لا مفر من لبنان ضد لبنان – عادل سمارة
انقسام التحالف الطائفي دون فقدان السلطة
لا مفر من لبنان ضد لبنان
عادل سماره
أول ما يخطر لك وأنت تراقب أزمة لبنان الحالية هو الخطاب الملتبس ومنه مصطلح “البرجوازية الوطنية”. ولكن حين تقيس هذا المصطلح على معظم القطريات العربية لا يسعفك من الفكر ما يبرر هذه التسمية. وحين تدخل في تفاصيل شرائح البرجوازية تميل إلى القول والاعتقاد بأن التسمية الصحيحة هي البرجوازية المحلية تحاشياً لاختلاط وتخبُّط الوعي الذاتي وتضليل الوعي الجمعي. ويبقى هذا ايضا من الوصف الملتبس إلى أن تفصل أو تفرز شريحة عن غيرها كي لا يختلط الحابل بالنابل.
لا تكون أية برجوازية محلية وطنية الدور والتوجه ما لم تكن إنتاجية اساساً لكي تدفعها مصالحها للدفاع عن السيادة الوطنية حيث تستغل السوق المحلية وتدافع عنها، اي ان دورها الوطني هو جوهريا طبقي مشروط بالمصلحة الطبقية، ولذا هو رجراج فلا داع للتعويل الدائم عليه . وإذا لم تكن البرجوازية منتجة أو تتخلى عن الإنتاج تدريجيا أو نهائيا، فهي تذهب في سبيل لا وطني.
لعل هذه السمة هي الطاغية على البرجوازية اللبنانية التي انتقلت خلال العقود الأخيرة من دور إنتاجي إلى حد ما إلى دور ريعي وكمبرادوري أوصل الاقتصاد إلى الإفلاس. نقول إلى حد ما لأن كثيرا من الكتابات تبالغ في إنتاجية الاقتصاد اللبناني قبل ارتهانه للحريرية السياسية منذ ثلاثة عقود.
كانت هذه البرجوازية حتى وهي في حقبة التوجه الإنتاجي تحمل جينات التبعية والطفيلية. فهذا البلد لم تقطع الطبقة الحاكمة فيه مع الإمبريالية الفرنسية ولاحقا مع الأمريكية خاصة حيث ورثته امريكا كما ورثت بلدان أخرى من الاستعمار الأوروبي المتقهقر هذا إلى جانب وهم التميز عن المحيط العربي ومحاولة تركيب “أمة” غير عربية من شُقف طائفية متنافرة الثقافة وزعم الأصول وحتى زعم التميز الجيني!
لعب الدور الخدماتي للاقتصاد اللبناني دوره في التأسيس للدور الطفيلي الحالي حيث كان للمصارف اللبنانية دورها في جذب رؤوس اموال عربية تم تهريبها من البلدان العربية التي واجهت برجوازياتها ضغطا من أنظمة قومية التوجه، كما اعتمد لبنان على خدمات السياحة وتصدير قوة العمل الشابة إلى عديد بلدان العالم اي طرد قوة العمل المنتجة إلى المهاجر، هذا ناهيك عن دور النظام السياسي اللبناني في لعب دور تقديم المناخ للعديد من مخابرات العالم لتملأه أوكار التجسس لعديد مخابرات العالم وخاصة المضادة لحقبة النهوض القومي العربي حتى نهاية الستينات من القرن العشرين.
أما الغلاف الثقافي بل الإيديولوجي لهذه البرجوازية فكان الطائفية والتي تلطيفا لها يسمونها الطائفية السياسية. فالطائفية حين تضرب طائفة تضربها في مختلف المستويات وتحولها إلى حالة من التحوصل البنيوي والثقافوي كما لو كانت مجتمعا قائما بذاته أشبه بالطوائف الحرفية.وحين تتحالف، للضرورة والاضطرار طائفة مع أخرى يتم ذلك على أساس طبقي/طائفي مصلحي بالطبع اي القشرات العليا لكل طائفة مع الأخرى/يات بينما تبقى قواعدها الفقيرة متحفزة لذبح بعضها بعضا. وعليه، فإن تحالف القشرة العليا لمختلف الطوائف لا ينفي أن السلطة في لبنان طائفية بل يشير إلى تمترس هذا التحالف إلى درجة تجهيل قواعد الطوائف بحقيقة هذا التحالف المناقض لها والإبقاء على هذه القواعد جاهزة للتذابح لصالح قشرات متحالفة متآلفة وهذا ليس مجرد التباس بل انحباس الوعي.
لقد جرى بناء هذا البلد على يد الإمبريالية بناء طائفيا للحيلولة دون عروبته، ونظراً لنجاح هذه التجربة البغيضة تم تطبيق نفس الوصفة في العراق ولا تزال ناجحة حتى حينه وخاصة بعد تدمير القاعدة الإنتاجية واحتلال النفط خاصة.
يمكننا القول بأن لبنان الطائفي البرجوازي وإن كان وكراً للعدو الغربي ومتوافق من تحت الطاولة مع الكيان لم يتمكن أو لم يُطلق العنان العلني لتوجهاته خلال حقبة الصعود العروبي الأمر الذي دفعه للانتظار حتى هزيمة 1967. لكن دخول المقاومة الفلسطينية بعد مذبحة ايلول في الأردن إلى لبنان لجم الطائفية اللبنانية عن الذهاب إلى صلح علني مع الكيان.
لذا كان لا بد من انتظار توفر الفرصة لمنتصف السبعينات حيث وجدت الطائفية السياسية المرتبطة بالغرب الراسمالي وبالصهيونية انه لا بد لها من تفجير الوضع كي لا تتمكن الحركة الوطنية اللبنانية من الإمساك بالسلطة. وبتفجير الحرب المركَّبة “الطائفية والأهلية معا” في لبنان توفرت فرصة اقتلاع المقاومة الفلسطينية وهو الاقتلاع الذي أسس لمغادرة معظم فصائل م.ت.ف للكفاح المسلح واستبدال التحرير بالاستدوال. فحتى برجوازية الطوائف المؤيدة للمقاومة وافقت على اقتلاع المقاومة.وعليه بقيت السلطة الطائفية السياسية وبقي التقاسم الطائفي للسلطة باعتباره إسمنت الكيان اللبناني.
فهذه البرجوازية الطفيلية والكمبرادورية بمجموعها هي التي أصرت على خروج المقاومة الفلسطينية لحماية بيروت! وفي حقيقة الأمر كان ذلك لحماية مصالحها عموما، ولكي يتمكن الجناح المتصهين من توفير الفرصة للاعتراف بالكيان الصهيوني. لعل أحد الدروس المستفادة من هذا الاقتلاع هو إجماع قيادات الطوائف ضد المقاومة الفلسطينية وعدم إجماعها ضد الاحتلال الصهيوني، هذا دون أن نتحدث عن موقفها من عروبة لبنان ودون أن نستثني أخطاء المقاومة وصعود تيار التخلي عن مشروع تحرير فلسطين والتسوية مع الكيان الصهيوني في قيادتها، وتقاعس دول الطوق التي لم تسمح للمقاومة بالعمل من أراضيها فأُلقي العبء على لبنان وحده مما سهَّل رفض برجوازيته الحاكمة المالكة لبقاء المقاومة في أراضيه.
هنا لا بد من معترضة بان رفض عمل المقاومة من أراضي دول الطوق قد وضع باكرا اساس نهايتها واستسلام قيادة م.ت.ف وقيادات عديد الفصائل بمعنى أن التطور الطبيعي كان بعد هزيمة 1967 أن تستمر المقاومة والاستنزاف على كامل الحدود ومن داخل الأرض المحتلة مما يُطوِّر مقاومة عربية جامعة. وعليه إذا كانت المقاومة الفلسطينية ليست شبيهة بالفيتنامية فإن المحيط العربي لم يكن لا الاتحاد السوفييتي ولا الصين الشعبية وهذا يفتح على الطبيعة الطبقية للقيادة الفلسطينية وللأنظمة الحاكمة بما هي قطرية لا عروبية لا تثق بجماهيرها ولا تتخندق في موقع نقيض للإمبريالية والصهيونية، هي مشاريع قُطرية لا قومية. وعليه، كان يجب أن يكون ما كان.
وإذا صح تشخيصنا لهذه البرجوازية كطائفية وكمبرادورية، فهذا يعني أنها بالضرورة ضد المقاومة حتى في دفاع المقاومة عن أراضي لبنان نفسه، وهذا ما دفع راس السلطة هناك لعقد اتفاق 17 ايار مع الكيان الصهيوني والذي كلفه حياته، وبهذا تم إرساء حاجز الصد ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، لكنه لم يضع حدا لسيطرة تحالف البرجوازية الطائفية الحاكمة سياسيا والمالكة اقتصاديا.
يدل تَوْق الجناح البرجوازي الطائفي للصلح مع الكيان الصهيوني على ان الطائفية، كونها خصم للأمة، هي حليف محتمل، لكن من مستوى أداة، للعدو وتحديدا للصهيونية والإمبريالية.
لقد حقق الكيان الصهيوني إنجازا هائلا باقتلاع المقاومة الفلسطينية من لبنان، لكن أطماعه التوسعية بالبقاء في الجنوب اللبناني بما هو كيان استيطاني خلقت له بذور فناء أطماعه في لبنان اي نقيضه وهي المقاومة اللبنانية بدءأ من القومي السوري فالشيوعي فحزب الله بشكل خاص.
وهذا نقل معظم الطائفة الشيعية من التحوصل المذهبي إلى الانفتاح الجهادي المقاوِم مما يثبت أن المشكلة ليست في الطائفة بل في الطائفية اينما اتجهت. ولكن جهادية حزب الله التي أنجزت تحرير معظم الجنوب اللبناني تكاد تتوقف هناك أي قلما نسمع إشارات بان الهدف هو تحرير فلسطين وإن كان هناك كثير من القول عن الصلاة في القدس أو تحرير القدس. وقد يرتد هذا إلى تلافي استثارة الطائفيات المتآمرة لصالح الكيان الصهيوني لا سيما وأنها تعتبر اية مقاومة باتجاه تحرير فلسطين هي عدوان على “الصديق الصهيوني”. وبالمقابل لا يوجد فصيل فلسطيني لا ينادي بتحرير فلسطين بينما أكثر هذه الفصائل غارق في الاستدوال!
يواجه النظام السياسي البرجوازي الطائفي في لبنان، بكلا جناحية الذي في السلطة والذي خارجها، اليوم تحدياً مركَّبا:
فمن جهة لم تتم تلبية احتجاجات الطبقات الشعبية منذ 17 أكتوبر ولكن الأخطر أنه لم يدم طابعها الجذري ولم تبلور قيادة جذرية لها. بل تم الاحتيال عليها منذ يومها الثالث، وها هو ، أي الحراك، اليوم يتم توجيهه طائفيا بشكل مضاد للوطن اللبناني نفسه في موقفه من سلاح المقاومة وتشغيله لإعاقة الحكومة الحالية والتي لا يتناقض موقفها مع موقف القيادات الطائفية التي خارج الحكومة بل إن موقع الحكومة كان معروضاً بشكل “مهين” إلى حد ما على الحريري الذي تمنَّع ليعود فيندم!.
لقد عاد سلاح المقاومة في مركز الخلاف الطائفي في لبنان. ومهما حصلت تبدلات في التخندق، فإن معظم قيادة الطائفية السنية ومؤسستها الدينية هي ضد المقاومة وحتى ضد حكومة رئيسها سني بحكم التقاسم الطائفي. وبالمقابل فإن أكبر تيار مسيحي هو مع المقاومة بينما المؤسسة الطائفية المارونية وتيارات اخرى وازنة هي مع الكيان .
تتماحك القيادة الطائفية في لبنان سياسياً /سلطويا لكنها لا تختلف على النهج الاقتصادي النيولبرالي التابع. فالخلاف في البيت ولكن أمام السيد المعولم فالجميع مهذب. هذا ما يمكن قراءته بشكل أولي في الخطة الاقتصادية للحكومة الحالية في توجهها إلى صندوق النقد الدولي باستثناء ممثلي حزب الله. وهذا يذكرنا بخطة حكومة الحريري التي قامت على بيع الموجودات. كما هو واضح فحكومة دياب قررت الاقتراض من الصندوق دون اللجوء لبيع موجودات الدولة. لكن شروط الصندوق هي مجحفة من ناحية ومُرضية للولايات المتحدة من ناحية اخرى لأن أية استدانة بالدولار اليوم خاصة هي مساهمة في إسعاف الاقتصاد الأمريكي بإخراج الدولار من امريكا وهو تمتين ارتباط الاقتصاد اللبناني بالولايات المتحدة. وربما هذا ما يفسر عدم هيجان الأمريكي. وإذا ما تم تمرير الخطة، يكون السؤال كيف وعلى أية عوامل سوف يعتمد البلد في التسديد؟ وهل ستتجه الحكومة إلى دعم مواقع الإنتاج، أو تكوين قطاع عام، وهذا بالطبع ما لا يسمح به الصندوق اليوم وخاصة على ضوء قراره بأن لا يُقرِض إلا للأنشطة المتعلقة بالطبابة.
ربما قطعت حكومة دياب الطريق على الفريق الطائفي الخصم، ولكنها لم تقدم للمحتجين شيئا، او لم تقدم بعد. وهذا لا يشكل مازقا للتيار الوطني الحر ولا لحركة أمل بل لحزب الله حيث تتم هندسة اقتصاد البلد، بلده، بيد خصومه واعدائه.
لا يستطيع حزب الله مغادرة السلطة وليس من مصلحته ولا مصلحة لبنان ومحور المقاومة ذلك، ولكن من الصعوبة بمكان أن يتجرَّع السُم!