لماذا الموقف من سوريا … مفصلي يأبى النسيان والغفران – د. عادل سماره
أجدني على عَجلٍ لتكرار عبارة كتبتها كثيرا: “الأصل أن تبدأ وطنياً”، لأن هذه البداية تحول دون التوهان أو التيه حتى في المساحات الضيقة،صحراء سيناء مثلاً، التي يُزعم أن موسى وربعه تاهو فيها، هذا إن اثبت التاريخ وجودهم.
يمكن للمرء أن يخطىء ضمن هذه الإيديولوجيا أو تلك ويمكن أن يتغير وهذا وارد وسهل عقليا، لكن الوطن لا يتغير ولا يُغيَّر. والوطن ليس مجرد مكان كما يراه فلسطينيو وعرب التطبيع أو مثلاً الراحل إدوارد سعيد في تقليده لليهو/صهيوني أدورنو، وهذا سيُغضب الذين لا يُبصرون فكريا سوى اشباراً. فالمكان قابل للقسمة مع الغير بينما الوطن لا يقبل القسمة ولا الاجتزاء ولا التخليط بالضد أو العدو كما يلهج دُعاة دولة واحدة مع المستوطنين في فلسطين وجميعهم مستوطنون.
هنا يفرض التاريخ حضوره وخاصة إذا كان طازجاً. فآباء الاسيتطان الصهيوني كانوا قد تعلموا من المركز الإمبريالي، منذ 300 سنة، بأن استهداف الوطن العربي هو قاعدة مشروعهم المركَّب من: استغلال/استعمار واستيطان حيث يتواشج هذان حتى نهايتهما معاً. بل حتى ننهيهما معاً.
لذا كان جابوتنسكي ومن ثم بن غوريون واضحين بأن بقاء الكيان مرتبط بإنهاء سوريا ومن ثم التمدد لإنهاء العراق وصولا إلى كل شبر عربي. إنما كانت سوريا، كضحية إن أمكنهم ذاك، ولا تزال هدف الضمان.
لا يفهم المرء هذا إن لم يكن وطنياً اساساً وفي البدء. فعبيد الإيديولوجيا مثلاً رأوا في وحدة مصر وسوريا مشروع شوفيني رجعي إذ جرى أخذهم بتنظيرات السوفييت أن العرب “أمة في طور التكوين” مما لا يسمح بالوحدة طالما غابت السوق الموحدة! وكأن العرب في العصرين الأموي العباسي لم تكن لها سوقاً موحدة. لعل هذا هو الفارق بين قراءة القومية في عصر الأوربة وبين وقرائتها في التاريخ، أي الأمم القديمة.
وكذلك عبيد راس المال الذين وطنهم حسابهم البنكي. لذا، أخرجوا العروبة من حينها كمشروع شوفيني. وبالتالي كان اغتيال الوحدة المصرية السورية هو بداية تبديد موجة النهوض العروبي في خمسينات وستينات القرن العشرين، ولم يتوقف التبديد لأن هذا بالتحديد هو ضمان بقاء الكيان وتوسعه وخدمته للإمبريالية بما هو استثمار استراتيجي لها يُربح كثيرا بمقدار دوره في احتجاز التطور والوحدة العربيتين.
لذا، كان التآمر الأمريكي الغربي ضد سوريا منذ انقلاب وارتباط حسني الزعيم بالغرب.
على هذه الأرضية إذن كان مشروع تفكيك سوريا هو مركز الربيع/الخريفي العربي أكثر من اي قطر آخر، لا سيما وأن العراق كان قد أغتيل باكراً.
هنا ظهر التناقض الحتمي بين الوطنية اي العروبة عملياً وبين إيديولوجيات وثقافات.
وقف العروبيون فوراً مع سوريا لأن الهدف ضد الدولة أي لم يكن من أجل الديمقراطية. ولو كان لأجل ذلك، فهناك لا أقل من مئة دولة في الكوكب هي خلف سوريا ديمقراطيا وتنمويا وخدماتيا وتعليميا وإنتاجياً. بل في الوطن العربي، لم يكن أمام سوريا اي نظام عربي!
في هذا العدوان ضد سوريا والذي أسميه “الاستشراق الإرهابي في تجنيده لإرهاب قوى الدين السياسي/هذا مضمون كتابي القادم بالإنجليزية” جرى تجنيد فيالق من المثقفين العرب ضد سوريا.
على راس هؤلاء هناك تنويعة من المتخارجين أو الطابور السادس الثقافي فئة من المثقفين الذين جلودهم محلية وذهنيتهم غربية تحلم باعتراف الغرب بشخوصهم لا بوطنهم وشعبهم. من هنا رأوا الإلتزام الوطني مُحرجاً لهم لدى سادتهم الغربيين لأنهم مأخوذون ب “نظرية الاعتراف”. ومن ضمن هؤلاء مثقفو ما بعد الحداثة والذين دورهم خاصة هو رفض السرديات الكبرى اي القومية والاشتراكية والشيوعية…الخ. ومن ضمن هؤلاء اللبراليين الذين يتأرجحون بين يسار سطحي ويمين ما قبل تحول القرد إلى إنسان. لذا لا تفهمهم حين يكتبون مثلاً: اختلف مع فلان على سوريا! عجيب، وهل يمكن الاختلاف على وطن قيد الدمار؟ أو أن النظام في سوريا استبدادي! عجيب، بل اين النظام الديمقراطي؟ ألم تكشف تجربة حرب الدفاع الروسية أن الغرب الذي تتعبدون في محرابه قد قمع مختلف وسائل القول النقدية وملأ الدنيا أكاذيباً؟ وهل يمكن نقل بلد إلى “الديمقراطية” بتدميره بشكل مركَّب من:
· إرهاب غربي
· وإرهاب دين سياسي
بعد أكثر من عشر سنوات من حرب مزدوجة مركبة يصر الفكر التسطيحي على اللهج بمفرادات”الدمقراطية والاستبداد…الخ” ضمن مشروع ملأ البلد بمآت آلاف الإرهابيين، دمر بنى الدولة الصحية والتعليمية والثقافية والإنتاجية ونقل الإسلام العربي إلى إسلام “جهاد النكاح” وأدخل في سوريا حتى إرهابيين من المثليين الذين أتوا من فرنسا خاصة.روَّجت لهؤلاء للأسف مجلة الآداب ما بعد سهيل إدريس طبعاً. فأيهما الاستبداد؟ أليس استبدادا تبديل الطبقة والإشتراكية برايات محبي وعُراة الأقفية!
لافت أن كل هذا الدمار لم يُكتفى به حيث واصل هؤلاء الهجوم لتجزئة سوريا! وهنا اتضح التحالف بين مثقفي التخارج /التغربن، والدين السياسي، والشيوعية اللاعروبية والإمبريالية والصهيونية والرجعيات العربية. وهذا لم يحصل ربما في أية حالة في العالم.
ولافت كذلك اندلاق فئتين لصالح هذا الحلف المعولم، كان المفترض، طبقاً لتاريخ العالم الفكري أن تكونا وطنيتين، إلا هنا! وهما:
مثقفوا “يسار ” الذين على الفور دبَّجوا البيانات ضد سوريا وهم يرون بأم العين تلكم الرايات السوداء والشعارات الماقبل تاريخية! والمضحك أن بعضهم كان يفعل هذه الموبقة ويُكافَىء بجوائز الخليج الغارقة في نفط ينتظر عود الكبريت العروبي.
وتنظيمات يسار: الذين جرى ابتناء ثقافتهم اليسارية على أرضية إيديولوجية بحتة لا أرضية وطنية فكانوا واستمروا لا عروبيين. والمضحك المبكي أن بين هؤلاء من يرفض القول بأمة عربية، بل أمماً عربية. ولكن، لنفرض أن هناك أمة مصرية وأمة مغربية وأمة سورية، فهل بضعة مآت آلاف في قطر او البحرين أو موارنة لبنان أمة؟ حتى بالمعنى العددي! الصين أمة، والكويت أمة!هذا دون أن ندخل في طرح فكري واقعي لمسألة الأمم وكيف تتكون وما هي مكوناتها تاريخيا وبشريا وأهدافا…الخ.
يفتح هذا على المسألة التالية التي تحتاج دراسة في الثقافة والإيديولوجيا وعلم النفس وهي نفسية هؤلاء من حيث :
· الخلل في الموقف الوطني
· والضحالة الثقافية الفكرية
· والانبهار بالأجنبي
هذا من جهة، ومن جهة ثانية دراسة كيف يتراجعون عن ورطتهم المقصودة اي:
· حين أدركوا أن سوريا لن تسقط
· وأن العروبة تُجرح ولكن لا تموت
· وأن واقع العدوان المعولم لا يمكن الدفاع عنه.
هنا، كان انسحاب هؤلاء كسيراً، باهتاً، مناوِراً، انتهازياً ممروراً.
لكن اياً منهم لم يُعلن اعتذاره أو نقده لذاته بجرأة النقي والمثقف الثوري المشتبك. أما المشهد الكرتوني لكثير منهم، فانتقل إلى تبني موقف مع سوريا وكأنه ليس هو الذي كان يرقص أمس في حضن الثورة المضادة. أطرف مثال على هؤلاء هم فلسطينيون الذين نظَّروا وباركوا وشاركوا واستثمروا واستفادو وتمنصبوا (من مناصب) في أوسلو، وحين بدت ورطتها سبقوا أشرف الرافضين إلى نقدها وكأنهم ليسوا هم!
هنا يلزمنا مبضع النقد الذي لا يساوم هؤلاء، ولا يغفر لهم. لكن لماذا؟
لأن خيانة الوطن لا تُمسح فهي ليست تمرين رياضيات قد يُحل بهذه الطريقة أو تلك وقد يحصل على نصف علامة أو ثلاثة ارباعها.
لقد علمتنا التجربة بأن هؤلاء لن يتغيروا، يكمنون، ويتلونون ويهزون كلٌ ذنبه ، طالت أم قصُرت، لا فرق، ولكنهم ينقلبون فور تغير الموازين بأيَّة رِدّة.
وذلك ليس لأن الخيانة مجرد وجهة نظر بل انتماء وإيديولوجيا وقرار.
لا زلت أذكر بغضب عبارة الرئيس جمال عبد الناصر عن أحد الملوك الذي شارك في التخطيط ودعم الانفصال 1961 حيث قال “لأول مرة أُخدع بعميل”. الوطن يا ريِّس لا يسمح بالانخداع.
لذا، فتعرية هؤلاء واجب، موتى أو أحياء، لا فرق وذلك على الأقل لسبب هو الفارق بين المدى العمري للمنتج البضاعي والمنتًج الثقافي:
فالسلع المعمِّرة تعيش بالكاد عشر سنوات، لكن الفكره والتي دوما يُبنى عليها موقفاً تعيش مئات السنين بعد من أنتجها. ألسنا نقرأ ابن رشد وإبن خلدون وإبن عربي حتى اليوم، بينما اصبح السيف تراثا للصور. وألسنا نعاني من تراث إبن تيمية حتى اليوم؟ . فهل موت هذا أو ذاك يحول دون نقد ما فعل؟ كلا.