لبنان في عنق الزجاجة – زهير كمال
ما زال عنق الزجاجة يضيق على لبنان وبخاصة بعد انفجار ميناء بيروت المروع . لقد مرّت كثير من الشعوب في مثل هذه الحالة وتخطّتها، ولكن سجّلت في التاريخ على أنها كانت نقطة فاصلة في حياتها.
في عام 1917 اجتاحت روسيا وكانت عاصمتها آنذاك بتروجراد (لينينغراد ثم سانت بطرسبرج الآن) مظاهرات عارمة لعدة أشهر بسبب الجوع. وفي تلك الأيام كان العالم يشهد حربه العالمية الأولى، وكانت روسيا ما تزال تعيش عصر الإقطاع، وفي نهاية تلك المظاهرات انضم الجنود الى المتظاهرين وأسفرت الانتفاضة عن نهاية القيصرية وبداية عصر جديد مع روسيا البلشفية. فلم تكن أسرة رومانوف الحاكمة تستطيع توفير الخبز لشعبها، فقد كانت نظرتها له أنه يستطيع توفير الجنود من أجل حربها مع الألمان، ولم يخطر في تفكيرها توفير الطعام للأهالي. لم يكن جوع روسيا في ذلك الوقت بسبب عوامل خارجية ولكن هذه العوامل كانت المفجر لوضع داخلي متأزم، كانت روسيا لا تزال تعيش عصر الإقطاع الزراعي، بينما كانت أوروبا تعيش في عصر الصناعة.
يواجه لبنان منذ تأسيسه إقطاعاً من نوع آخر يمكننا أن نسميه الإقطاع السياسي، فمنذ الاستقلال في أواخر عام 1943 وحتى يومنا هذا ما يزال التقسيم الطائفي يحكم العلاقات السياسية.
كانت فرنسا تريد موطئ قدم لها في الشرق عبر وضع دستور غريب يعزز الفصل بين أبناء الشعب الواحد، لم يكفها المساهمة في تقسيم سوريا الطبيعية الى أربع دول من بينها فلسطين التي خلقت فيها كياناً لليهود عبر سايكس – بيكو، بل أرادت لطائفة من شعب لبنان أن تعتقد أن فرنسا التي تبعد عنها آلاف الكيلومترات هي التي تحميها وليس حاضنتها الطبيعية ولا أهلها الذين يقاسمونها ماء وتراب الوطن.
لا نجد كياناً طائفياً مثل لبنان في جميع دول العالم، لولا ما فعلته أمريكا مؤخراً من تقسيم العراق تقسيماً سياسياً يقوم أيضاً على الأعراق والطوائف، ولولا ما تحاوله إسرائيل من انتزاع اعتراف العالم بيهودية الدولة.
وفي استعراض بسيط لتاريخ لبنان الطائفي نجده سبباً لتدخلات عسكرية من دول عديدة كما يلي:
– تدخل أمريكي في لبنان عام 1958 وفي ثمانينات القرن العشرين والذي انتهى عام 1983 بتفجير قوات المارينز ومقتل 241 جندياً أمريكياً.
– تدخل فلسطيني منذ عام 1968 وحتى خروج القوات الفلسطينية عام 1982.
– تدخل إسرائيلي في العام 1978 وفي عام 1982 حيث غزت إسرائيل أول عاصمة عربية وانتهى التدخل عام 2000 على يد المقاومة اللبنانية.
– تدخل سوري منذ عام 1976 وحتى عام 2005.
ما سبق من التدخلات العسكرية في لبنان يغطي نسبة كبيرة من تاريخه منذ استقلاله، فضلاً عن التدخلات الأخرى من خلال النفوذ والمال، والذي كان بطله النظام السعودي حتى وصل الى حد إرغام رئيس الوزراء اللبناني على الاستقالة من خارج بلاده في سابقة تاريخية عجيبة.
وفي خضم هذه التدخلات السابقة شهد لبنان حرباً أهلية استمرت 15 عاماً 1975 – 1990 وأسفرت الحرب عن مقتل 120 ألف لبناني، وانتهت باتفاق الطائف الترقيعي الذي حافظ على التقسيم الطائفي على أساس لا غالب ولا مغلوب.
كما حفل تاريخ لبنان باغتيالات سياسية لم يشهد مثلها أي بلد آخر، وهذه بعض الامثلة:
رؤساء جمهورية
بشير الجميل 1982، رينيه معوض 1989.
رؤساء وزارات
رياض الصلح، رشيد كرامي، رفيق الحريري.
شخصيات عامة
كمال حنبلاط، معروف سعد، وعشرات آخرون.
بعد حرب تموز/ يوليو 2006 وفرت المقاومة اللبنانية استقلالاً كاملاً ناجزاً لهذا البلد، فقد ردعت اسرائيل الطامعة في مياهه، بل وصل الأمر بالمقاومة إلى حد حماية لبنان من أي غزو محتمل لظواهر مثل داعش والقاعدة. والغريب فعلاً هو عدم رضى الإقطاع السياسي عما تفعله المقاومة واستمرار مناكفتها. ولكن ماذا فعل الإقطاع السياسي في تلك الفترة وقد توافرت له حرية العمل؟ قام برفع مديونية لبنان الخارجية التي كانت صفراً عام 1994 الى قرابة 100 مليار دولار عام 2019، فهل استفاد لبنان من هذه الأموال؟ كل التقارير المؤكدة تذكر أنها صرفت على الاستهلاك ولم يتم بناء أي مشروع ذي قيمة وكان المستفيد الأول هو أمراء الإقطاع السياسي، وهكذا أصبح الناتج المحلي لا يغطي خدمة الدين العام.
وعندما يسأل الشعب اللبناني عمن يتحمل المسؤولية (تضيع الطاسة) ويضع كل فريق اللوم على الآخرين. فيرد الشعب بعبارة: (كلّن يعني كلّن). فقد تقاسم زعماء الطوائف الكعكة من خلال قوانين بالية تم الحفاظ عليها، فلا مصلحة لهؤلاء الزعماء بتطويرها وتحديث الدولة فهي بمثابة البقرة الحلوب لهم.
انتشرت المظاهرات الشعبية في كامل لبنان بتاريخ 17 تشرين اول/ اكتوبر 2019 ولا بد من الإعتراف أن المتظاهرين كانوا من الشباب العابر للطوائف، فمن يهتم بالطائفة إذا كان جائعاً أو عاطلاً عن العمل؟
وقد نشرتُ مقالاً بعد أسبوع من بدء تلك الانتفاضة بعنوان (الانتفاضة اللبنانية وحسابات الحقل والبيدر) قلت فيه إن اللحظة التاريخية مناسبة للقضاء على هذا المرض الخبيث المتمثل في الطائفية، وأن على الرئيس عون أن يستفيد من تجربة سابقة عام 1958 عندما قام فؤاد شهاب بانقلاب وأنهى فترة مؤلمة من تاريخ لبنان، وأقتبس منه النقاط التالية:
أن يقوم الرئيس عون بإعلان حالة الطوارئ في البلاد لمدة 3 أشهر.
وأن يعتبر الحكومة الحالية في حكم المستقيلة وتعتبر حكومة تصريف أعمال حتى إشعار آخر.
وأن يعتبر مجلس النواب الحالي محلولاً.
وأن يعتبر لبنان دائرة انتخابية واحدة ويتم عقد انتخابات نيابية بعد 3 أشهر.
وأن يطلب من أثرياء لبنان التبرع لسداد الدين العام (ربما على حسن نصر الله التبرع بمبلغ 100 دولار من راتبه البالغ 1300 دولار شهرياً ).
وأن يشكل محكمة خاصة لمحاكمة الفاسدين حتى لو كانوا وزراء في حكومة تصريف الأعمال. ( ولنا عبرة في التحقيقات مع الفاسد بنيامين نتانياهو وهو رئيس وزراء).
وأن يقوم بتشكيل هيئة خاصة لاسترداد الأموال المنهوبة.
انتهى الاقتباس.
فرئيس الجمهورية هو الوحيد بحكم منصبه من يستطيع وما يزال قرع الجرس. وللأسف أثبت الرئيس عون أنه لا يستطيع بل ولا يفكر في إنهاء مشكلة لبنان مرة واحدة وإلى الأبد. واستمرت الأزمة تراوح مكانها بل وتفاقمت الى أن وصل الأمر الى انفجار بيروت في 4 آب/ اغسطس، حيث لم يعد الأمر يقتصر على الاغتيالات الفردية ووصلت الى اغتيال شعب باكمله.
كان أول الزائرين للبنان بعد الانفجار رئيس فرنسا ماكرون، جاء ليطمئن أن المعادلة التي وضعتها فرنسا ما تزال تعمل بكفاءة، فهمهم بكلمات عن ضرورة اتفاق أمراء الطوائف والخروج من الأزمة، وهو يدرك جيداً ان لا أحد سيستمع اليه.
ما العمل؟
الوضع اللبناني هو جزء من الوضع العربي العام، هناك صراع في المنطقة بين الشعوب العربية جميعها بقيادة محور المقاومة اللبنانية الفلسطينية وبين الغرب الاستعماري ورأس حربته إسرائيل والتوابع العربية من رجعية عربية وإقطاع سياسي، ولن تنسى إسرائيل هزيمتها في حرب تموز / يوليو 2006 وتحاول كسب الصراع بالنقاط، وضمن هذه النقاط إفلاس لبنان وتدمير بيئة المقاومة. وعلى المقاومة اللبنانية الانتباه لما يحاك لها من سحب تدريجي للبساط من تحت أرجلها، ولا ينبغي لها الوقوف موقف المتفرج وترك أمراء الإقطاع يخططون للخطوات القادمة، على سبيل المثال استقالة النواب من المجلس النيابي ويشبه في ذلك الهرب من السفينة الغارقة وقد كانوا سبب غرقها.
إن الضغط على الرئيس عون لاعلان حالة الطواريء في البلاد وحل مجلس النواب واعتبار لبنان دائرة انتخابية واحدة على أساس غير طائفي هو الحل الوحيد الذي سيرضي الجماهير اللبنانية ويخرجها من المحنة الطويلة التي تعيشها.