لمار بين النار والنار – سعيد نفاع
قصّة من ليالي سجن الجلبوع!
رأفت الحياةُ ب-“إياد”، والرأفة ظرفيّة، ولم يذهب مجاملا، إلى شيخ الحيّ الضليع في التنجيم يوم رُزق بوليدته الغائبة، ولم تفعل ذلك “نور” وإن كان الطريق أمامها ميسّرا والوليدةُ حاضرة. وما كانا ليذهبا بغض النظر عن الحضور والغياب كي يطلبا لها حسابات النجوم تفتيشا عن اسم يلائمها يردّ عنها في المقبلات من الأيام غدراتِ الدهر.
لم يفعلا ذلك ليس فقط نتيجةَ قلّة إيمانٍ منهما بالمنجمّين أصلا، ورفضا لهذا التقليدِ القرويّ أصلِ كلٍّ منهما قبل أن تأخذَهما الشآمُ وحواريها في رحلة مدينيّةٍ وتمنحَهما في أوجها وردةً حاضرة غائبة لم يحظ إياد بشمّ أريج ولادتها.
حتّى لو كانا ليخضعا لذلك إرضاء لأمّ وحماة، من باب “إن ما ينفع ما يضر”، ما كانا يستطيعان فعلَه عمليّا. فإياد يعيش نارا في زنازينَ ثقيلةِ الهواء بين جدران عالية كاشحةِ الألوان تعلوها أسلاك شائكة وعند أسافلها كلابٌ شرسة و-“كلّابوها”. وعايدة تعيش نارا بين جدران متكسّرة فاقدةِ الألوان ترفض أن تموتَ وقد سندتها أُخَرُ بعد أن تهاوت تعلوها بقايا أشلاءَ وبقايا شظايا قذائفَ ومفخّخات.
بين هذه النار وتلك ورغم هذه وتلك وُلدت “لمار” ووُلد “ألان”، وما الغريب؟ فالآلاف من لدات وأتراب لمار وألان شاركوهما ذلك. غير أن لمار وألان يختصران هذه الآلاف بعدّة مئات أو ربّما عشرات، وقد غيّب الموت أو الغياب من أعطوهما الحياة، فاختصرا الأتراب واللدات أو فقدا اللدات والأتراب الذين لا يشاركونهما إلا في واحدة، الولادة والموت بين النار والنار.
لم تتخّذ لمار اسمَها أو لم يُتّخذ لها اسمُها إلا بعد أن شقّت الطريقَ صعبةً عبر الصليب الأحمر، رسائلُ حملت رائحة البارود من “بَرَدَى” لتختلطَ بأريج “إيريسوات” الجلبوع، التي لم تقوّ الجدران الكاشحة الألوان ولا الأسلاك التي اعتلتها ولا رائحة الكلاب، على النسائم المنحدرة من ذراه حاملة إياه في أصباح آذار ونيسان، ولم تقو كذلك رائحة البارود الآتيةُ من بردى على ضوْعِه، وتشتّتت أمام زحفه روائحُ الزنازين شرّ تشتّتٍ، كما تشتّتت روائح فلول المغول قبل ثمانيةِ قرون ونيّف.
إياد الذّي انهكته لسنوات طويلة مضت كتبُ الطبّ ورائحةُ الأدوية وحبٌّ لم يتخيّل يوما أنه مخروق، ومؤخّرا رائحةُ دماء ما تعوّدها وحروقٌ ما رآها، وجدها له راحةً بين الكتب القليلة المهترئةِ حوافُّ صفحاتِها وراء القضبان، فراح يغرف منها ما لذّ له وطاب علّ بعضَ حلاوتها يخفّف من علقم أيامه الطويلة.
لقد حملت له دلاؤه يوما من عمق الصفحات “إيريس”. كانت هذه ابنةَ توماس أحد التّيتيان العمالقة، غايةً في الجمال مجنّحةً بأجنحة ذهبيّة تحمل في يديها عصا وإبريقَ ماء، وتلبس الملابس الفضفاضة زاهية الألوان. كانت رسولَ الإلهين زيوس وهيرا لبني البشر لسرعة تنقّلها ورشاقة حركاتها وحسن مظهرها، تحمل الأوامر والمهمّاتِ للبشر بسرعة البرق فتصل الأرض والبحر والعالم السفليّ. وحين كانت تأتي الأرضَ كان يظهر وراءها قوس قُزح، فارتقت عرش إلوهيّته.
كان البشر أعطوا اسمَها للزهرة الجميلة، الزنبقةِ متعدّدةِ الألوان، التي وجدت لها في أحضان الجلبوع بيتا متمنّعةً عن الإطلال إلا في حضنِ مارس، رغم أن مارس كان مغضوبَ زيوس بسبب فينوس انتقاما لابنه فولكان.
لو كان إياد يملك الحقّ وحيدا في تسمية “الوردة الشامية” التي شقّت الأرض بين النار والنار، لسمّاها إيريس علّها تجيئه جارّة وراءها قوس قزح يحمل شذا ياسمين بَرَدى وقد مرّ على مرقد جلجاميش في طريقه حاملا عبير شنديب حَرَمون الكنعانيّ، غير أن الرسائل التي جاءته وقد تفتّح التويج وتهادت الأُسدية، جاءت تحمل في طيّاتها لمار.
أيّ المعاني هو الذي دار في عقل وقلب نور في اختيارها، وقلب وعقل إياد حينما توافقت الرسائل على الاسم، لمار، ظلّ لا يعرفها غيرُهما، وترك كلّ منهما المعنى الذي داعب القلب والعقل منهما إلى يومِ تنطفىء نار الجدران الكاشحة، وتتآكل نار الجدران المتكسّرة. هل هو الذّهب المُذاب أم بريقُه أم بُرادتُه؟! ظلّ هذا لا يعرفه إلّاهما وكلٌّ لذاتِه ربّما إلى أن تنطفىءَ النيران وتعود ل – ” الّلمار” الصلابةُ والبريق ويلمّ البُرادة!!
كان إياد شابّا مثلَ الكثيرين غيرِه من أبناء كادحي قريتِه الجولانيّة المحتلّة، ظلّ يحبّ وطنَه رغم أنه لم ير منه ومنذ أن رأت عيناه النور إلا هذا الجزءَ الجريح منه، وبعضَ أطرافٍ من بقيّة الجسد أدمتها أسلاك شائكة. هذا الحبّ هو تجسيد لحبّ الأوطان بالرضاعة حتّى لو سرق أعداءُ الطفولة منها حقَّ وواجبَ الحضانة أو تخلّت عنهما. ألم يُقل “إن الحليبَ غلّابٌ وسحّاب”؟!
كانت عينا أمِّه يوم رافقته يافعا يعبر شرقا الأسلاكَ ثلاثيّةَ الأشكال، رطبةَ الرّموش كسيرتَها والقلبُ منها منقسمٌ بين هنا وهناك. أمّا عينا والدِه عاملِ البناء الكادحِ فتلتمع زهوّا، كما كلّ الآباء الكادحين المجبولُ اسمنتُ دورِ الغرباء الفارهةِ والعاليةِ ببعض عرقهم ودمعهم، وأحيانا متقاربة، دمائِهم. كان مصدر هذا الزهوِّ تخيّلَ المقاولِ المتعجرفِ الذي كان يرميه “على الطالعة والنازلة” بكلّ قرفه العنصريّ، واقفا يُسمعُه ما قال بصوت خفيض مسموع: “سنوات وأصير أبو الدكتور!”، ظنّته زوجته الواقفة بجانبه من خلال رموشها الرّطبة، هذيانا لألم فراق بِكرهما التغريبيّ الطويل.
لم يخطر على بال الوالد حينها أن الحبَّ الذي دأب أن يغرسَه في ابنه سيكونُ مع الأيام مدعاةً لآلامٍ ودموعٍ كثيرة غزيرة. تلاشى الولد خلف الأسلاك الثلاثيّة يحمل ذلك الحبّ، وثمّ غيّبته حافلة خلف التلال. في طريق عودتهما قال لزوجته: “كبر إياد يا أم إياد!”
استقبلت الشآم ابنها الآتي من بطنها ولم تكن كحّلت عينيها به إذ كان سُرق منها جنينا، استقبلته باسطة الذراعين لفّته حبّا وظلّت تلّفه حين يحتاج إلى الدفء والحنوّ، وراح ينهل من ثدييها المِدرارين إلى أن اشتدّ عودُه، فاستدعاه حبَّها ولم يبخل.
لم يخطر يوما على باله، لا وهو يعبّ من الكتب في الجامعة، ولا يوم راح يدلق ما عبّ بحبّ دون حدود على المحتاجين في أحياء الشام، أنّه حتّى الحبُّ في وطنه مخروق. عندما قرّر أن يحمل الفائض من حبّه عائدا إلى العيون الرطبة الرّموش كسيرتِها واللامعةِ زهوّا، لصّه منه ثالث الأسلاك في طريق العودة.
حبّه المخروق هذا كان غاليَ الثّمن، أخذ منه خمسا من حياته في نار زنازينِ خارقِ الحبّ. أخذ منه بعد فترة قصيرة من بدء تآكل الخمس، نشوةَ آلام نور قابضة بقوّة على زنده مرّة وعلى تلابيب ثوبه أخرى صارخة متأوهّة. أخذ منه رائحةَ عرقها المتصبّبِ يخالط دموعَها وخصلاتِ شعرها الوحشيّ المتناثرةَ على وجهها وجيدها والوسادةِ البيضاء، تعطّره رائحةُ لمار الإلهيّة الآتيةُ من الأعماق ملقوحةً على صدرها تصارع أجفانُها الغضّة النورَ بعد أن حيّت الكونَ ببُشرى صارخة. أخذ منه هذا الحبُّ المخروق القبلةَ المغموسة بطعم عرق جبين نور. أخذ منه أغلى لحظات الحبّ.
راحت صورة لمار تكبر رغم نار الجلبوع وتكبر لمار رغم نار بَرَدى. غير أن النارَ ظلّت متربّصةً وياما قطعت على لمار دفءَ صدر نور، وياما سال حليب الأثداء على جنبات فمها الصغير كلّما اقتربت النار بدويّها ولهيبها. راحت النار تنافس لمار العمرَ إلى أن تركت وراءها توأمَها غيرَ الشقيق “ألان كردي” على شواطيء تركيا، وبعد أن ارتكب البحرُ جريمتيه في حقّه، إذ أخذت أمواجُه في جريمته الأولى روحَ ألان، وكانت جريمتُه الثانية أن تركت أمواجُه نعلَه في قدميه الصغيرين مغموسين في الرّمال دون أن تقذف بفردته الأولى لِحًى تفوح منها رائحةُ الطّمث، وبفردته الثانية “كرفتتّات” حلقات الجماعِ المازوخيّ.
تركت لمار ألان على الساحل التركيّ، وقذفها البحرُ إلى الساحل اليونانيّ، وإياد يعيش لياليه في الزنازين معها في حواري ضفاف بَردى ونارها. كانت النار التي خلّفتها لمار وراءها حارقة غير أن نارَ ما وراء البحار وإن كان أوارُها مختلفا ولكنها تظلّ نارا. أمّا نارُ إياد فما انطفأت لا بل علا أوارُها بين نار بردى ونار ما وراء البحار.
حين انطفأت نارُ إياد في أواخر الشتاء الخامس على اشتعالها، ظنّه انطفاءً لن يعود، وظنّ أن نار ما وراء البحار لن تطالَه إلا بدفئها، آمن أن رحلتَه والنارَ انتهت، انتهت في الجلبوع حينما رأى قممَه التي كانت قريبةً بعيدة، وانتهت في بردى ولو إلى حين، وآمن أنها ستنطفىء نهائيّا حين يعبُّ قريبا أنفاسَ لمار ونور.
مرّ على إياد الشتاءُ السادسُ ورغم وفرةِ مياهه، ما زالت لمار بين النار والنار، وإن اختلفت مواقعُها وتنوّع مشعلوها، وما زال حبّ إياد المخروق يحاول أن يطفئَها، لكن صبّابي الوقود هؤلاء الذين جوّة البحار وأولئك الذين برّة البحار ما زالوا أقوى من الحبّ، حتى ليس المخروق منه، ونار إياد عادت إلى الاشتعال.
سعيد نفّاع
أيار 2018