لطفي طه جسداً في برلين وروحاً الى فلسطين بقلم نضال حمد
ها هو لطفي طه يمضي عائداً روحاً الى فلسطين التي أحبها حباً جماً، فيما جسده سيوارى الثرى في برلين… هذه المدينة التي عاش فيها جل سنوات عمره، منذ غادر مخيم عين الحلوة الفلسطيني في لبنان سبعينيات القرن الفائت، ليحط رحاله لاجئاً في عاصمة الرايخ.
في هذه العاصمة عاش لطفي حتى مماته يوم أمس في ذكرى وعد بلفور اللعين، المشؤوم، وعد عنصريي وفاشيي أوروبا للحركة الصهيونية، باقامة وطن قومي لليهود ( المكروهين والملاحقين في أوروبا وفيما بعد في ألمانيا بالذات) في فلسطيننا التي تكالبت عليها كل الجهات.
كان لطفي كما كل أقرانه وجيله من شباب المخيمات الفلسطينية يحلم بالانتصار والحرية والعودة عبر المقاومة الى فلسطين. فالتحق مبكراً بمعسكرات أشبال الثورة، وبالذات في حركة فتح التي سماها بعد مجزرة سلام أوسلو بحركة ( فتحية)… جاء ذلك في حوار كنت أجريته معه في برلين يوم تعرفت عليه لأول مرة سنة 2012.
كلامه لم يكن وليد الصدفة ولا للنكتة بل هو نتاج قناعاته بعد عشرات السنين من تركه لفتح وتركه للثورة، ومن ثم هجرته من المخيم في لبنان الى مخيم جديد في برلين. إنه نتاج لحكاية طويلة تخص أجيالا عديدة من شباب فلسطين المضحين، الفدائيين، الذي خذلتهم قياداتهم وخانتهم شرّ خيانة.
أحببت لطفي منذ اللقاء الأول الذي جمعني به على شارع “زينون اليه” في منطقة “نيوكولن” في العاصمة الألمانية برلين. الشارع معروف باسم شارع العرب في برلين. كان اللقاء الأول صدفة وعلى وجبة مناقيش بزعتر في فرن المدينة الواقع على شارع عرب برلين. يومها عرفت أن لطفي من مخيمنا عين الحلوة، وهو من بلدة من صفورية، وأن والده رحمه الله هو شيخ أحد مساجد مخيمنا. كان متحمساً للحديث ويقصف بكلامه كل من خذلوا المخيمات والقضية… وكما كان يقول خانوا ( الفدائية) أي الفدائيين. وكان يحكي كلاماً يخاف أن يقوله بعض المثقفين الفلسطينيين في برلين وألمانيا، كان يقول الثورة التي أنجبت الفدائيين أنجبت أيضا المستسلمين. يسميهم بالاسم ودونما مجاملة.
لم يكن لطفي قائداً سياسياً وحزبياً وفصائلياً أو مثقفاً أو من مدعي الثقافة، كان بسيطاً كطفل في حيّ الجميزة بمخيم عين الحلوة. وبريئاً مما فعله قادة المصادفة بثورة وشعب ومخيمات وقضية ونضال طويل، تعمد بالدماء، وعبدته عظام وجماجم وجثامين الشهداء. كما وعززته جراح الآلاف وتضحيات الملايين من الفلسطينيين والعرب، الذين هبوا للنضال والقتال في سبيل حرية فلسطين… وفي سبيل حريتهم أنفسهم من أنظمة القمع والاستسلام والعار. فالتضحيات العظيمة أخذت قضيتنا الى العالمية، لتتشرف فيما بعد بتضحيات شرفاء وأحرار العالم الذين التزموا بقضية فلسطين.
لا يوجد في حيّ العرب أو على شارعهم البرليني من لا يعرف لطفي طه .. بدراجته النارية التي كانت تذكرنا بمحمولات الفدائيين في شوارع لبنان أيام الحرب الأهلية. كل صباح يطل لطفي فتلوح من بعيد أعلام فلسطين ولبنان وحزب الله وغيرها من الأعلام على دراجته النارية المتحركة ببطء. من بعيد كانت تصلنا أصوات أناشيد الثورة الفلسطينية، كأننا في مخيم عين الحلوة وليس في العاصمة الالمانية برلين. يبقى لطفي يجوب الشوارع في ضاحية “نيوكولن” حتى وقت متأخر ،، بعد جولاته وصولاته يعود عند المساء الى أحد المقاهي الفلسطينية حيث كنا نجلس ونتحدث حتى وقت متأخر من الليل.
حرصت كلما زرت برلين على اللقاء به والاستماع لآخر أخباره. باعتقادي أنه هو أيضا كان يحب اللقاء بي والاستماع لما أقوله. خلال 7 سنوات من عمر معرفتي به التقينا مرات كثيرة، كلها كانت في المقاهي العربية والفلسطينية المنتشرة بكثافة على شارع العرب البرليني. في آخر مرة التقيته كانت تبدو عليه علامات المرض وبشدة، نصحته أن يذهب ويراجع الطبيب لأنني عندما شاهدت قدمه تيقنت أنه يعاني من التهابات حادة و غارغرينا .. قلت له اذهب الى الطبيب ولا تهمل قدمك فأنت تعاني من مرض السكري وهذا خطير .. قلت له لا تهملها فإذا أهملتها ربما في المرة القادمة سآتي الى هنا وأراك بلا قدمك. للأسف هذا ما حصل بعد فترة إذ علمت أنهم بتروا قدمه وأن حالته الصحية ساءت كثيراً وأنه أدخل مصحاً وبقي هناك حتى وفاته.
خلال زيارتي العابرة الى برلين قبل شهرين لم أستطع زيارته بسبب ضيق الوقت، ويمكنني القول أنها المرة الوحيدة التي زرت فيها برلين بعد تعرفي عليه سنة 2012 ولم ألـتق به هناك.
أما الآن وقد غدت برلين بلا خيالها الشجاع، ورافع رايات فلسطين على شوارعها وفي أزقتها، لا يسعني سوى الترحم على روحه ومعاهدته بأننا ماضون على طريق المقاومة والعودة والتحرير حتى استعادة كل فلسطين.
وداعاً يا لطفي ..
لروحك السلام ..
نضال حمد في الثاني من تشرين الثاني – نوفمبر 2019
لطفي طه جسداً في برلين وروحاً الى فلسطين