لماذا الشيوعيون غرباء؟! – علي غريب
في مقال للدكتور الشيخ صادق النابلسي نشر هنا في «الأخبار»، بتاريخ 17/ 11/ 2014، تحت عنوان «مقاومون لكن غرباء»، عكس فيه كاتبه عمق الأزمة بين حزب الله والحزب الشيوعي، ووجدتُ من المناسب أن أدخل على «سكة الجدل» التي فتحها لأقدم إجابة عن سبب ابتعاد حزبين مقاومين من ساحة التلاقي سواء لمواجهة العدو الإسرائيلي أو لتحمل أعباء بناء دولة المواطنة الحقيقية.
أولاً: في المسألة الإيديولوجية:
إنّ الإنسان ينزع نحو حياة كريمة وعدالة اجتماعية، نحو أُخوّة حقيقية ضد الاستبداد والظلم. والماركسي لا يرى في الثورة الاجتماعية غاية بذاتها بل وراء كل نضال الشيوعيين أن يجعلوا من كل إنسان إنساناً. الحزب الشيوعي هو حزب الإنسان، الإنسان مهما كان لونه وجنسيته ودينه وقوميته هو حزب الاشتراكية والعدالة والاجتماعية بين بني بشر. لينين نفسه لم يبشّر بالالحاد، ولا الثورة كانت تستهدف الدين والمتدينيين. كانت ثورته لرفع الظلم والغبن عن كاهل الفقراء ولذلك التحق الفلاحون المؤمنون بالثورة رغم معتقداتهم الدينية الراسخة. والحزب الشيوعي قد يضمّ من بين أعضائه ملحدين ومؤمنين كأي تنظيم آخر، فإيمانهم ومعتقداتهم الدينية لا شأن لها في السياسية. كان ماركس يركز دائماً على مواجهة الرأسماليين الذين قال فيهم «الرأسماليون ليس لديهم إله يعبدونه سوى المال»، وهو يتقاطع في ذلك مع قول السيد المسيح «لا تعبدوا ربّين الله والمال».
والتعارض بين العلمانية والدين حصل فعلاً في مراحل تاريخية محددة ضمن تطور المجتمعات، ولكن التعارض لم يحصل مع الدين كجوهر إيمان وكنظام قيم إنما الصراع حصل مع المؤسسة الدينية كسلطة سياسية متحالفة مع سلطة الملوك والإقطاع والحاكمين.
واستناداً إلى ذلك لا يستقيم حوار بين إيدولوجيتين مختلفتين إلا إذا قام على أساس الموضوع المشترك وهو «الإنسان». وهي الحياة الاجتماعية على الأرض، الحياة الكريمة لبني البشر وحريتهم وقيمهم النبيلة ومساواتهم. من هنا يُبنى الأساس للعلاقة بين الشيوعيين والأحزاب الدينية، ولنا من تجربة رجال اللاهوت وتحالفهم مع الماركسيين في أميركا اللاتينية خير دليل وشاهد على ملاقاة الإيديولوجيتين بالموضوع المشترك وهو الإنسان.
تلك هي المسألة الأساس التي يُبنى عليها تحالف جبهوي بين كل القوى التي ترفع شعار المقاومة وتتبنى نهج المقاومة وتحمل سلاحها وترّوج ثقافتها لتحرر الانسان، ولتبني مجتمعاً خالياً من الاستغلال والاستعباد. وأفضل اختصار لها هو ما كتبه ذات يوم تشي غيفارا: «لا يهمني أين ومتى سأموت بقدر ما يهمني أن يبقى الثوار يملؤون العالم ضجيجاً كي لا ينام العالم بكل ثقله على أجساد الفقراء».
واستناداً إلى ما تقدم نعتقد أن حزب الله المنخرط في السياسة لا يقارب تحالفاته مع الآخرين من منظور إيديولوجي، كونه يقيم علاقات مع أحزاب وقوى ماركسية وعلمانية يحتضنها ويدعمها بينما لعلاقته مع الحزب الشيوعي شأن آخر، علاقة مشوبة بالحذر. وقد لا يكون حزب الله وحده مسؤولاً عن هذا الأمر وربما تقع المسؤولية على الحزب الشيوعي أيضاً بعدم إظهار رغبة في التقرّب إلى حزب الله نتيجة حسابات حذرة مبنية على أحداث سابقة. ومع ذلك فالشيوعي يحاور حزب الله بالإعلام منتقداً سياسته على المستوى الداخلي. هنا يبدأ التباين.
ثانياً في المسألة السياسية
أــ ينحاز حزب الله ويفضل التحالف مع أية قوى إسلامية، علماً أنه أيقن أكثر من مرة وخَبُر أكثر من طرف، وتبيّن له وللجميع أن بعض الإسلام السياسي بمجرد وصوله الى السلطة انكشف سريعاً بتقديم أوراق اعتماده إلى اسرائيل لبناء علاقات صداقة وتعهّد احترام المعاهدات القائمة معها. وبعضه حتى في اللحظات الصعبة التي عاشها الحزب في لبنان وقف على الحياد وملاذه كانت قطر ومحطة «الجزيرة».
ب ــ تحالفاته القائمة مع أطراف السلطة ذات طبيعة طائفية مبنية على المصالح المشتركة وليس على رؤية إصلاحية للنظام السياسي وبعضها غارق في الفساد والارتهان.
ج ــ رعايته لصيغة جبهة الأحزاب الوطنية القائمة تفتقد إلى المشروع الوطني المعبّر عنه ببرنامج إصلاحي ما يجعل منها لقاءً فضفاضاً تنحصر مهمته بإصدار بيانات تأييد للمقاومة وانتقادات واعتراضات على خصومها.
دــ مفهوم التحرير والتغيير: بحيث يفصل حزب الله بين النضال التحرري والنضال الاجتماعي فهو قاوم وانتصر على العدو الاسرائيلي بينما لم يكن كذلك في الداخل مع النظام السياسي الطائفي.
ه ــ مفهوم الدولة المدنية التي ينفصل فيها الدين عن الدولة ومؤسساتها وبالتالي بضرورة إلغاء الطائفية من النظام.
هذه بعض من نقاط التباين بين الحزبين بحيث يرى الحزب الشيوعي أن التحرير والتغيير متلازمان كي يستمر الترابط والوفاء بين المقاومة مع جمهورها وأهلها الذين هم أبناء الفقراء والفئات المسحوقة. هؤلاء هم أهل المقاومة وحماتها وحاملو راياتها الحمراء والصفراء والخضراء وبعضهم قدم أغلى ما يملك من أجل التحرير والسيادة الوطنية. لكن هؤلاء وحدهم استمروا يدفعون الثمن في البلد الذي حرروه، يدفعون الثمن بطالة وهجرة وضرائب لايقدرون على تحملها ولا يستطيعون تأمين حياة كريمة، في بلد تحكمه طبقة سياسية فاسدة ساهم بعض أركانها بالاستنجاد بالعدو وبالغرب وبات العملاء في نظامهم يحاكمون كأنهم خالفوا قوانين السير وباتت الخيانة لديهم وجهه نظر. فمن الخطأ الكبير أن تكتفي المقاومة بشعار تحرير الارض والتمسك بالسلاح من دون النظر الى الأزمات السياسية والمعيشية، ومن دون التوقف عند الأسباب الحقيقة وراء انقسام الطبقة السياسية الحاكمة نفسها. كان ينبغي أن تستكمل عملية التحرير بنضال شعبي يفرض على الطبقة الحاكمة إجراء إصلاحات سياسية واجتماعية وعلى رأسها إلغاء الطائفية من النظام ومؤسساته، وما أثار الصراع الدائر اليوم حول المقاومة وسلاحها، سوى وجه من وجوه إغراق المقاومة بشكل أساسي في مشاكل داخلية مذهبية. ونتساءل ماذا أضافت السلطة الى المقاومة؟ ومن استفاد من الآخر؟ وماذا قدمت تلك السلطات التي شاركت فيها المقاومة الى جماهير المقاومة سوى البؤس والحرمان والعتمة والبرد؟ وبدلاً من أن تتحول المقاومة إلى عنصر قوة وتوحيد يسعى أهل السلطة الى تشويه دورها بتحويلها إلى عامل انقسام شعبي مذهبي، مستفيدين من بنيتها المذهبية الخاصة. ويبدو أن حزب الله كان سعيداً بحصرية المقاومة في حزبه بدلاً من أن يسعى بإمكاناته الكبيرة المتوافرة الى استمرار المقاومة في جبهة وطنية يصعب على أي كان من أطراف السلطة المحلية أو القوى الخارجية اتهامها بما هي فيه اليوم. من هنا تكمن أهمية تلازم النضال الوطني بالنضال الاجتماعي لأنهما وجهان لقضية واحدة يستحيل الفصل بينهما، وبالتالي العلاقة بين الحزبين لا تستقيم إلا بالنظر الى ترابط النضال الوطني بالنضال الاجتماعي.
ليس من حق الشيوعي أن يقيد قناعات وعلاقات حزب الله الخارجية لكن من حقه أن يرى بوضوح أن سياسته على المستوى الداخلي تصب في مصلحة الطبقات الشعبية الفقيرة، بينما لا يبدو أن سياسته تختلف كثيراً عن معظم أطراف السلطة الحاكمة لذا لم يكن غريباً أن «يصوّت» نوابه بالموافقة على كل الموازنات التي كان يقدمها الرئيس الحريري الى المجلس النيابي وهي الخاضعة لشروط المؤسسات المالية الدولية، فانهكت المواطنين بالضرائب وشلت الصناعة الوطنية وعمقت الأزمة الحياتية ــ المعيشية للفئات الشعبية. وليس غريباً أن يجلس حزب الله بعد حرب تموز 2006 وأيار 2008 مع من كان يتهمهم بالعمالة والخيانة تحت مسميات حكومات «مقاومة» و«وفاق وطني» و«وحدة وطنية» وأن يرضى بسياسة عدم استفزاز الحاكمين في أكثر من مناسبة واستحقاق، وأن يحجب أصواته عبر مرشحي الحزب الشيوعي في الجنوب.
وبالعودة إلى السياسة التي اتبعها حزب الله ولا سيما بعد عام 2000 أي بعد التحرير، فقد شكلّت عاملاً رئيسياً في إعادة تثبيت سلطة التحالف الرأسمالي ــ الطائفي، ولا سيما سلطة الأكثرية الراهنة ما سهّل للعدو مغامرته عام 2006، إذ اعتمد حزب الله انطلاقاً من حرصه على المقاومة وسلاحها التنازل أمام الآخرين مقابل تغاضيهم عن ذلك السلاح. وبدلاً من توسيع تحالفاته أمام الهجمة الأميركية الصهيونية على المنطقة، في اتجاه بناء أوسع تحالف وطني مقاوم نراه ما زال يفضل الاتفاق مع أطراف السلطة نفسها. وهذا يشير الى أن اقصى ما يطمح إليه حزب الله على الصعيد اللبناني وهو معادلة داخلية تحمي ظهر المقاومة والتسليم بشرعية سلاحها، وبالتالي مشكلته تبدو أنها ليست مع النظام الطائفي السياسي بقدر ما هي مع بعض ممثلي هذا النظام الرافضين لاستمرار سلاح المقاومة بيد الحزب. بينما يهدف الحزب الشيوعي الى تغيير في بنية هذا النظام لمصلحة الفئات الشعبية وبناء سلطة وطنية وحدها القادرة على حماية المقاومة ونهجها ووحدها التي يمكن أن تؤسس لثقافة وسياسة دفاعية ثابتة. إنّ الحزب الشيوعي حريص على إقامة علاقة تحالفية مع حزب الله. المشكلة التي نختلف عليها هي في كيفية قيام دولة مدنية قائمة على المواطنة والديمقراطية الحقة، لا الديمقراطية التوافقية.
والحزب الشيوعي على جهوزية دائمة لفتح حوار مع حزب الله على قاعدة ما ورد في مقالة النابلسي وهي: «الحاجة إلى استنهاض الطرفين في صيغة حلم مشترك يتلمس تغيير الواقع الوطني والباسه ثوباً جديداً. فنتاج حزب الله والحزب الشيوعي العمود الفقري لليسار الذي يشترك بعدد من السمات المحورية يمكنه أن يحدد شكل الواقع اللبناني بمستوياته السياسية والاجتماعية ويمكنه تنقية الهواء من غبار الطائفية الأصفر ودخان المذهبية الأسود، ويمكنه أن تخرج بالجماهير إلى ميدان الحرية كي يستعيد وجوده وحضوره».
* عضو المكتب السياسي
للحزب الشيوعي اللبناني