لقاء مع (مايا تسينوفا) أشهر مستشرقة بلقانية
القلب فلسطينيّ واللّسان عربيّ والنّضال عقيدة ::: أجرى اللقاء معها الأديبة د.سناء الشعلان
في حضرة مايا تسينوفا: لا يمكن أن تراها إلاّ والحطّة الفلسطينيّة تستلقي على كتفيها بمحبّة وإكبار ودعة ومحبّة.قابلتها بالثّوب الفلسطيني الذي يحمل إرث نساء فلسطين الماجدات اللواتي يلدن من الموت حياة ومن القسوة صبر ومن الألم انتصار،يليق بها أن تُقابل بالثّوب الفلسطيني إكراماً لفلسطينيتها المخلصة التي اختارتها اختياراً،ولم ترثها قدراً أو نسباً.هي فلسطينيّة مثل أيّ فلسطيني حرّ،لسانها عربيّ فصيح مثل أيّ إيقونة شعر،تعرف معنى النّضال،ومُنحت الجواز الفلسطينيّ تقديراً لحبّها لفلسطين وأهلها،ولاتخاذ قلبهاً معبداً للنضّال من أجل القضية الفلسطينية.تنام على الحرف العربيّ،وبه تتنفّس.إنّها (مايا تسيتوفا) المستشرقة البلغارية الأشهر في دول البلقان،والأقرب إلى كلّ قلب يقابلها.
قابلتها في العاصمة البلغاريّة صوفيا،وكان لي معها هذا اللقاء إثر حضور الكثير من الفعاليات برفقتها،حيث تطير من مكان إلى آخر ومن فعاليّة إلى أخرى لأجل دعم الحشد للقضية الفلسطينيّة.
-
تتكلمين العربيّة بطلاقة مدهشة.فكيف بدأت علاقتك بالعربيّة؟ وكيف قرّرت أن تكوني سادنة من سدنتها؟
– لست متأكدة بأنني أستحق وصفي بالسادنة، علماً أنني، من حسن حظي، أعرف بعضاً من سدنتها شخصياً ولا يسعني إلا السعي إلى اتباعهم عبرة وقدوة. كنت في التاسعة عشرة وخريجة مدرسة لغة ألمانية، وبعد عشر سنوات من دراسة هذه اللغة كنت أريد شيئاً مختلفاً كلياً، فقد هيأت لنفسي مفاجأة باختياري لاختصاص “اللغات الشرقية” في كلية “اللغات الغربية” بجامعة صوفيا (كان اختصاصاً حديثاً تماماً ومن هنا التسمية الغريبة وغير المنطقية، مما تسبب في تغيير اسم الكلية بعد عدة سنوات – إلى كلية اللغات الكلاسيكية والحديثة). يمكن القول باختصار إن لقائي مع اللغة العربية كانت صدفة ضرورية. فقد أدركت منذ الشهر الأول من تلك السنة الجامعية الأولى أنني وجدت ما كنت أبحث وأحتاج إليه.
-
هل اللغة العربية صعبة التّعلم؟ وهل تشعرين أنّها أصبحت بمثابة اللغة الأم لك؟
– هل من جمال خالٍ من الصعوبة؟ الجمال من طبيعته صعب المنال. كثيراً ما أسمع من طلابي السؤال خلال كم سنة تعلمت العربية، أما جوابي الوحيد والذي لا يتغير فيه إلا عدد السنين، فهو أنني أتعلمها منذ 40 سنة (حالياً). لكنها لغة كريمة، فقد جادت عليّ بأول “اكتشاف” قمت به لنفسي في الشهر الأول من دراستي الجامعية، لما أدركت أن العربية قد تكون اللغة الوحيدة في العالم (على الأقل من اللغات التي مرت عليّ) والتي تشتقّ فيها كلمة الصداقة من الصدق… أظن أن هذا الصدق المتبادل بيني وبينها منذ ذلك الحين هو الذي يساعدني على “تناسي” الصعوبات.
-
أنت تعملين بتدريس اللغة العربية في جامعة صوفيا.فهل تواجهك صعوبات في هذا الشأن؟
– التدريس عمل إبداعي، أجد فيه اللذة وفي الوقت نفسه أنظر له بقمة المسؤولية. لأنه يعطيني فرصة التواصل مع جيل المستقبل. الصعوبات “الوجودية” موجودة في كل عمل، لكن المهم استعداد الشباب لتلقي العلم، وهو ما يعوض عن كل شيء.
-
كيف بدأت علاقتك بالقضية الفلسطينية؟ وإلى أين انتهت بك؟
– كانت البداية تعداد أحد أساتذتي في التاريخ العربي الحديث في الصف الثاني – وهو سعادة السفير المرحوم (زدرافكو فيليف) – لنماذج مواضيع البحوث الذي كان علينا إعداده تمهيداً لتقديم الامتحان، وعلى ذكره “القضية الفلسطينية” أدركت أنني لا أعرف شيئاً في هذا الموضوع على الإطلاق، فدعوني أكتب بحثي فيه، لعلي أتعلم… ربما كانت هذه هي الصدفة الضرورية الثانية في خياراتي الجامعية. كانت السنة 1976… بعد صيف تل الزعتر… الذي لم يترك أحداً منا لا مبالٍ، خاصة أننا كنا قد تعرفنا على أوائل أصدقائنا العرب في صوفيا وكانوا من الطلاب اللبنانيين والفلسطينيين وكنا قد شاركناهم في إحياء بعض مهرجاناتهم في صوفيا… بعد سنوات، لما التقيت سعادة السفير (فيليف) وهو على رأس بعثة السفارة البلغارية في طرابلس / ليبيا سنة 2006، قدم لي هدية من أثمنها – كراسه الصغير الذي كان قد كتبه في نفس السنوات تقريباً لما كان أستاذي في الجامعة. وكتب لي إهداء – أنه يتمنى مني كتابة امتداد لهذا البحث إلى يومنا هذا.
أما إلى أين انتهت بي هذه العلاقة، فأعتقد أنها تحولت إلى انتماء واعٍ أتمنى وأتوقع منه ألا ينتهي إلاّ بانتهائي.
-
دائماً تضعين الحطّة الفلسطينية على كتفك.لماذا؟
لأنها تعبر عني… أتذكر إحساسي، لما كنا نشارك الشباب الفلسطينيين في مهرجاناتهم في السنوات الجامعية، فألبسونا الحطة لأول مرة للمشاركة في الدبكة الفلسطينية! كان إحساساً يشبه التقديس.
-
لقد زرت فلسطين وصليت في المسجد الأقصى.بماذا شعرت بهذه الزيارة؟
– مجرد دخول الأقصى يجعلك لا تعود تحس بشيء من نفسك – إلا بهيبة المكان المقدس الذي تذوب فيه أنت ولا يبقى إلا قدس الأقداس.
-
حدثينا عن زيارتك لبعض المدة الفلسطينيّة؟وبماذا شعرت آنذاك؟
زياراتي لفلسطين أشبه بالأحلام… كلما وجدت نفسي على أرضها أبدأ بأخذ الصور بجنون، أصور كل حجر، كل زاوية كل بلاطة… من إدراكي وإحساسي بأنني أقوم بذلك نيابة عن عدد ضخم من أصدقائي الفلسطينيين الممنوعين من المشي على هذا البلاط الطاهر… ومن لهفة التصوير أحياناً أنسى التأمل – في سياق السعي الحثيث إلى الاحتفاظ بكل منظر، وكل لحظة،لكنني أعود إلى هذه الصور وأستمتع بالهواء والأرض والألوان والحياة. أحب القدس (من لا يحبها)، لكنني أحب رام الله لاحتضانها محمود درويش، وأحب نابلس لأصوات أطفالها الذي استقبلونا مع وفد الفنانين البلغار في فعاليات القدس عاصمة الثقافة العربية سنة 2009، وأحب الخليل التي دمعت عيني وأنا أترجم كلمات رئيس بلديتها: لعلي رئيس البلدية الوحيد في العالم والذي يمنع من المرور في أحد شوارع مدينته – كي يتمكن أولاد المستوطنين من لعب الكرة هناك… وأحمل معي ألوان الفخار الخليلي ورائحة الصابون النابلسي ولذة الكنافة النابلسية… لكنني أحمل معي كذلك رائحة بحر غزة وعبق زهر ليمونها مع أنني لم أشمه إلا في أحاديثي مع أصدقائي الغزاويين من الداخل ومن أرجاء العالم… ونكهة برتقال يافا مع أنني أمتنع بدون تردد من شرائه إذا ما ظهر في الأسواق البلغارية… وأشتاق للبروة التي لا أعرف عنها سوى اسمها واسم ابنها…
-
أنت مساندة للقضية الفلسطينية.ألا تواجهك مشاكل بسبب ذلك في مجتمعك؟
– كلنا نواجه مشاكل، وهي لا تقارن مع الموت الذي يواجهه الأطفال في الداخل… الاتهام باللاسامية على سبيل المثال أمر قابل للمواجهة ومن الضروري مواجهته وعدم السكوت عنه، لأنني لا أعتبر نفسي لاسامية بأي شكل من الأشكال. إلا إذا كان الانحياز إلى جانب الحق يوصف باللا سامية… لكن عندي أصدقاء يهود يشاطرونني هذا التفكير وأرى في ذلك ومضة أمل. رأيي أن القضية الفلسطينية قادرة تماماً على الدفاع عن نفسها، يكفي إعطاؤها الكلمة، أي الفرصة لتتحدث عن نفسها. رأيي أن معظم الناس الذين لا يؤيدون القضية الفلسطينية بكل عزم، هم الذين لا يعرفون عنها ما يجب أن يعرفوه. حتى أنا التي أعتبر نفسي منحازة ومطلعة إلى حد ما، أتفاجأ من بعض ما أراه في الواقع، فما بالكم الناس الذين لا يسمعون عنه إلا من وسائل الإعلام “الرسمية”. أتذكر مجموعة الفنانين البلغار الذين رافقتهم سنة 2009، أذكر أسئلتهم وتساؤلاتهم في البداية وعيونهم التي دمعت عند توديع مستضيفينا الفلسطينيين وكلماتهم: من الآن فصاعداً لفلسطين ثلاثون سفيراً في بلغاريا.
-
لماذا قررتِ أن تنحازي إلى القضية الفلسطينيّة بهذا الشكل؟
– هذا أمر لا يمكن تسميته بـ”قرار” إنما هو شعور ينمو وينتابك وفجأة تجد نفسك مستعداً لمواجهة كل شيء وكل واحد…
-
لقد منحتك الدولة الفلسطينيّة جواز سفر فلسطيني اعترافاً بدورك بدعم القضية الفلسطينية.ماذا يعني لك هذا الجواز؟
– تجسيد رائع لهذا لانتمائي… دليل على “الحب من طرفين”… مسؤولية أمام العالم…
-
لقد ترجمت الكثير من الأدب والأفلام من العربية إلى البلغارية.ماذا ترجمت بالضّبط؟ وما كان دافعك نحو اختيار هذه الأعمال فقط؟
– من الكنوز الخاصة باللغة العربية وهو كنز لا يحظى بالتقدير الكافي خارج حدود الوطن العربي، كون اللغة قاعدة لظاهرة فريدة من حيث أبعادها وأهميتها، هي ظاهرة الأدب العربي المعاصر. حيث أن القراء في اثنتين وعشرين دولة في العالم يقرأون ويعجبون بأعلام الأدب العربي ويقبلونها خاصة بهم بغض النظر على جنسياتهم. فمهمة المستشرقين والمترجمين منهم على وجه الخصوص، وهي مهمة أشبه برسالة، إطلاع القراء في بلادهم على هذه الظاهرة وما تحتويه من ثروات تغني الحضارة العالمية. بطبيعة الحال من المستحيل متابعة الظواهر الأدبية والثقافية في العالم العربي الشاسع،إلا عن طريق الاعتماد على الأصدقاء الأوفياء من الأدباء والمثقفين والمتذوقين، ومع ذلك تبقى هناك رقعة أكثر من اللازم للصدفة والعثور على أسماء وعناوين… ربما كان حظي سعيداً لأنني انطلقت من أسماء تمثل ذروات الأدب العربي، أقصد جبران خليل جبران ومحمود درويش… وفي نفس الوقت كلاهما من الذروات التي تتطلب المسؤولية من نوع خاص، علماً أنني كنت أسمع عن نفسي أنني “مترجمة جبران أو مترجمة درويش”. وهنا أتى دور حظي الجيد من جديد، حيث أنني تمكنت من العودة إلى نصوص جبران وإعادة النظر فيها بعد عقد من الزمن للطباعة الثانية، وبنفس الشكل تمكنت من إنجاز كتاب مختارات جديد كلياً لمحمود درويش. لكن سرعان ما أصبح حرصي على إقناع القارئ البلغاري بأن الأدب العربي لا يقتصر على جبران ومحمود درويش. فقد أضفت أمين الريحاني، ومختارات من الشعر الفلسطيني والكويتي وبعض العناوين من الأدب العراقي واللبناني والليبي في كتب مستقلة وفي مجموعات مكرسة لأدب الشرق. أما الأفلام فلم أتخطى حدود السينما الفلسطينية، أذكر منها “ملح هذا البحر” و”أمريكا” وخاصة “باب الشمس”. أما الاختيار فمن أهم دوافع المترجم أنه يقدم على الترجمة إذا شعر بالعجز عن التحمل بنفسه لجمال النص الذي عثر عليه… فأحس بالحاجة إلى تقاسم عبء هذا الجمال مع قراء يعجزون عن قراءته بلغة الأصل… أ وربما المترجم له عين حسود من نوع خاص – إذ يعثر على نص يجعله يقول لنفسه: يا ليتني كنت أنا الذي كتبته!… فيقدم على ترجمته… ولحسن حظي لا أزال أتمكن من تطبيق المبدأ الذي أقول لطلابي إنه من المفترض أن يسترشد به مترجم الأدب دائماً، ألا وهو أن أترجم فقط نصوصاً تعبر عني بشكل أو بآخر…
-
هل تواجهك صعوبات في ترجمة الأدب العربي إلى البلغاريّة؟
– الصعوبات من الناحية اللغوية أفضّل تسميتها بالتحديات، ومنها تأتي لذة الترجمة أصلاً. لكن هناك صعوبات قد أصفها بالتجارية، وهي تعود إلى تهرب الناشرين من إصدار الأدب العربي – لا أعرف كيف أسمي هذه الظاهرة بكلمات أخرى، إذا كان عندي على سبيل المثال كتاب “ملحمة الحرافيش” بإهداء من الأستاذ نجيب محفوظ إلى القارئ البلغاري خصوصاً، وحتى الآن لم أتمكن إلا من نشر الصفحات العشر الأولى منه في مجلة أدبية كانت تصدر “زمان”… لكن المجلات الإلكترونية جاءت لتعبئ هذا الفراغ جزئيا ولتجعل المبادرة (والمسؤولية) كلياً بين أيدي المترجمين… وأنا أعتبر نفسي محظوظة لكون ترجماتي لمحمود درويش كلها صادرة بمساعدة السفارة الفلسطينية (باستثناء كتاب صغير صدر في الثمانينات عن دار نشر حكومية بلغارية متخصصة في الترجمة من اللغات الأجنبية، والتي لم تعد موجودة).
-
كيف تلقى المشهد الثقافي البلغاري هذه التّرجمات؟
– اشعر بسعادة لكون القارئ البلغاري مهتم ومقبل على الأدب العربي، خلاف الناشرين إن جاز التعبير. بدليل أن دائرة أصدقائي تتسع يوماً بعد يوم من دوافع الاهتمام بترجماتي الارتجالية والعاطفية… لا بل أننا من خلال منتدى الثقافة العربية الذي أسسه البعض من طلابي، قد أقمنا سلسلة من الأمسيات لقراءة نصوص أدبية عربية مترجمة، وأصبح لنا جمهور من الأصدقاء المتذوقين، ورغم أن هذا النوع من الفعاليات غير مرتبط بنشر النصوص على ورق، إلا أن اللقاء مع أصدقاء أهم من كل شيء.
في نفس الوقت أسمح لنفسي أن أفتخر بأن المثقفين والأدباء البلغار أصبحوا يعرفون بعض الأعلام من الأدب العربي من خلال ترجماتي.
-
لقد ترجمت لمحمود درويش أكثر من عمل من العربية إلى البلغارية.ما سرّ انحيازك لدرويش؟وماذا أضافت هذه التجرية لمايا تسينوفا المترجمة والمستشرقة والمبدعة والإنسانة؟
– تنشئ الترجمة علاقة من نوع خاص بين المترجم وأديب(ه). فيها من الحب والمسؤولية والاعتماد والثقة المتبادلين. حتى الآن أصبحت “صيغة بلغارية” لكل من “ذاكرة للنسيان” و”في حضرة الغياب” و”الجدارية” ومختارات بالعنوان “لا بعد بعدك” والتي صدرت مؤخراً طبعتها الثانية الموسعة. أصلا لا أريد أن أكون قد ترجمت كل ما كتبه محمود درويش – ذلك أنني بحاجة إلى أن يكون لدي ما أتوقعه وأنتظره منه من مفاجآت جديدة، لا أريد أن أكون انتهيت من علاقتي به كمترجمة لنصوصه، لأن الترجمة ليست مجرد استهلاك النص إنما علاقة إيجابية فعالة به.
-
ما هو العمل الذي تحلمين بأن تترجميه من العربيّة إلى البلغاريّة؟
– رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة… تكملة “القصار” من نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب (فقد ترجمت 100 منها واستقبل القارئ البلغاري هذا الكتاب مستغرباً لعمق الحكمة والإنسانية والعدالة)… “يوميات الحزن العادي”… “سأكون بين اللوز”…
-
أنت دائماً موجودة في الحدث الفلسطيني بكلّ تفاصيله.أنت كما يقول عنك الفلسطينيون:فلسطينيّة حتى النّخاع.هل يرضيك هذا الوصف.
– بل يزيد من مسؤوليتي أمام نفسي وأمام فلسطين.
-
عملت في السّفارة الفلسطينيّة لسنوات عديدة.ماذا أضافت هذه التجربة إلى حصيلتك؟
– ولا أزال. لأنه هو العمل الذي يعطيني الإحساس بأنني مفيدة لقضيتي. أما من لا يجد هذه الإجابة مقنعة، فأذكره أنني بلغارية وأتواجد في بلغاريا، وهي هي الفرصة المثلى لخدمة القضية هنا في الفترة الراهنة.
-
برأيك الخاص هل العالم بحاجة إلى معرفة الكثير الحقيقي عن الثقافة العربية وعن القضية الفلسطينيّة؟
– على رأي المثل العربي “الجاهل عدو الآخرين”… فالعالم المعاصر جاهل لماهية العرب وثقافتهم وحضارتهم. لكن على رأي تكملة المثل العربي ذاته، فالجاهل عدو نفسه… أي أن العالم المعاصر الذي يسمح لنفسه بسهولة أن يجهل حقيقة الحضارة العربية، يصبح عدواً لنفسه لأنه يحرم نفسه من الاستفادة من كنوز هذه الحضارة. نعم، المزيد من المعرفة هو الطريق الوحيد لمعالجة هذا الجهل وهذا الظلم الذي يرتكب بحق العرب من خلال وضع علامة التساوي بين العرب والإرهاب… هذا ومن الغريب أن تاريخ القضية الفلسطينية وهو تاريخ أطول احتلال في التاريخ العالمي المعاصر، غير معروف للعالم مما يفسح المجال للمضاربات والتشويهات والأكاذيب. في نفس الوقت هناك عدد كبير من مؤيدي قضية الشعب الفلسطيني المدركين لجوهر قضيته والعاملين على نشرها رغم ما يواجهونه من عدم التفهم وصولاً إلى اتهامات في بعض الأحيان.
-
كيف هي صورة الفلسطيني والعربيّ في مخيال الإنسان البلغاري؟
-هذه الصورة للأسف متأثر إلى بشكل عام من الإعلام الخاضع للإملاء الخارجي… وفي نفس الوقت مع انفتاح العالم وزيادة فرص الاحتكاك والتعارف يزداد عدد البلغار الذين ينطلقون من انطباعاتهم ومعارفهم الخاصة، ومن تعرف على الواقع والإنسان العربي لا يمكن إلا أن يكتشف لنفسه التقارب القائم بين النفسية البلغارية والنفسية العربية والتشابه في العادات والتقاليد والعقلية… وهذه خير طريقة للتصدي للإعلام المغرض.
-
هل حرصك على خدمة القضية الفلسطينيّة كان دافعاً مهماً لك لإتقان العربيّة بشكل مميّز؟
– أفترض ذلك. فالحب أحسن دافع لتعلم لغة الحبيب. أضف إلى ذلك أنني منذ بداياتي في الترجمة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المناسبات الفلسطينية على اختلافها، وهذا ما مثل ممارسة وخبرة مكثفة جدا.
-
أنت خليط عجيب من الشرق والغرب من العربية والبلغاريّة.هذا الخليط ما هي حكمته في الحياة؟ وما خلاصة تجربته؟
– لا أستطيع الحزم على أن البلغارية لغة وعقلية عبارة عن عنصر غربي مقابل العربي الشرقي! بل أن بلغاريا أميل إلى الشرق مع أنها لا تدرك ذلك وهو أمر ينقلب عليها… في الوقت نفسه لا أعتبر الغرب مرادفاً للتقدم والحضارة كما لا أقبل الشرق مرادفاً للتخلف والبربرية. فهذه الحدود الفاصلة لا تمتد جغرافياً إنما يحددها الإنسان بوعيه. أين يقع اليابان – إذا طبقنا درس الجغرافيا عن كروية الأرض، قد نحدد موقعه بأقصى الغرب، أي بأغرب من الغرب الحضاري… لكن هذه فلسفة غير مثمرة. المثمر هو انطلاق كل واحد من نفسه… هنا أبتسم وأنا أصل إلى فكرة الجهاد الكبير… التي ما أشدها تخويفاً للغرب لعدم إدراكه إياها… وما أصعبها تطبيقاً على الشرق – لعدم إدراكه إياها كذلك…
-
كنت مترجمة فوريّة في كثير من اللقاءات السياسية الحسّاسة ولاسيما اللقاءات الرسميّة المهمة مع كثير من رؤساء العرب.ما أصعب لقاء قمت بترجمته من الناحية النفسيّة والشعوريّة؟ ولماذا؟
– الإحساس بالمسؤولية لا يكاد يختلف بين المستويات المتفاوتة من رسمية الترجمة. قد يكون “الخوف” من أشده عندما أترجم أمام طلابي! على كل، من أصعب اللحظات (والتي امتدت إلى ساعات) الاجتماع بين فخامة الرئيس البلغاري برفانوف والعقيد القذافي أثناء زيارة رسمية حدثت بعيد صدور الحكم الثاني بالإعدام بحق الممرضات البلغاريات الست والطبيب الفلسطيني. بالمناسبة، كان لي الشرف أن أكون مترجمة المحامين البلغار الذين شاركوا في تلك القضية أسوة مع المحامي الليبي البارز الأستاذ عثمان البيزنطي. وأذكر أنني وقفت حائرة لحظة اكتشفت أنني عاجزة عن الحياد في هذه القضية. لكن الحيرة لم تطل إلا لحظة لأنني وجدت لنفسي “المخرج” – هو أن أكون منحازة للطرفين – المحكومين وأهالي الأطفال… لأنهم كلهم كانوا ضحايا مصالح الغير. وطوال سنوات جلسات المحكمة ظل البلغار يسألونني ألا أخاف من السفر إلى طرابلس أسبوعياً، ولم أخبئ أبداً أمام الليبيين ما سبب تواجدي في طرابلس التي بقيت أصورها وأتجول في شوارعها وأتحدث مع أهلها… ولم يواجهني أحد بكلمة غير لائقة أبداً.
-
ماذا علمتك هذه الترجمات الفوريّة؟
– الثقة في النفس. وكذلك أن أطبق “الاكتشاف الذي قمت به في الصف الأول – عن كون الصداقة مشتقة من الصدق.
-
بماذا تشعرين عندما تلقبي بفلسطينيّة؟
– القناعة بالنفس. والشك في ما إذا كنت جديرة بذلك.
-
لكِ تجربة طويلة مع اللغة العربيّة.هل كانت تجربة صعبة أم سهلة؟ وماذا علّمتك؟
– صعبة دون شك. والجملة المتصلة بها حتماً: صعبة لكن ممتعة. فهل من شيء ممتع وهو سهل أصلا؟ علمتني أنني إذا أردت إنجاز شيء، علي بثل كل ما في وسعي. بدون تحفظ. وبدون تردد.
-
هل إتقانك للغة العربيّة فتح أمامك أبواباً على عوالم مختلفة؟
– هذا هو أملي الذي كنت أعلقه على العربية… ففعلت. وفاقت توقعاتي.
-
بفضل إتقانك للعربيّة أنت تعرفين الإنسان العربيّ عن قرب.كيف تصفينه؟
– صاحب كرامة، متمسك بالأصالة، مفتاح التعامل معه الصدق (فالصداقة من الصدق!)، صاحب القيم ومنها الحب والاحترام للوالدين وللأولاد، مفرط العاطفية، قادر على التأمل…
-
هل العربيّ في حاجة حقيقيّة إلى أن يقدّم صورته بشكل حقيقي أما الآخر؟
– بالطبع. وقبل ذلك عليه أن يحدد موقفه من هذه الصورة، أي أن يحسم موقفه ممن هو في العالم المعاصر المحتاج دون شك إلى قيم الإنسان العربي الأصيلة… لكن المجردة من الشكليات والشرطيات والزيف…
-
ما هو مشروعك الحالي في التّرجمة؟ومتى سيرى النّور؟
– وجدتني المهمة الجديدة للتو: مجموعة ثانية للقاص العراقي حسن بلاسم، بتكليف من إحدى دور النشر البلغارية، وقد أصدرت مجموعته الأولى “مجنون ساحة الحرية” بترجمتي العام الماضي. ومن المفترض أن تكون جاهدة حتى نهاية العام.
-
هل تجربتك مع القضية الفلسطينيّة غيّرت مفاهيمك وفلسفتك حول الحبّ والحياة والموت والنضال؟
– عملياً نمت مفاهيمي مع نمو القضية الفلسطينية في حياتي، فهناك ترابط بين الاثنين.
-
ماذا تعلمت من القضية الفلسطينيّة؟
– أنني كلما وصلت إلى قاع اليأس، أستطيع أن أستمد الأمل من أصدقائي الفلسطينيين الذين يعيشون أحيانا كثيرة “من قلة الموت”. فهذه فلسفة رائعة للبقاء. فلسفة لا أجد لها بديل.
-
ماذا تعلمت من اللغة العربيّة؟
– جمال الـتأمل في صغائر الأمور وتسلسل تولدها.
-
ما هو حلمك على المستوى الإنسانيّ والإبداعي؟
– لا وقت للأحلام. في الستين الوقت للحياة.
-
هل فعلاً أنّ الإنسان عندما يتقن أكثر من لغة تتوسّع مقدرته على التعامل مع نفسه ومع الآخر ومع الحضارات المختلفة؟
– رأيي أن الأهم هو علاقته بذاته، فهو كلما اتسعت رؤيته للعالم، لكما أدرك نفسه ومكانته فيه وهذا أمر في غاية من الأهمية كي نتمكن من إبداء العدالة والإنسانية في معاملتنا للآخر… نعم، المزيد من المعرفة يساعد على المزيد من العدالة والإنسانية.
-
لو عاد بك الزمن إلى الخلف هل ستختارين أن تتعلّمي اللّغة العربيّة من جديد؟
– بكل التأكيد ودون أدنى تردد.
-
كلمة أخيرة تقولينها لكلّ من يقول لك باعتزاز ومحبة وإجلال: مايا الفلسطينيّة؟
– أسعى جاهدة لأكون جديرة بهذه الصفة.
-
ماذا تعني لك الكلمات التالية؟
-
فلسطين: قضيتي التي من أجلها جئت للدنيا.
-
الحبّ: محور الوجود
-
الحياة: امتحان
-
النّضال: نمط الحياة … قد يكون الوحيد
-
اللغة العربيّة: هوسي، شغفي، وسيلتي للتعبير عن نفسي وحبي للعالم
-
الكلمة: صدق
-
الله: التوكل
-
الخلود: ليس لنا، ولا نحتاجه أصلاً
-
الرّذيلة: الكذب
-
الفضيلة: الإنسانية
-
الانتصار: على النفس
-
الهزيمة: تلقين درس
-
الطّريق: اللانهاية
selenapollo@hotmail.com