لماذا تستفحل الجريمة المنظّمة داخل مناطق الـ48؟ – أليف صباغ
عربي يقتل عربياً، لا حاجة للقوات “الإسرائيلية” أن تفعل ذلك، بل تقف مكتوفة الأيدي وتُحصي الضحايا بسادية، وتترك لتجار السلاح أن “يسرقوا” مخازنها ويبيعوها للعصابات.
يتمزَّق النسيج الاجتماعي ويتفرّق شمل الفلسطينيين في مناطق الـ48 على مفارق الطرقات الدامية، جراء تفاقم ظاهرة الجريمة المنظّمة، حتى حصدت خلال العام الأخير 113 قتيلاً، وهي في ازدياد مطرد سنوياً من العام 2000 وحتى اليوم.
عربي يقتل عربياً، ولا حاجة لقوات الأمن “الإسرائيلي” لأن تفعل ذلك، بل تقف مكتوفة الأيدي وتُحصي الضحايا بسادية معهودة، وتترك لتجار السلاح أن “يسرقوا” مخازن جيش الاحتلال ويبيعوها لمن يطلب، شرط ألا توجّه ضد اليهود، منهم من يطلب أمناً شخصياً لنفسه، ومنهم من يريد الثأر لمقتل عزيز له، ومنهم من يطلب “خوة” مقابل حماية مزعومة، ومنهم من يقوم بخدمة مقابل مال يقبضه بحسب الطلب، أو يريد استرداد مال أقرضه لضحيّته على حدّ زعمه. ويبقى الجرح المفتوح: لماذا وصلنا إلى هنا؟
في العام 2002، أصدرت د. خولة أبو بكر، من مدينة عكا، كتاباً بعنوان “الجيل المنتصب”، وصفت فيه الحالة الوطنية لجيل من الشباب الفلسطينيين داخل مناطق الـ48، الذين هبّوا لنجدة شعبهم في انتفاضته الثانية، فاستشهد منهم 13 شاباً على أيدي الشرطة الإسرائيلية، ولم يحاكم أي شرطي لغاية الآن.
يقول د. وليد حداد، أحد المختصّين العرب في علم الإجرام، قبل 20 عاماً، وتحديداً نتيجة هبّة تشرين الأول/أكتوبر التي رافقت الانتفاضة الثانية من الداخل الفلسطيني، “أبرق الفلسطينيون في الداخل رسالة واضحة إلى الدولة، مفادها أنّ شعبنا صاحب وعي وطني ويريد حقوقه السياسيّة، واشتعل الضوء الأحمر لدى الأجهزة الحكومية، فميّزت هذه الأجهزة بين السلاح الجنائي والسلاح الأمني، وقرّرت وضع ملف الجريمة في المجتمع العربي على الرفوف. وعلى حسابه، يأخذ الجانب الأمني كل الحيّز على الطاولة”.
يقول التّقرير الَّذي قدَّمه مركز الأبحاث التابع للكنيست للجنة الداخلية البرلمانية في العام 2010 “إن مستوى الجريمة في المجتمع العربي يتفاقم مقارنة بانخفاض مستواه في المجتمع اليهودي، وإنَّ أحد أسباب هذا التفاقم هو حالة الفقر المستعصية والمستمرة”، ولكنه في الواقع لم يأخذ بعين الاعتبار أسباباً أخرى، مثل الحملة الشرطية الناجعة على عصابات الجريمة اليهودية منذ العام 2004، والتي سميت آنذاك بـ”الإرهاب الجنائي”.
ولم يشر التقرير إلى أن أيتام هذه العصابات من المجرمين العرب انتقلوا للعمل في المدن والقرى العربية، ليعيثوا بها فساداً وينشروا فيها ظاهرة “الخوّة” والقتل الرخيص، من دون رادع حكوميّ، كما لم يشر إلى الضائقة السكنية التي تولد العنف والصراعات على كلّ صغيرة وكبيرة، وأسباب أخرى كثيرة لتفاقم العنف، لكنه يشير إلى أن الحكومة تحاول “معالجة” هذا الملف، من خلال “زيادة عدد أفراد الشرطة العرب”. هذا يعني أنها تستثمر الجريمة لزجّ الشباب العرب في الخدمة الأمنية، شرطية كانت أو عسكرية، بدلاً من مقاومة الجريمة بالوسائل الشرطية والقضائية وتوسيع الحيز العام حتى يستطيع المواطن أن يعيش بهدوء.
في أعقاب حملة إعلاميّة مكثّفة قبل العام 2016 وخلاله، قادتها بعض وسائل الإعلام العربية وجمعيات أهلية، اتخذت حكومة نتنياهو قراراً خاصاً بمحاربة العنف والجريمة في المجتمع العربي، وسمي بالقرار 1402، صادقت بموجبه على خطّة حكومية لمحاربة الجريمة بميزانيّة تبلغ ملياري شاقل، ولكنَّ مضمون الخطّة عاد إلى البنود نفسها التي ذكرت في العام 2010، ومنها ضرورة تجنيد 2600 شرطيّ عربيّ حتى العام 2020، وزيادة الدوريات الشرطية، وفتح محطات شرطة جديدة في القرى والمدن العربية، وعُيّن لذلك مفوض خاص من قبل الشرطة، عربي من سكان قرية كفركنا، هو الضابط جمال حكروش.
بعد مرور 10 سنوات على التقرير الأول (2010)، وبعد مقتل أكثر من 800 مواطن عربي إضافي على أيدي مجرمين عرب من عصابات وأفراد مسلّحين، قدم مركز الأبحاث نفسه تقريراً آخر للجنة مكافحة الجريمة في المجتمع العربي يوم 9/11/2020، والذي شارك في جلستها نتنياهو شخصياً، فعاد ليؤكّد استمرار تصاعد دالة الجريمة المنظمة، مع أرقام أكبر بكثير لعدد الضحايا، وبوتيرة متصاعدة باستمرار، ففي حين كان عدد الضحايا العرب 67 قتيلاً في العام 2012، وفق الإحصائيات الرسمية، أصبح عددهم 101 قتيل حتى تاريخ 9/11/2020 ، وانتهى العام 2020 بـ113 قتيلاً.
ووفقاً للتقرير الجديد، قُتِل 90% من الضحايا بالرصاص، منهم 40% في مركز البلاد، أي المثلث والمدن المختلطة، ولكن 20% فقط من الجرائم تم الكشف فيها عن القاتل. ومرة أخرى، عادت الشرطة لتدّعي “أنَّ المواطنين العرب لا يتعاونون مع الشرطة بما فيه الكفاية”، وعاد التقرير ليؤكّد منهجية الشرطة في “معالجة” الظاهرة بتكثيف جهودها لتجنيد أكبر عدد ممكن من الشباب العرب للخدمة الأمنية، إن كان في الجيش أو في الشرطة، علماً أن الأخيرة افتتحت خلال السنوات الخمس الأخيرة فقط 9 محطات شرطة في القرى والمدن العربية، إضافةً إلى 3 نقاط شرطية تشكّل منطلقاً لمحطات شرطية في المستقبل، وأنَّها استطاعت تجنيد 460 عنصراً عربياً جديداً في صفوفها من أصل 1231 عنصراً جديداً من كل الفئات خلال السنوات الخمس الأخيرة.
رغم ذلك، تشير المعطيات إلى أن ظاهرة العنف تتفاقم في المجتمع العربي، وتحديداً حيث افتتحت محطات شرطة جديدة وبعد افتتاحها، ما حدا برئيس لجنة المتابعة العليا إلى أن يقول لصحيفة “معاريف” يوم 20/12/2020، إن “الشرطة هي التي تحمي العصابات الإجرامية”، ولا سيّما أنَّ الجهات الرسمية لا تنكر المعطيات العينية من كل قرية ومدينة على حدة، وأنَّ حوالى 90% من الأسلحة المستخدمة تسرق من مخازن الجيش وتباع في السوق السوداء على أيدي تجار السلاح، وأن مدينة الناصرة التي تعمل فيها أكبر محطة شرطة منذ العهد العثماني، تتصدّر المدن العربية في حوادث إطلاق النار، وفقاً لبيانات الشرطة نفسها.
في الاجتماع ذاته، والّذي شارك فيه رئيس الحكومة “الإسرائيلية” ووزير الأمن الداخلي، وعد نتنياهو، مجدداً ومجدداً، بتقديم خطّة متكاملة خلال أسبوعين للقضاء على الجريمة في المجتمع العربي. ها قد انتهت حكومة نتنياهو ولم تقدّم أي خطة! وما نفع الخطّة ما لم يكن هناك ميزانية مرصودة لتنفيذها؟!
في استطلاع لجمعية “مبادرات إبراهيم” التي تُعنى بقضية المساواة في الفرص والمساواة أمام القانون أجري في نهاية العام 2019، يقول إن 60% من المواطنين العرب داخل الكيان لا يشعرون بالأمان الشخصي على حياتهم، مقارنة بنسبة 36% في العام 2018، ومقارنة بنسبة 12% فقط من اليهود في العامين 2018 و2019 على التوالي، وأنَّ ثقة المجتمع العربي بالشرطة لا تتعدى 17% مقارنة بنسبة 41% في المجتمع اليهودي في الفترة نفسها.
هل الحكومة “الإسرائيلية” قادرة على القضاء على الجريمة المنظّمة؟ الجواب نعم، إن أرادت ذلك. لقد أثبتت الأحداث أنَّ حملة شرطية هادفة شنّتها حكومة شارون في العام 2004 للقضاء على العصابات الإجرامية اليهودية في مركز البلاد أعطت ثمارها. وحين أرادت الشرطة أن تقبض على عصابة “خوة” عربية شمال البلاد، تبتزّ شركة يهودية للبناء، نجحت في ذلك خلال أيّام.
وتشهد الوقائع الكثيرة أنه حين يكون الضحية يهودياً والمعتدي عربياً، مثل قضيَّة نشأت ملحم الذي حوّل سلاحه الإجرامي إلى سلاح ضد ضباط يهود، فتمّت ملاحقته والتعرّف إلى مكان مخبئه خلال يوم واحد والقضاء عليه. ليس هذا فحسب، بل لو كانت المخالفة التي يرتكبها عربي ضد يهودي مجرد إطلاق نار من دون قصد القتل أو خلاف تافه، يتم الوصول إلى الجاني خلال أيام قليلة، وربما ساعات.
ويؤكد تقرير “مبادرات إبراهيم” أنه حين سُئلت الشرطة عن سبب تقاعسها في الكشف عن الجناة، كان الجواب يؤكد، مرة تلو الأخرى، نقص الميزانيات لذلك، فكيف إذاً توجد الميزانيات عندما يكون الضحية يهودياً؟ يأتي الجواب ليقول: “عندما يكون الجاني عربياً والضحية يهودياً، ينقل الملف إلى الشاباك، وهناك تصرف الميزانيات المطلوبة وتتخذ الإجراءات المطلوبة للكشف عن الجاني”. وهكذا، يتضح تعامل دولة الاحتلال مع المواطن العربي في البعد الأمني.
أما نتنياهو، فقد كشف أكثر من مرة عن البعد الآخر لتفاقم الجريمة في المجتمع العربي، وهو البعد السياسي – الأمني الذي أشار إليه د. وليد حداد أعلاه.
في تصريحاته الصحافية المتعددة، وكان آخرها في الاجتماع الذي حصل مع رؤساء سلطات محلية عربية يوم 9/1/2021، قال نتنياهو: “آمنت دائماً بأن السلام بيننا وبين الدول العربية سوف يؤدي إلى تغيير في العلاقة بين المواطنين العرب ودولة “إسرائيل”، وها هو السلام يحصل أمام أعيننا”، وتوجّه في كلمته إلى سيدات ورجال الأعمال العرب بأن يكونوا جزءاً من هذه المسيرة (التطبيع)، وأن يكونوا “رأس الجسر بين “إسرائيل” وأنظمة الخليج العربية”، مؤكداً “أن مكافحة الجريمة في المجتمع العربي جزء من الأمن القومي (الإسرائيلي)!”.
مرة أخرى، تحدَّث نتنياهو عن خطة حكومية لمحاربة الجريمة المنظَّمة في المجتمع العربي، وتحدث عن ضرورة التجنّد الشبابي في الشرطة وفتح المزيد من محطات الشرطة في القرى والمدن العربية، ونسي أنَّ المحطات التي افتتحت في السنوات الأخيرة أصبحت مأوى للفاسدين والمفسدين، ومنهم من يرعى الإجرام في تلك البلدة أو حولها، ونسي أنَّ الناس يرون بأمّ أعينهم أن الشرطة في الواقع تحمي الجرافات التي تهدم البيوت المبنية من دون ترخيص، وفقاً لقانون “كامنتس” المشؤوم الذي رعته وأقرّته حكومة نتنياهو نفسها. هل يريد حقاً محاربة الجريمة أو أنها كلمات وتصريحات كبيرة كسابقاتها، تخدم الحملة الانتخابية لنتنياهو وتنتهي بانتهائها، كأنّ شيئاً لم يحصل، معتمداً على الذاكرة القصيرة واستعداد الضّعيف لتصديق الوعود الكاذبة؟
إنّ مراجعة بسيطة لحقيقة العلاقة بين دولة الاحتلال ومواطنيها العرب الفلسطينيين، تؤكّد أن “الدولة”، بمؤسساتها الرسمية، غائبة عن حياة المواطن العربي، وأن المواطن العربي غائب عن طاولة الحكومة ومؤسسات الدولة إلا في الحالات الأمنية.
وعندما تغيب الدولة عن حياة الفرد والجماعة الوطنية، يتطلَّب الأمر من القيادة الوطنية مشروعاً وطنياً جامعاً، ولكن عندما يغيب المشروع الوطني الجامع لحساب المشاريع الفردية أو الفئوية الضيقة، وعندما تتحول الأحزاب الوطنية إلى مجرد قائمات انتخابية تتصارع على الكراسي والميزانيات الناتجة منها، وعندما يغيب الإنصاف القضائي والقيم والأخلاق في ظل الفساد المستشري في المجتمع، فلا غرابة أبداً في أن يتحول المجتمع إلى “حارة كل مين إيدو إلو”، والحكم إلى “حلّة حكم”، وما يحصل في داخل المناطق المحتلة في العام 48 ينسحب على المناطق المحتلة في العام 67 إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه.
فشل وفساد يتعاظمان ومشاريع خاصّة على حساب المشروع الوطني الجامع.
- أليف صباغ
- 21 كانون الثاني 2021