات على المساحات الثقافية والفكرية المشهورة والمعروف عنها أنها نقاط تجمع أو لقاء للنشطاء والباحثين والفنانين (مسرح روابط، دار ميريت للنشر و CICوهو مكان لعرض أعمال الصور الصحافية والقصص المصورة وشهد معرضاً مهماً عن المؤسسات العقابية). أثار هذا الهجوم بشكل حفيظة السياسيين وتعجبهم لعدم وجود مبرر لذلك. وهذا صحيح! فالقريب من الدوائر السياسية والحياة الاجتماعية للنشطاء في أكثر من محافظة والدوائر المتداخلة فيما بينهم، مثل الدوائر الثقافية والفنية، يعرف أن الرأي السائد في هذه الدوائر كان الامتناع عن النزول الى الشارع في ذكرى 25 يناير. وكانت حتى بعض الفصائل الصغيرة التي تنادي بالنزول على استحياء، لا تذهب بعيداً في الترويج والدعوة، وأقصى حدود لخطابها ــ الذي يتحرك أساساً في حيز ضيق ــ هو: فلنراقب حركة الشارع ونرى ماذا سيحدث. عملية الإخلاء هذه عكست واقع أن السلطة لا تستطيع حتى الآن الدخول إلى عمق الشبكات الثورية والحركة الدائرة في المجتمع، على الرغم من كل الجمود والتيه الذي أصاب هذه الحركات والشبكات. وأنه وحتى الآن، فما زالت عدساتها الأمنية غير قادرة على تحديد حجم المخاطر ومساحات الحركة. وبالتالي فتدخلها يأخذ طابعاً عسكرياً: العديد من الشوارع في أغلب مدن المحافظات المختلفة، من أسوان إلى الإسكندرية مغلقة، وبعضها كان مغلقاً من قبل 30 حزيران / يونيو 2013، أي كرد فعل على الثورة وليس فقط على واقعة “رابعة” وما تبعها من مظاهرات وأحداث عنف وإرهاب. والأقسام والمؤسسات المهمة في الدولة محاطة بجدران اسمنتية وحواجز كبيرة. وخلاصة، لم تجد السلطة حتى اليوم طريقة ناجعة ومستقرة للسيطرة على الحيز المديني وإخضاعه، وهو السبب الذي يجعل تدخل السلطة يتخذ طابعاً عسكرياً بهدف تدميره.
.. وعوار الخطاب الثوري
الحرب الأخيرة للسلطة على مؤسسات المجتمع المدني، وبالأخص منها الحقوقي، كشفت عن عوار خطير في الخطاب الثوري، وعن عوار أخطر في وعي الثوار، وعن تمكن وجدية في وعي الثورة المضادة التي نحب دائماً أن نسخر منها. وكل هذا، مرة أخرى، لا يعود للحظة الحالية، ولكن جذوره موجودة بالفعل في اقوى لحظات الحدث الثوري وذروة الانتصار. فالثورة المضادة بلورت أولاً موقفاً لرؤيتها لهذه المؤسسات، يتمثل في كونها أذرعاً دولية، وقامت ثانياً بتوصيف دقيق لموقفها من العمل الثوري والثوار. فبالنسبة للثورة المضادة هذه المؤسسات بمثابة خطوط إمداد خلفية للثورة، تعمل على دعمها القانوني، وتساعد في فضح ممارسات السلطة، وتفتح عليها نيران المجال العام، وتقوم بتوثيق انتهاكات الدولة والسلطة، كما كانت تقدم دعماً لوجستياً مهماً ومساحات آمنة للحوار والنقاش العامين.
في المقابل كان موقف الشبكات الثورية المختلفة شكوى دائمة عن “الحريات المنتهكة”، والقمع والبطش والتضيق. ولم يبلور أحد من الأحزاب أو الحركات السياسية رؤيهم لتحديد موقع هذه المؤسسات من الثورة والثوار، فلم يعلن أحد أنها مؤسسات تخص الثورة والثوار، وأن هؤلاء الذين يعملون فيها ليسوا فقط مجموعة أصدقاء بل هم حلفاء استراتجيون لهم مكانتهم ولهم موقعهم في الخريطة الثورية والحرب القائمة ضد النظام. ولم يتم تشكيل أي وعي وخطاب حول ذلك.
لقد حاولت هذه المؤسسات حماية الخطوط الخلفية للثورة، في ظل تناقضات وخلافات وتباينات بين هذه الشبكات المختلفة، وهو سمة أي ثورة. في المقابل تركت ظهورهم إلى الحائط ومقدمتهم فريسة سهلة لمدافع العسكر القانونية والتشريعية، وسمعتهم فريسة لضباع الإعلام، وحياتهم ومستقبلهم لقمة سائغة لشبكات الثورة المضادة. وبشكل إثنوغرافي، يعيش أبناء وقيادات هذه المؤسسات حالة من الهلع الدائم والخوف الشديد على سلامتهم الجسدية وحرياتهم وأسرهم. وعلى مستوى ما تبقى من المؤسسات الدولية، لا تقل حالة الهلع والحذر الشديد من قبل العاملين في هذه الحقول، إزاء السلطة المصرية التي نجحت في التكشير عن أنيابها والتأكيد على خطورتها وعلى قدراتها على المناورة والتضييق حتى على الأطراف المدعومة بقوة من دول كبرى ومنظمات دولية مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وهو ما دفع هذه المؤسسات إلى تقليص فاعليتها والعودة مرة أخرى للأنشطة الثقافية والفنية التي لا تمس المجتمع أو السياسة بشكل مباشر. وحتى النقاشات الأكاديمية والمعرفية التي كانت تضطلع هذه المؤسسات باستضافتها، تقلصت هي الأخرى، وأحياناً تقابل بعض الاقتراحات لتنظيم نقاشات أكاديمية أو لاستضافة مجموعة من الباحثين الأجانب بالرفض من الأساس، وليس حول المحتوى. وهكذا أجهز العسكر على المجتمع المدني.
نيوليبرالية فريدة
يقدم السيسي نموذجاً فريداً من النيوليبرالية. فهو يتفق معها على مستويين: الاجراءات والسياسات (تحرير وتعويم سعر الصرف، رفع الدعم، تقليص البيروقراطية، ترك الأسعار للسوق) والإيديولوجيا (رؤية دور الدولة، ضرورة تحمّل الأفراد مسؤولية الضمان الاجتماعي، ورؤية الخدمات كسلع يجب دفع ثمنها الحقيقي بدون أدنى اعتبار للحالة المعيشية..). عبر الجنرال عن هذا النموذج من خلال الخطاب والإجراءات الحكومية والتنفيذية، حيث جاءت سياسات رفع الدعم وتعويم سعر الصرف، وقرض صندوق النقد الدولي لتأكد هذا التوجه. كما أعلن عن تصوراته النيوليبرالية في أكثر من حديث ولقاء عام وجماهيري. ولكن التطبيق هذه المرة يتم عبر الجيش نفسه. ظلت الانقلابات العسكرية على العموم، وبالأخص تلك التي اتسمت بحالة من العسكرة الكاملة لكل من المجتمع والدولة، تتخذ طابع رأسمالية الدولة، وإقامة علاقة بين المجتمع والدولة قائمة على مبادلة أو مقايضة الحريات السياسية بمكاسب وضمانات اجتماعية واسعة. يُستثنى من ذلك حالة تشيلي التي كانت نموذجاً مهماً للانتقال النيوليبرالي بحلول الثمانينات، أي بعد قرابة عقد من حكم بنوشيه.
هناك عدة أسئلة تطرح نفسها اليوم لفهم التحولات السريعة التي يشهدها حكم السيسي في أربع سنوات. منذ بداية الالفية الثالثة، وتحديداً مع حكومة أحمد نظيف النيوليبرالية الصريحة، تصاعدت حدة الصراع مع مؤسسة الجيش حتى وصلت ذروتها مع الثورة، حيث استغل الجيش الحدث الكبير للإجهاز على السياسيين النيوليبراليين سياسياً. وهذا هو الرأي السائد، ولكن بعض الباحثين المتميزين، مثل وائل جمال، يرى أن هذا الأمر ليس صحيحاً وأن التشكيلة الحاكمة لم تتوفر لها أسباب حقيقية لخوض مثل هذا الصراع. لكنه، وبعكس هذا الرأي الاخير، فقد كان الصراع جاداً وحقيقياً على مستوى الهيمنة السياسية والاجتماعية وترتيبات الحكم. فهذه النخبة الجديدة حاولت انتزاع مفاصل الحكم من العسكر، وإن كانت متصالحة معهم في مستويات أخرى مثل إبقاء هيمنتهم على قطاعات كبيرة داخل الدولة، مثل المحافظين ورؤساء بعض الهيئات، وسيطرتهم على الموانئ. ويبدو أن ما يحدث منذ ذلك الوقت هو صراع على التراتبية وترتيبات الحكم والهيمنة. ومن المؤكد والصحيح أن هذا ليس صراعاً صفرياً. وقد ابدى السيسي أكثر من مرة بعد وصوله الى رأس السلطة، بعض التململ والضيق من رجال الأعمال، وبالأخص مع عزوفهم عن التبرع لصندوق “تحيا مصر”. وتعمد إهانة بعضهم مثل مشهد اعتقال رجل الأعمال الكبير صلاح دياب، وتعمد نشر صوره وهو مكبل في الصحف والقنوات الفضائية. كذلك نجح السيسي في تدمير الكتلة البرلمانية الكبيرة نسبياً ل”حزب المصرين الأحرار” بقيادة ساويرس والتي بلغت 65 مقعداً، حيث تم تفجير الحزب من الداخل والإطاحة بساويرس نفسه. كما أثّرت قراراته الاقتصادية، وبالأخص تعويم الجنيه، على عدد كبير من المستوردين في قطاعات اقتصادية مختلفة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأ الجيش في الاستحواذ على قطاعات جديدة من السوق المصري، مثل صناعة الدواء وأيضاً تكثيف استحواذه على قطاع الطرق والانشاءات عبر الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة.
وعلى الرغم من كل ما سبق، هناك عدة عوامل بنيوية حالت دون تفجير الصراع بين مؤسسة الجيش والقوى النيوليبرالية. وهذه العوامل تتراوح بين ما هو داخلي محض وما هو عالمي. فمصر تود أن تندمج أكثر في السوق العالمي، كما سعت ونجحت في الحصول على قرض كبير من صندوق نقد الدولي، وما زالت تطمح الى جذب الاستثمارات الخارجية إليها. وفي ظل هذه الشروط والرغبة في “الانخراط”، يستحيل القضاء على القوى الرأسمالية ذات الطابع النيوليبرالي داخل مصر، لارتباط هذه القوى، سواء منها المالية والتجارية أو الصناعية وقطاع الاتصالات، بدول الخليج وبدول أخرى في المنطقة.
أما العامل الداخلي، وهو الأكثر حسماً، فيمكن تلخيصه بأن الجيش والسيسي ليس لديهما أي مشروع سياسي جديد يطمح لإعادة تشكيل المجتمع، ومن ثم إعادة تشكيل الطبقة الحاكمة وتحالفاتها الداخلية. وبالطبع فأي مشروع مفارق لهذه الترتيبات بشكل عام سيتطلب إدماج قطاع واسع من الشباب وقوى اجتماعية مختلفة وجديدة، وسيفرض اختلاف كامل في طبيعة الأجهزة السياسية ودورها. وحتى الآن، لم يقم السيسي ببناء جهاز سياسي خاص به، سواء تنظيمياً كالاتحاد الاشتراكي، أو حزباً حاكماً كالحزب الوطني. بل على العكس من ذلك فالشباب، وبالأخص الطبقة الوسطى والوسطى الدنيا المدينية، هم مصدر تهديد حقيقي له حيث مثلوا خزان الثورة البشري الرئيسي. وليس ثمة أي أفق للإدماج. ويعتمد السيسي في تعامله معهم على الأجهزة الأمنية وبالأخص المخابرات العسكرية والملاحقات البوليسية، بالإضافة إلى حالة عامة من السيولة تستدعي بعض الجماهير الشابة لملء مؤتمراته الشبابية.
إعادة ترتيب
إذاً ما الذي حدث مع القوى النيوليبرالية، وما الذي كان مطلوباً عمله؟ ببساطة واضحة هي إعادة تموضع وترتيب للهيمنة داخل تراتبية السلطة. فالجيش والسيسي سعيا منذ اللحظة الأولى للاستحواذ على كل ما يتعلق بالسيادة على الحركة والسكان والفعل السياسي والاقتصادي. ثم جاء التصالح مع هذه القوى ولكن هذه المرة من خلال الجيش كنقطة ارتكاز هرمي في شبكة الحكم. وتمثل هذا في إعادة توزيع الأدوار مرة أخرى. فالعقود والتعاملات لن تتم بشكل حر ومتداوَل داخل السوق، ولن تتم كسابق عهدها في أيام مبارك، من خلال شبكة من الزبائن والمحاسيب ذات صبغة نيوليبرالية، ولكنها ستتم من خلال وعبر الجيش نفسه. فالجيش يتحول إلى المقاول الأم، ومن تحته ومن خلاله ستتم إعادة توزيع الغنائم على القطاعات المختلفة. وهو ما تجلى في مشروعي “العاصمة الجديدة” و”تفريعة قناة السويس”. أما المشاريع الأصغر فسيتم توزيعها على شبكة أضيق من المحاسيب القدامى أو الجدد الذين يضمن الجيش ولائهم السياسي والاجتماعي، كما يتداخل مع هذه العناصر عنصر مهم، وهو الفساد في إدارة مثل هذه المناقصات. فلا محسوبية وضمان للولاء السياسي دون الاغراق في توسيع رقعة الفساد.
انتهى الأمر بقدر من التصالح، وقلّت حدة هجوم السيسي وتململه من القوى النيوليبرالية في السنة الأخيرة، وجاءت حكومة إسماعيل لتأكد هذا، مثلما يشير وائل جمال. فالمطلوب كان إعادة الترتيب: البيروقراطية الأمنية في المقام الأول، وتحديداً هذه المرة الجيش والمخابرات العسكرية، بعد أن نجح السيسي في تحجيم نفوذ المخابرات العامة وأمن الدولة والداخلية عبر الحدث الثوري ثم بالتغيرات الواسعة التي أطاحت بعدد كبير من وكلاء المخابرات العامة في السنتين الماضيتين، واعطت حصة لبقية الأجهزة السيادية والقضاء، ثم تركت مساحة كبيرة للقوى النيوليبرالية لتقاسم بقية السوق. وهناك حقيقية لا يمكن إغفالها، وهي أن السوق المصري سوق ضخم وكبير، ولا يمكن للجيش الاستحواذ عليه منفرداً، بالأخص في ظل ترهل بقية مؤسسات الدولة وفقدان جانب كبير من هيمنتها الاقتصادية في العقود الثلاث الماضية، من خلال توحش عمليات الخصخصة وبيع الأصول. ويأتي هذا في إطار عام من عدم الرغبة في بناء حالة “اشتراكية” أو “رأسمالية دولة”.
ومن هنا يتفرد السيسي بنموذج جديد على مصر وهو “نيوليبرالية الجيش”، حيث يلعب الجيش الدور المركزي في إدارة الاقتصاد والهيمنة العامة عليه، في مقابل عدم تقديمه لأي شيء على مستوى الأمن الاجتماعي والمكاسب الاجتماعية ــ الاقتصادية لعموم السكان.. وكأنه شركة خاصة. وهو في ذلك يعتمد على تحول كبير داخل الدولة المصرية أخذ في التشكل في نهاية سبعينات القرن الماضي، وتجسد بأن تقوم بعض مؤسسات الدولة الأمنية ببناء وتأسيس شركات خاصة تابعة لها، أو من خلال بعض أفرادها بعد انتهاء خدمتهم. وكان القطاع الأمني أبرز مثال على ذلك، وأشهرها الآن شركة “فالكون” التي استحوذت على ما يزيد عن 50 في المئة من السوق المصري لخدمات الأمن، وتحديداً على تأمين الجامعات. والسيسي توج هذا بقرارين جمهوريين في 2015: القرار رقم 446 لسنة 2015، لتنظيم قواعد التصرف في الأراضي والعقارات التي تخليها القوات المسلحة، وتخصيص عائدها لإنشاء مناطق عسكرية بديلة. ونص القرار على أن “يتولى جهاز القوات المسلحة تجهيز مدن ومناطق عسكرية بديلة للمناطق التي يتم إخلاؤها، والقيام بجميع الخدمات والأنشطة التي من شأنها تنمية موارد جهاز القوات المسلحة، وله في سبيل ذلك تأسيس الشركات بكافة صورها، سواء بمفرده أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني أو الأجنبي.. وقرار رئيس الجمهورية بالقانون 86 لسنة 2015 والذي يجيز للداخلية والجيش والمخابرات القيام بتأسيس شركات أمن وحراسات ونقل أموال. الموضوع هنا في الأساس ليس مناقشة بيزنس الأمن الخاص في مصر، بل هو الميكانيزمات التي لجأت إليها الدولة لإعادة توزيع أدوارها وهيمنتها، والتي يكشفها بشكل واضح هذا البيزنس. بمعنى آخر كيفية إعادة الدولة اختراع نفسها والتسلل واختراق المجتمع على الرغم ما أصابها من تحلل وترهل مؤسسي عبر الجيش وشبكات واسعة تابعة للأجهزة الأمنية.
تزامنت هذه الفترة أيضاً مع إصدار قانون في تموز/ يوليو 2015 يتيح لرئيس الجمهورية تحديد الحالات التي يجوز له فيها إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية (البنك المركزي، هيئة الرقابة الإدارية، الجهاز المركزي للمحاسبات، هيئة الرقابة المالية الموحدة) من مناصبهم. وحدد القانون الجديد حالات إقالة رؤساء الهيئات الرقابية بقيام دلائل جديدة “على ما يمس أمن الدولة وسلامتها، وإذا فقد الثقة والاعتبار، وإذا أخل بواجبات وظيفته بما من شأنه الإضرار بالمصالح العليا للبلاد، أو بأحد الشخصيات الاعتبارية العامة، وإذا فقد شروط الصلاحية للمنصب لغير الأسباب الصحية”. وهو ما مكّن السيسي من الإطاحة بسهولة بالمستشار هشام جنينية ووضعه في الحبس بضعة أيام.
أكمل السيسي محاولاته للهيمنة على الأجهزة المختلفة وترضيتها، فهو يخلق الحركة ونقيضها، بما سمح له بإرضاء المؤسسات وإخضاعها في الوقت نفسه من خلال إقرار البرلمان مؤخراً لقانون الهيئات القضائية والذي أتاح له اختيار وتعين القضاة عبر ترشيح عدة أعضاء وإنهاء مبدأ الأقدمية.. والواضح حتى الآن أن العسكر نجحوا في تقويض الجميع، حلفاء وخصوم. هذا لا يعني أن الحكم مستقر بالكلية، أو أن هذا النظام غير قابل للإزاحة، فالسيسي يتعرض لانهيار كبير في شعبيته مؤخراً، كما أنه يدمر المقومات الإيديولوجية للوطنية المصرية ومشروعها الحاكم من خلال العسكريتاريا. إلا أنه على مستوى اللحظة الراهنة برهن على قدرة عالية على المناورة واستغلال كل حدث يقوّض شرعيته ليتحول لأحد أسباب استمراره. وأبرز مثال هو الإرهاب.
* باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر
:::::
“السفير”