لماذا يحتفل القتلة بذكرى الحرب العالمية الاولى؟ – محمد سيف الدولة
اذا كان هناك من يجب ان يشتبك مع ذكرى الحرب العالمية الاولى، فهو نحن معشر شعوب المستعمرات التى قتلوا بعضهم بعضا وقتلونا معهم من اجل السيطرة عليها؛ فنحن الضحايا الحقيقيون لحروب وجرائم الخواجة الابيض فى اوروبا وامريكا على امتداد قرون طويلة.
والضحايا فقط هم الذين يحرصون على احياء ذكرى الاعتداءات والمذابح التى تعرضوا لها، لحث شعوبهم على عدم النسيان، بالاضافة الى اهمية تحفيز شبابهم واجيالهم الجديدة على الأخذ بالثأر والانتقام ممن كانوا سببا فى معاناتهم والحرص على تجنب ذات المصير مرة أخرى.
أما القتلة والمجرمون فانهم عادة ما يتجنبون الحديث عما ارتكبوه من جرائم واعتداءات ومذابح أدت الى تلويث تاريخ بلادهم ووصمه بالعار، الا اذا كانوا لا يقصدون فى حقيقة نواياهم الاحتفال بذكرى نهاية الحرب ونهاية المقتلة العالمية الاولى، وانما على العكس تماما من ذلك، يرغبون فى تذكير العالمين بقوتهم وجبروتهم وبقدرتهم على تكرار جرائم القتل بالجملة مرات ومرات فى مواجهة الدول والشعوب والجماعات “المارقة” والمتمردة على سطوتهم وهيمنتهم الحالية على العالم واستعبادهم الذى لم ينقطع لشعوبه.
***
أشرار ومنافقون:
ان هؤلاء القوم الذين اجتمعوا فى باريس للاحتفال بالذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الاولى هم قادة وزعماء للدول التى أذاقتنا نحن وباقى شعوب العالم كافة صنوف القهر والعذاب والاستعباد على امتداد عشرات السنين، انهم احفاد القوى والقادة والحكام والدول والامبراطوريات الشريرة التى تسببت فى مقتل ما يزيد عن عشرين مليون من البشر، ولم تكتفِ بما سفكته من دماء، فسفكت المزيد منها بعد ما يقارب 20 عاما فى حربهم العالمية الثانية التى تسببت فى مقتل ما يزيد عن خمسين مليون انسان.
ان هؤلاء المنافقين يحتفلون بذكرى نهاية الحرب العالمية، فى ذات الوقت الذى يقومون فيه اليوم بتفجير وتمويل عشرات الحروب والصراعات التى تسقط عشرات الضحايا كل يوم، غالبيتهم فى اوطاننا المنكوبة.
***
غنائم الحرب:
انهم يحتفلون بنهاية الحرب التى لم تنته آثارها المدمرة حتى يومنا هذا، رغم مرور قرن من الزمان؛ فهى الحرب التى كانت وبالا علينا جميعا، ففيها تم تقسيمنا بموجب اتفاقيات سايكس ـ بيكو، وتم توزيعنا كغنائم حرب على المنتصرين من الاوروبيين، وخرجت منها كافة الأقطار العربية وهى ترزح تحت الانتداب/الاحتلال البريطانى او الفرنسى او الايطالى الذى استمر الى ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذى كان سببا رئيسيا فى تخلفنا ونهب ثرواتنا.
وفيها بدأ تدشين المشروع الصهيونى بإعطاء اليهود الحق فى وطن قومى فى فلسطين بموجب صك الانتداب البريطانى 1922 ومن قبله وعد بلفور المشئوم 1917.
وفيها قام الاوروبيون باحتلال القدس لأول مرة منذ ان حررها صلاح الدين فى 1187، ودخلها الجنرال الانجليزى اللنبى بجيوشه فى 9/12/1917 وقال قولته الشهيرة “اليوم انتهت الحروب الصليبية”. وهو ذات المعنى الذى كرره بعده الجنرال الفرنسى هنرى غورور حين احتلت قواته دمشق فى 25 يوليو 1920، فذهب الى قبر صلاح الدين وقال بشماتة “ها قد عدنا يا صلاح الدين”.
ان استكمال احتلال البلاد العربية فى الحرب العالمية الاولى، وخاصة بلدان المشرق العربى التى لم تكن قد خضعت بعد للاحتلال الاوروبى، هو فى التاريخ والوعى والضمير الاوروبى الاستعمارى العنصرى .. هو مجرد امتداد وجولة جديدة للحملات الاستعمارية (الصليبية) التى شنت على أوطاننا منذ تسعة قرون، والتى لم ينسوا او يغفروا لنا أبدا انتصارانا عليهم فيها وطردنا لآخر جندى منهم فى عام 1291.
***
صراع اللصوص:
لقد قامت الحرب العالمية الاولى بسبب تنافس وصراع الدول والامبراطوريات الاوروبية على استعمار باقى شعوب العالم. صراعا بين القوى الاستعمارية المهيمنة كبريطانيا وفرنسا وروسيا من جانب، وبين ألمانيا والامبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية رجل اوروبا المريض.
وللفيلسوف البريطانى الشهير “برتراند راسل” مقولة شهيرة بالغة الدلالة فى عنصريتها، حين سألوه عن سبب رفضه للحرب العالمية الاولى واعتقاله لذلك؟ فأجاب انه كان من الممكن تجنب الحرب لو قامت بريطانيا وفرنسا بإعطاء ألمانيا بعضا من مستعمراتها!
لقد كانت حرب بين لصوص العالم. حرب المنتصر والمهزوم فيها أشرار. والضحية فى جميع الاحوال هى شعوبنا.
***
ورغم مرور مائة عام، ورغم الانطباعات السائدة بان تغييرات كبيرة وجوهرية قد طالت الجميع وان العالم اليوم يختلف كثيرا عن عالم الامس، الا ان المعادلة الاساسية لا تزال كما هى لم تتغير؛ فلا نزال نحن التابعين والمستعبدين والفقراء وشعوب وبلدان من الدرجة الثالثة، ولا يزالون هم المهيمنين والمستعمِرين والاغنياء ينهبون غالبية ثروات العالم ويتحكمون فى مصائر الشعوب، ويفجرون الحروب الاهلية والحروب بالوكالة وينتجون ويبيعون وينشرون ادوات ووسائل وماكينات القتل والدمار فى كل مكان.
***
ان احفاد الاسكندر الاكبر، وريتشارد قلب الاسد، ولويس التاسع، ونابليون بونابرت وفريزر، وآرثر بلفور، ومارك سايكس، وجورج بيكو، ولويد جورج، وجورج كليمنصو، واللنبى، وكرومر، وتوماس ويلسون، وتشرشل، لم يتغيروا عن أجدادهم ولم يختلفوا كثيرا عنهم، بل ازدادوا طمعا واجراما وارهابا وتوحشا، ولكن للاسف نحن الذين تغيرنا، فلقد نجحوا فى اختراقنا واستقطاب العديد منا وتنصيبهم فى مقاليد الحكم والسيطرة فى بلادنا.
*****
القاهرة فى 13 نوفمبر 2018