مأساة مخيم نهر البارد
نضال حمد
مرت أسابيع على معارك مخيم نهر البارد بين جماعة فتح الإسلام التي تتحصن في المخيم والجيش اللبناني الذي يحاصره من كل صوب ويواصل قصفه التدميري لأحياء كاملة فيه تذكرنا بعمليات القصف التدميري وما تعرض له مخيم تل الزعتر على أيدي القوات الانعزالية الكتائبية سنة 1977. وكذلك بما تعرضت له المخيمات الفلسطينية (صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة) في بيروت على أيدي حركة أمل واللواء السادس في الجيش اللبناني منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. وهذه الذكريات سوداء وقاتمة ومظلمة ولا يمكن عبرها ان يكون هناك تفاؤل بل تشاؤم وخوف من مستقبل قد يكون رهيباً.
الأسابيع المنصرمة التي مرت على نهر البارد كانت صعبة ودموية وقاسية لأهل المخيم وعلى الجميع. إذ أن القتلى والجرحى سقطوا بالمئات. كما أن آخر المعلومات تفيد بحدوث دمار رهيب شمل نسبة 80% من المخيم. الذي يسكنه أكثر من 30 ألف لاجئ فلسطيني فرت غالبيتهم إلى مخيم البداوي المجاور والمخيمات الأخرى في لبنان.
يقال أنه لازال هناك المئات من الفلسطينيين يسكنون الملاجئ والأطلال في المخيم الذي يمكننا تسميته الآن مخيم النهر الساخن لا مخيم نهر البارد. يعيش هؤلاء اللاجئين في ظروف صعبة ومزرية دون أن يكترث بهم أحد. فينقصهم الغذاء والماء والكهرباء والدواء وكافة الاحتياجات المعيشية، إضافة للخطر الذي تسببه المعارك الدائرة بين الطرفين.
إذا ما سلمنا بأن جماعة فتح الإسلام حالة دخيلة على الساحتين اللبنانية والفلسطينية اللبنانية أي المخيمات هناك، وهذا صحيح. وأن الجيش تعرض لضربة موجعة وهجمات وحشية أودت بعدد من ضباطه وجنوده مما أدى إلى تطور الأحداث من مجابهات محدودة إلى حرب شاملة. دخلت فيها أطراف دولية وإقليمية ومحلية كل طرف منها لأسبابه الخاصة. وعملت هذه الأطراف على تسخينها وجعلها حديثها وخبزها اليومي. فالولايات المتحدة الأمريكية التي ترى في حكومة السنيورة ومن يدعمها في لبنان حليفاً لها ضد سوريا والفلسطينيين والمعارضة اللبنانية وإيران. باشرت منذ اليوم الأول للمعركة توفير الدعم العسكري والسياسي والإعلامي للحكومة اللبنانية وللجيش اللبناني الذي قالت أنه يحارب الإرهاب. مع أن هذا الجيش الذي تعرض لهجمات إرهابية دموية في حرب تموز العام الماضي من قبل العدوان الصهيوني. لم يلق حتى كلمات تشجيع ومواساة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ولا نقول أنها لم تقم بمساعدته ولا بإدانة الصهاينة على فعلتهم.
أما الموالاة اللبنانية فقد رأت في تلك المعركة بداية لتعميمها لاحقاً على المخيمات الفلسطينية الأخرى. إن الذي يؤكد هذا الاستنتاج هو حجم العداء الذي تمارسه وسائل الإعلام اللبنانية المختلفة ضد الفلسطينيين وحجم التحريض المبرمج. حيث تقوم بما يشبه الإجماع بمحاربة وتحريض الرأي العام اللبناني ضد الوجود الفلسطيني. ومارست التلفازيات والجرائد والإذاعات الطائفية والمذهبية والحزبية حرباً أخرى على الفلسطينيين. ومما زاد الأمور تعقيداً المناخ اللبناني المحتقن والطائفي والمذهبي الذي أظهر بغضه للفلسطينيين في حوادث كثيرة أعقبت معارك نهر البارد. وليس أقلها مجزرة المدنيين الفلسطينيين اللاجئين في مخيم البداوي. حيث تم قتل وجرح العشرات منهم بلا سبب، وعلى أيدي الجيش والشرطة ومسلحين تابعين لفئات طائفية محلية. ولم يتعامل الإعلام اللبناني حتى النظيف منه مثل تلفزيون الجديد وفضائية المنار مع الأمر بشكل مهني. وهذه الطريقة في التعامل لم تتوقف منذ بدأت المعارك في مخيم البارد. و إن دل هذا على شيء إنما يدل على حجم وهول المأساة الفلسطينية في مخيمات لبنان. إذ أن الفلسطيني لم يكن في يوم من الأيام ومنذ نكبته الكبرى ولجوؤه إلى بلاد الأرز عنصراً مرحبا به أو مرغوب فيه من قبل اللبنانيين. فقط المصلحة السياسية والاقتصادية والصراعات المحلية هي التي جعلت البعض يتعامل معه.
عاش الفلسطيني في لبنان حياة صعبة وحرمان وبؤس ومجازر عديدة. كما سُنت ضده القوانين العنصرية التي يجب أن تعيب اللبنانيين جميعاً. لأنها قوانين سيئة ورخيصة تشابه قوانين التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا. عاش الفلسطينيون في لبنان سنوات جحيم لا يطاق، حيث لا يمكنهم العمل والتوريث والتملك والسفر بحرية وأصبحت مخيماتهم محاصرة ومغلقة ومعزولة.
كما يلاحظ الإنسان كيف يقوم الإعلام اللبناني بغالبيته العظمى بالتعاطي معها على أساس أنها جزر وبؤر أمنية خارجة عن القانون وما شابه ذلك. وقد أحسن الدكتور اللبناني أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا أسعد أبو خليل حين كتب عن هذا الأمر بشكل موسع ومبسط، في مقالة له بعنوان ” هذا السقوط الذريع للإعلام اللبناني: «البارد» نموذجاً”.. نشرتها جريدة الأخبار اليومية اللبنانية في عددها ليوم التاسع من تموز – يوليو الجاري. وجاء في المقالة:
“أما الشعب اللبناني فبدا مبتهجاً بأداء جيشه. الشعب اللبناني بدا مزهوّاً في مشهد يذكّر بابتهاج الشعب الأميركي (بمعظمه) بمشاهد قصف أفغانستان. ولبنان، كمحاولة مصطنعة لإنشاء وطن، كان دوماً يسعى، ومن دون نجاح يذكر، نحو إنشاء رموز وطنية مُوحّدة. فوهم الوطنية لا ينفك يُفتش عن إمكانية حصول إجماع (فوق الانشطارات الطائفية) خارج إطار المطبخ اللبناني وتقدير فيروز (وهما بالتأكيد محل إجماع). فإمكانية التوحّد حول طبق شهي (أو حول تلك الأغنية الركيكة «بحبك يا لبنان») لا تكفي لإنشاء وطن، ولا تكفي أيضاً تلك الأرزة (هل هي نفسها التي أعطيت لجون بولتون؟). فالجيش بقي العنوان الوحيد، وخصوصاً أن قائده استطاع أن يقفز بمهارة سياسية فوق الطوائف ووفق الانقسامات في المرحلة الحرجة التي تلت اغتيال رفيق الحريري، والتي لم تكتمل بعد…
ولم يتورّع الإعلام اللبناني عن الانزلاق نحو الخطاب العنصري الفجّ ضد الشعب الفلسطيني، على غرار الإعلام الكتائبي أثناء الحرب، وهو كان يستعين بخبرات (إسرائيلية) آنذاك. فعبارات «البؤر» في المخيمات والحديث عن مرتزقة صارا لازمة من لوازم التحليلات الإخبارية الشائعة في لبنان. وتحولت المخيمات الفلسطينية فجأة، في الإعلام الحريري وفي غيره، الى «معسكرات»، وهي العبارة التي كانت الإذاعة (الإسرائيلية) تستخدمها في نشرتها العربية للحديث عن المخيمات في عصر الثورة الفلسطينية في لبنان…
لكن الإعلام اللبناني، كما السلطة اللبنانية، استعار أيضاً من خطاب الحكومة الأردنية أثناء مجازر أيلول. فالسنيورة (الذي أصبحت معارضته مخالفة للقانون الدولي وفق (لا)منطق جورج بوش، الراعي العطوف لـ «ثورة الأرز») يتحدث عن قتل الفلسطينيين، وكأنها خدمة للقضية الفلسطينية. وهو وعد وفداً فلسطينياً زاره بتحويل مخيم نهر البارد الى مخيم «نموذجي» بعد تدميره ــــ لعل النموذج هو مخيم جنين، فاقتضى التنويه. حتى إطلاق النار على المتظاهرين في البداوي تحول في خطاب السنيورة الى عطاء من أجل فلسطين، مثلما كان بيار الجميل يصرّ في خضمّ حصار وحشي لمخيم تل الزعتر على أن قضية فلسطين هي «أشرف قضية».”.
الى هنا ينتهي كلام الأستاذ أسعد أبو خليل. ولا يسعنا إلا أن نضيف على كلامه ما يجب أن نقوله وهو التذكير بالموقف المخزي لمكتب ( سفارة ) منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. الذي برر للجيش ما يقوم به من تدمير في المخيم ومن إطلاق نار على المتظاهرين الفلسطينيين في مخيم البداوي. هذا الموقف السيئ يجعل الأمور أكثر وضوحاً إنها تحالفات كرزايات بلاد العرب بناء على طلب الإدارة الأمريكية. وبحجة محاربة الجماعات الإرهابية. فالذي يدمر مخيم يمكنه تدمير وطن. والذي يبيع موقفه يمكنه بيع الوطن.
مأساة مخيم نهر البارد
نضال حمد
Wednesday 18-07 -2007