للتو أنهيت قراءة “غسان كنفاني إلى الأبد”.. – وسام الفقعاوي
ثلاث ساعات ونصف متواصلة، دون ملل أو كلل أو قيام من مكاني، أو غمضة عين قد تسرق مني متعة وألم الحرف المكتوب، أو كحة متواصلة تخرج من أعماق صدري الذي ضربته لفحة برد عابرة، دون أن تجعلني أضرب عن القراءة، أو اشعارات الهاتف التي لم تسكت دون أن ألتفت إليه.. لم يكن معي سوى من ألقت رأسها على صدري وصوت المطر الذي لم يخلو من الرعد ولمعان الضوء القادم من شباك أقفلته بإحكام حتى لا يُفسد عليَّ البقاء مع “غسان كنفاني إلى الأبد”.. تلك السيرة التي كتبها الروائي المقدسي محمود شقير؛ للفتيات والفتيان، بأسلوب شيق وممتع؛ يَطرقُ سحايا الدماغ بطبقاته الثلاث: الأم الجافية والعنكبوتية والحنونة، ليتركز في الأخيرة الداخلية، ومنها تجد صلة وصلها مع جدار القلب وإن كان جداره غشاءً رقيقًا، لكنه جدار القلعة التي يحتمي خلفها ما يجب أن يغمره حُب ما تفعل.. لهذا اختار الكاتب الثمانيني.. أن يُخرج الطفل الذي في داخله ويضعه في كل صفحات كتابه، لهذا بدأه بقول غسان: “الأطفالُ هم مُستقبلُنا”.. لذلك ستجد بين دفتي الكتاب سردية كاملة؛ للأطفال فيها متعتهم، وللشباب فيها وعي حاضرهم، وللطاعنين في السن محاولة كسر ماضيهم الذي كبلهم بمرارة الهزيمة التي تجرعوها؛ بغياب الوعي وفقدان الإرادة وشح السلاح والتيه في غياهب الصحراء وانتظار تحقق وعود النخب والأتظمة التقليدية والإقطاعية والرجعية المتحالفة مع الاستعمار والحركة الصهيونية…
“غسان كنفاني.. إلى الأبد” ليست قصة أو رواية نسجها الكاتب من خياله وإن كان فيها بعض حلم، بل هو تاريخ لا يقبل النسيان حتى ما كان منها حلم منامٍ، أو كما وثق الكاتب نفسه تحت عنوان؛ حوار: “حلمت أنني التقيته في المساء، وكان يدخن سيجارة بنهم شديد.
قلت له: هذه السجائر ضارة بصحتك، وعليك أن تستمع إلى نصائح الأطباء.
ابتسم ابتسامته العذبة الصافية التي يخالطها إيحاء بمزاجه الساخر واستهانته بالموت وبحبه الأكيد للحياة، ولم يقل شيئًا، وكنا نجلس في مقهى مطل على البحر، غير بعيد من البيت الذي ولد فيه في أحد أحياء عكا.
(…) قلت وأنا أشعر بقلق عليه: أخشى أن يقتلوك.
قال لا تخشى عليَّ، لن يقتلوني مهمها حاولوا أو دبروا من خطط ومكائد ومؤامرات”.
هرشت شعر رأسي وتذكرت، ثم قلت: لكنهم قتلوك.
وكررت الكلام: قتلوك ومزقوا جسدك في بيروت.
قال: لم يقتلونِ ولن يتمكنوا من قتلي.
فجأة استيقظت من نومي لسبب ما، تذكرت حلمي وكان طيف غسان حاضرًا في كل المكان”.
لا أعتقد أن الكاتب القدير محمود شقير؛ ينتظر منا إرسال تحياتنا له، وهو يستحق أكثر من ذلك بكثير، لكن سعادته المؤكدة ستكون، بأن يغدو ما كتب نموذجًا للطفل والشاب إلى أن: “يقول عجوز فلسطيني عاش المأساة من أولها حتى الآن: رأيت غسان يولد من جديد هنا في عكا؛ عكا التي شهدت ولادته الأولى، وهي التي هزمت أعتى الغزاة، وظلت تنام على ذراع البحر؛ بحرها الشاسع الممتد، وتحلم بأيام طليقة أجمل وأحلى مما هي عليه الآن”.
وأنا من جهتي قررت أن أُكمل إحدى بدايات غسان، وهممت بكتابة مقال مجلة الهدف لشهر نيسان/أبريل، وأن يكون بعنوان: “الأرض في دائرة الصراع: ماذا قالوا عنها؟”.
20-3-2023