لاعب النرد: كيف كتب محمود درويش قصيدته ما بعدَ الأخيرة؟ – منصف الوهايبي
لاعب النرد: كيف كتب محمود درويش قصيدته ما بعدَ الأخيرة؟ – منصف الوهايبي
كثيرون كتبوا عن تجربة محمود درويش، ولكنْ قليلٌ هم الذين لامسوها حقّا. وأكاد لا أعرف منهم سوى صبحي حديدي.. وربّما أيضا أستاذ الفلسفة التونسي المعزّ الوهيبي في هذا الكتاب الذي يتهيّأ لنشره”ليدولوجيا الشّعر: محمود درويش لاعب النرد”. والمصادرة التي يأخذ بها صاحب هذه القراءة أنّ إنشائيّة الفنّ لا تعدو أن تكون غير نشاط لعبيّ. لكنّه يقرّ في الوقت نفسه أنّه لا يأتي بجديد عندما يسوق مثل هذا الزّعم. ولا يعنيه في حقيقة الأمر أن يدّعي ريادة في هذا المضمار أو تدشين مبادرة؛ وإنّما همّه أن يرى إلى شعريّة محمود درويش في نصّ من نصوصها عبر كوّة من شأنها أن تتعاطى مع خطابه إنشائيّا لا غرضيّا.
ولا يعني ذلك طبعا أنّنا نقلّل من شأن المقاربات التي تركّز على هذا الموضوع أو ذاك؛ فلا نحسب أنّ الهمّ الإيديولوجي قد ولّى إلى غير رجعة في ما يتعلّق بمجمل المنجزات الفنّيّة والأدبيّة بما في ذلك تجربة محمود درويش. لكنّنا نحسب مع ذلك أنّ هناك فيضا في ربط نصوص درويش بمرجعيّات تقوم خارجها، وهو ما يجعل هذه المقاربات لا تفعل أكثر من مقايسة هذه النّصوص بوقائع ليست نصّية أو بواقع، والواقع ـ فنيّاـ ليس أكثر من بنية جوفاء. ونحن مثله لا نرى داعيا إلى رمي هذه المقاربات بشبهة الخروج عن النّصّ، كما لا نرى داعيا إلى تبرئة النّصّ الدّرويشي نفسه من التّحريض أو التّشجيع على مثل هذه المقاربات. إذ يصعب أن ننكر أنّ النّصّ أو الأثر، أيّ نصّ أو أيّ أثر، لا ينتسبان بنسَب من الأنساب إلى ما يوجد خارجهما، أي إلى وقائع قد لا تكون بالضّرورة من طبيعة نصّية. كما أنّه من الصّعب أيضا أن ننكر كون النّصّ الدّرويشي يخلو من عناصر التّحفيز للقيام بمثل هذا الإرجاع؛ فهو يحفل بإحالات إلى واقع يوجد خارجه يعلم النّاسُ طبيعته ومجرياته بتفاوت لا محالة؛ وإن كانوا يعلمونه في سياقات أخرى وخطابات أخرى؛ غير سياق القول الشّعريّ وخطابه. ولمّا كنّا قد قدّرنا أنّ استئناف مثل هذا المنحى الذي يقرأ محمود درويش استنادا إلى مرجعيّة مغايرة (هي غير النّص المقروء)؛ مرجعيّة تتمثّل أساسا في قضيّة فلسطين، إنّما هو يتولّى فقط مراكمة قراءات حاصلة بالفعل، إن لم يكن مجرّد تَكرار لها ليس إلاّ. لمّا كنّا قد قدّرنا إذن هذا الأمر ولا نحسب في ذلك شططا أو مغالاة؛ ارتأينا أن ننحاز إلى القراءات التي تركّز على ما يُسمّى المرجعيّة الذّاتيّة.
ولعلّ في اتّخاذ مفهوم اللّعب براديغما [نموذجا تفسيريّا] وذلك لجملة من الخاصّيات والاعتبارات قد لا تتوفّر في غير الممارسة اللّعبيّة
وإذا ما جاز لنا أن نميّز، ولو مؤقّتا، بين الجانبيْن الإنشائيّ والتّقبّلي؛ لأنّ الوشائج التي تصلهما أمتن في واقع الأمر من أن تسمح بالفصل بينهما موضوعيّا، وإنّما هي تسمح فقط بقدْر من التّمييز على سبيل الإجراء المنهجيّ ووفق السّجلّ الذي نكون بصدده. إذا جاز لنا، إذن، أن نفصل بينهما فإنّ الوساطة اللّيدولوجيّة في التّعامل مع الأثر الفنّيّ أو الأدبيّ من شأنها أن تسهم في التّخلّص من الارتباك التّالي: فنحن نلاحظ من جهةٍ الحضورَ الفعليّ لجمهورٍ للفنّ أو الأدب. ونقرّ بداهة بضرورة هذا الجمهور. ولكنّنا نلاحظ من جهة أخرى غياب مصطلح دقيق يمكّننا من الإشارة إلى الأفراد الذين يكوّنون هذا الجمهور. وهذا التّناقض يحتدّ عندما ننتبه إلى أنّ هناك إغفالا للجمهور أو عدم تدقيق له مقارنة بالتّركيز على الطّرفيْن الآخريْن من ثلاثيّة اللّعبة الفنّيّة: ذات المبدع والموضوع (الأثر) وذات المتقبّل (الجمهور). وقد تكون القراءة اللّيدولوجيّة من المداخل الممكنة لتجاوز هذا الإحراج.
الايام *