مآلات ما يحدث في غزة- معين الطاهر
لم يكن خصم 30% من رواتب الموظفين الذين التزموا منازلهم، واستنكفوا عن العمل في دوائر السلطة وإداراتها، انصياعًا منهم لتعليمات الرئيس محمود عباس ورئيس حكومته في ذلك الوقت سلام فياض، حين سيطرت حركة حماس على قطاع غزة، مجرّد إجراء منفرد يمكن مراجعته أو العدول عنه. إذ بدا واضحًا أنّ الإجراء مقدمة لتدابير أخرى أشد وأكثر إيلامًا، تنال خدمات مختلفة وشرائح أخرى من المواطنين، بعد أن كانت حكومات الوفاق المتعاقبة قد فشلت في حل مشكلة الموظفين الآخرين الذين عيّنتهم حكومة “حماس” للحلول مكان زملائهم المستنكفين.
جاءت ردة الفعل على الإجراء الذي طال شريحة المواطنين الملتزمين بقرارات سلطة رام الله، والمحسوبين على حركة فتح والفصائل المنضوية ضمن منظمة التحرير، كبيرة، إذ سار في شوارع غزة نحو نصف مليون مواطن، يمثّلون نحو ثلث السكان (الموظفون وعائلاتهم). كما يمتد تأثير هذا القرار إلى قطاعات أخرى، إذ يمسُّ مجمل الدورة الاقتصادية، نتيجة انخفاض القدرة الشرائية في قطاعٍ تبلغ نسبة البطالة فيه، بحسب الأمم المتحدة، 60%.
رفض الرئيس محمود عباس مناقشة القرار الصادر عن حكومة رامي الحمد الله، وإصراره عليه، يوضحان أنّ القضية هنا لا تتعلّق بمجرد إجراء إداري ناجم عن ضغوط على الموازنة، أو دخول السلطة الفلسطينية في حالة تقشف، إذ من المتعارف عليه في مثل هذه الحالات أن تكون الإجراءات شاملة للوطن كله، ولا تقتصر على جزءٍ منه، وتطبق على مجمل بنود الموازنة، وتشمل مختلف مصاريف السلطة الوطنية ومنظمة التحرير.
لا يوجد غموض في هذا الجانب، فرسالة الرئيس عباس واضحة، وقد عبّر عنها في اجتماع اللجنة المركزية لحركة فتح، حين طلب من أعضاء اللجنة عدم مهاجمة قرار الحكومة، بل والدفاع عنه، باعتبار أنّ الوقت قد حان لإنهاء الانقسام، وأنّ على “حماس” أن تُقرّر، وقبل 25 إبريل/ نيسان الجاري ما إذا كانت ستُسلّم غزة كاملة للسلطة الوطنية من دون شروط، أو أنّها ستنفرد بإدارتها، وحينها فإنّ تدابير أخرى ستُطبّق على القطاع، مثل إنهاء مسؤولية السلطة عن الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليم وقطاع الطاقة، وصولًا إلى إعلان غزة إقليماً متمردا. وقد قرّر الرئيس إرسال وفد من اللجنة المركزية برئاسة محمود العالول لإبلاغ “حماس” هذا الإنذار النهائي، مع وضع قيود مسبقة على حركة الوفد بمنعه من بحث أي قضايا أخرى، ويترافق ذلك مع ما يبشّرنا به قاضي قضاة فلسطين، محمود الهباش، في خطبة الجمعة (14/4) ومن مسجد المقاطعة، حيث مقرّ الرئيس عباس، أنّ غزة تشبه مسجد الضرار الذي أقامه المنافقون في المدينة المنورة، وأمر رسول الله بحرقه، مؤكدًا أنّ على الرئيس واجبًا شرعيًا ووطنيًا وإنسانيًا لاجتثاث هذا الوضع الشاذ.
ما الذي تغيّر بعد أن كانت العلاقة بين الطرفين تسير باتجاه مزيدٍ من التقارب والاتفاق، وتمثّل ذلك في استجابة “حماس” لطلب الرئيس عباس بتسهيل خروج مندوبي “فتح” في القطاع إلى رام الله؛ لحضور مؤتمر الحركة السابع الذي عزّز شرعية الرئيس محمود عباس في داخل فتح، وفي مواجهة خصومه. كما تمثل ذلك التقارب في رسالة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، إلى المؤتمر، وفي لقاء بيروت، واتفاق الدوحة، وأخيرًا في ما تسرّب عن وثيقة تُعدّها “حماس”، وتشمل تعديلات جوهرية على ميثاقها، وتقدّمها حركة وطنية، وتتبنى فيها إقامة دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومع تحفظ كاتب هذه المقالة على بعض هذه التعديلات، إلّا أنّها تفيد بأنّ “حماس” تسير بخطى ثابتة على المسار الذي سارت عليه “فتح” في الماضي، على الرغم من وضعها شروطًا وقيودًا على تحرّكها بهذا الاتجاه. لكن، من المفيد التذكير بأنّ الشروط والقيود نفسها وضعتها حركة فتح في بداية مسيرتها نحو عملية التسوية. لم يلتقط الرئيس عباس، وكذا حركة فتح هذه المتغيّرات، ويسعيان إلى تطويرها (من زاويتهما)، بل إنّ التهديد بتدابير وإجراءات يعني بوضوح عزم “فتح” على نقل الصراع مع “حماس” إلى مرحلة جديدة. فما الذي تغيّر على المسرح السياسي، حتى يستجد هذا الموقف؟ وما نتائجه؟
نجح الرئيس محمود عباس في تجاوز ضغوط الرباعية العربية الرامية إلى فرض القيادي المفصول، محمد دحلان، عليه، بل إنّه تمكّن، أخيرا، في زيارته القاهرة، وفي مؤتمر القمة العربية في البحر الميت، من طيّ هذا الملف ولو مؤقتاً. ونجح في عقد مؤتمر لحركة فتح والخروج بقيادة جديدة لها متسقة مع سياساته، وتحويل “فتح” إلى حزب للسلطة الفلسطينية، في وقتٍ تمكّن فيه، عبر لقاء بيروت، من الحصول على شرعية فلسطينية، بعد أن فاجأ الفصائل بالموافقة على طلباتها المتعلّقة بتفعيل الإطار القيادي الموحّد، وتشكيل لجنة للحوار حول تشكيل مجلس وطني فلسطيني، من دون أن ترى هذه المقرّرات النور بعد انتهاء اللقاء. على أنّ العامل الأبرز بعد ترتيبه بيته الداخلي، تمثّل في محاولة الرئيس محمود عباس إعادة إحياء دوره في عملية سلام يُتوقّع أن يُطلق مبادرتها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وهو الأمل الذي انتعش لديه، بعد تلقيه رسالة ودعوة من الأخير.
وعلى الرغم من أنّ شروط عملية السلام الجديدة ما زالت ملتبسة، إلّا أنّه من الواضح أنّ شروط الرئيس عباس السابقة لاستئناف عملية السلام انتهت، وهي المتعلّقة بالإفراج عن الدفعة الأخيرة من الأسرى، ووقف الاستيطان، ومرجعية دولية لعملية السلام، فأقصى ما رشح عنه الموقف الأميركي هو عدم إضافة مستوطنات جديدة، والسماح بتوسيع القائمة. أمّا مرجعية عملية السلام فهي ما يتفق عليه الطرفان في مفاوضات مباشرة، وهذا ما ينزع عن الطرف الفلسطيني المفاوض كل أسلحته، ويتركه لقمة سائغة في أيدي الإسرائيليين.
تعلّق السلطة الفلسطينية مجددًا بوهم التسوية التي سيكون مدخلها، هذه المرة، الحل العربي، بحيث يكون الحل مع الفلسطينيين فتاتًا للتطبيع مع بعض العرب، وضمان دور إقليمي لإسرائيل في المنطقة، وهو حلٌّ، إن تحقق، لن يتجاوز شكلاً من الحكم الذاتي المحدود للسكان، وليس للأرض، ضمن التجمعات السكانية الكبرى. مع تسهيلاتٍ اقتصاديةٍ ومالية، ووعود يتحسين مستويات المعيشة، شبيهة بالتي سادت بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، واتفاقية أوسلو الكارثية، في ما بات يُعرف بالحل الاقتصادي الذي لن يلبث أن يتبخر بعد استنزاف التنازلات السياسية المطلوبة.
وهنا، أولوية الرئيس محمود عباس هي العودة إلى الانخراط في عملية السلام مهما كان شكلها، في ظلّ التطورات الإقليمية والدولية، وانتخاب الرئيس ترامب، وقد يرى أنّ ذلك قد يُمكّنه من البقاء على المسرح السياسي، إلى أن تنجلي هذه المرحلة، وحتى يتمكّن من تحقيق ذلك، فإنّه لم يعد بحاجة إلى حمولةٍ يعتبرها زائدة، وقد تضعه في موقع الاتهام بتشجيع الإرهاب أو دعمه، كما يتبجح بذلك مسؤولون صهاينة في معرض انتقادهم إنفاق السلطة الفلسطينية على احتياجاتٍ إنسانية في قطاع غزة. ولذا، فهو لم يعد بحاجة إلى استمرار حوارات المصالحة الفلسطينية التي اصطدمت دائمًا بالخلاف على البرنامج السياسي، ولا إلى من يشاركه القرار في المرحلة الحرجة المقبلة.
كان في استطاعة السلطة الفلسطينية القول إنّ الوضع الحالي في قطاع غزة ناجم عن استمرار الاحتلال والحصار، وتعثر مسيرة السلام، ما يفترض، بالضرورة، نشوء وجهات نظر مغايرة للتعامل مع الاحتلال، بما فيها الحق في مقاومته بكل الوسائل، وأنّ من شأن الخلاص من هذا الاحتلال أن يعيد توحيد جناحي الوطن. أمّا أن يتمّ التعامل مع مشكلة الانقسام باتخاذ إجراءاتٍ قاسيةٍ ضد قطاع غزة، عبر وقف الإنفاق على الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية والطاقة، فإنّها بمثابة عقوبات جماعية على الشعب الفلسطيني في غزة، وجزء من إحكام حلقات الحصار عليه، ووصفة جاهزة للاقتتال الداخلي.
أمّا الحديث عن اعتبار غزة إقليمًا متمردًا فله نتائج خطيرة، أبرزها أنّه يُشرعن الحصار المفروض على القطاع، ويُخرج موضوع الانقسام من كونه موضوعًا فلسطينيًا داخليًا ليصبح مسألة إقليمية أو دولية، ويُفسح المجال لإجراءاتٍ عقابية تمسُّ الشعب الفلسطيني فيه، كما أنّه قد يُشكّل مقدمةً لما طُرح سابقًا من تشكيل قوة مسلحة قد تشارك فيها دول في الإقليم بواجهة فلسطينية، ما يؤدي من جديد إلى إشعال نيران حرب داخلية، قد تمتد إلى مناطق أخرى، أو يمنح الشرعية لاجتياحات إسرائيلية جديدة، فضلًا عن أنّه سيصرف الأنظار كليًا حتى عن عملية السلام نفسها، والتي شكّلت محاولة اللحاق بها مبررًا للذين يدعون إلى مثل هذه الإجراءات.
ثم ماذا لو وافقت حركة حماس على تسليم غزة؟ ما هو مصير المقاومة فيها؟ وما هي مآلات سلاحها؟ حتما لن توافق السلطة الفلسطينية على وجوده، بحجة أن للشرعية سلاحا واحدا. وبمعنى آخر، المطلوب هو إنهاء هذا الشكل من المقاومة، ولعل هذا يوضح أن لطلب السلطة من “حماس” تسليم غزة أو الانفراد بإدارتها وجها واحدا، يتمثل في الإعداد لمواجهة داخلية فلسطينية جديدة، ودخول القضية الفلسطينية في نفق جديد، يبعدها عن أي حل عادل، ويعيق محاولات أبنائها باتجاه المقاومة ودحر الاحتلال.
ليس ما يُخطط له قدرًا محتومًا، فالأمل ما زال معقودًا بأن يستيقظ وعي كثيرين لمخاطر ما يجري الإعداد له، وبأن تبادر أجنحة الشعب الفلسطيني المختلفة للتضامن مع غزة، وبأن تُدرك حركة حماس أنّ السير على طريق التسوية ذاته لن يحميها من التصفية، وأنّ عليها أن تدرك أنّ غزة تستطيع الصمود، إذا ما عبأت كل قواها وفصائلها وجماهيرها بعيدًا عن سياسة الاستفراد ووهم السلطة.
ولعلّها معركة جديدة تُفرض على شعبنا، لكنّه عبر وحدته وتضامنه ونضاله قادر على دحرها.