ماهر اليماني كما عشتُه – زينب شمس
الحديث عن شخصيّة ماهر أمرٌ شائك، ويحتاج إلى وقتٍ طويل، نظرًا إلى ما تَشَكّل فيها، على مرّ حياته، من تناقضاتٍ تثير الدهشةَ: فهو “صامتٌ هادر، غائبٌ حاضر، عنيدٌ ليّن، مزاجيٌّ هَنيّ، غاضبٌ مرح، شامخٌ متواضع، صلبٌ مرِن، قاسٍ حنون، غنيٌّ فقير،” على ما سبق أن كتبتُ في الآداب.[1]
غير أنّ كلَّ هذه “التناقضات” لا تَحيد عن صراطٍ أخلاقيّ مستقيم. ولذا اخترتُ أن أحدّثكم، أوّلًا، عن الجانب الأخلاقيّ في شخصيّة ماهر، وفي سلوكه الاجتماعيّ والنضاليّ. وقد دفعني إلى ذلك، أيضًا، ما لهذا الجانب من دورٍ يؤدّيه في حياة الناس والمجتمعاتِ والأوطان، حتى تكادَ لا تخلو حِكَمٌ وأقوالٌ مِن اعتماده أساسًا يقرِّر مصيرَ الشعوب. وسأورد هنا بعضَ ما قيل في الأخلاق، وهو غيضٌ من فيض:
– كونفوشيوس، الحكيمُ الصينيّ، قال إنّ المجتمع يقوم بأفراده، فيَصْلح بصلاحهم، ويمرض بمرضهم. وأضاف أنّ الأخلاق، في غايتها، فوق القوانين والأنظمة.
– وسقراط، الفيلسوفُ اليونانيّ، قال إنّ التربية الخلقيّة أهمُّ للإنسان من خبزه وثوبه.
– ونابليون بونابرت قال إنّ المؤسّسات تَفْسد حين لا تكون الأخلاقُ قاعدتَها.
– ومونتسكيو قال إنّك إذا أردتَ أن تعرف أخلاقَ رجل، فضعِ السلطةَ في يده، ثمّ انظرْ كيف يتصرّف.
– والإمامُ عليّ بن أبي طالب قال إنّ الله جعل مكارمَ الأخلاق ومحاسنَها وصلًا بيننا وبينه.
– وابنُ خلدون، عالِمُ الاجتماع، قال إنّ السياسة المدنيّة هي تدبيرُ المنزل أو المدينة بمقتضى الأخلاق والحكمة، فيُحمل الجمهورُ على منهاجٍ يكون فيه حفظُ النوع وبقاؤه.
– وأنطون سعادة قال إنّ الأخلاق هي في صميم كلّ نظامٍ يمكن أن يُكتب له البقاء. وزاد أنّ منظومةَ الأخلاق، بما هي قيمٌ اجتماعيّة، لا بدّ من أن يكون معيارُها مصلحةَ المجتمع والوطن.
– وألبير كامو، الفيلسوف والروائيّ والمسرحيّ الفرنسيّ من أصل جزائريّ، قال إنّ رجلًا بلا أخلاق إنّما هو وحشٌ جرى إطلاقُه على هذا العالم.
خلاصة هذه الأقوال: إنّ أيَّ مناضل أو سياسيّ أو قائد أو ناشط اجتماعي أو مربٍّ كبير هو حتمًا أخلاقيٌّ كبير.
ماهر اليماني آمن بالأخلاق وترجمها بنضاله
وماهر اليماني، المناضل والقائد والمعلّم والناشط سياسيًّا واجتماعيًّا، كان كبيرًا بأخلاقه. وقد تَرجم ما آمن به على أرض الواقع، في سلوكه وتصرّفاته؛ إذ لا قيمة لنظريّةٍ من دون تطبيقٍ عمليّ. فالرصاص والعبوات الناسفة والقنابل، في رأيه، ليست غايةً في ذاتها، بل وسيلةٌ لقضيّةٍ سامية. وهذه القضيّة تَسقط إذا تجرّدتْ من أخلاقها.
من أبرز “أخلاق الثورة” التي ركّز ماهر عليها قيمةُ التضحية، التي كان يمارسها من دون تفاخرٍ أو تبجّح. وقد كان ذلك دأبَه منذ كان في الثانية عشرة، حين كان يُكلَّف بنقل الذخيرة في حقيبته المدرسيّة إلى الثوّار، وحتى أيّامه الأخيرة.
وكان ماهر مضحِّيًا بكلِّ ما يملك، يقدّمُه إلى الفقراء والمحتاجين وطالبي العلم والاستشفاء، هذا عدا تأمين حاجات ولدَيْه. وربّما يعود ذلك إلى ما عاناه من فقرٍ منذ أيّام طفولته، جرّاء اللّجوء. فقد أخبرني أنّه كان يعيش مع عائلته في طرابلس في غرفةٍ صغيرةٍ قريبةٍ من البحر، وأنّه كان يأخذ مصفاةً ليصطادَ السمكَ الذي تُعدّه أمُّه لاحقًا للغذاء، ثم ينصرف إلى لمّ قِطع المغناطيس من المزابل ليبيعَها إلى الخيّاطين فيحصّلَ مصروفَه، إذ لم يكن والدُه يعطيه المال (كان ماهر يكره والدَه بسبب ما ظنّه فيه بخلًا؛ إلّا أنّه اكتشف عندما كبر أنّه كان فقيرًا، لا بخيلًا). كما عمل ماهر “صبيَّ لحّام،” فكان يوصل اللحمةَ إلى بيوت مَن يطلبونها، وكان يَشْتم في سرِّه مَن لا يعطيه منهم بقشيشًا؛ لهذا كان عندما يدفع فاتورةَ أيّ مطعم أو مقهًى نقصده، أنا وهو، يَحرص على أن يترك للنادل١٠ ٪ من قيمتها على سبيل “الإكراميّة.”
ولم يكن ماهر ليختصَّ نفسَه بأيّ شيء. وأذكرُ في هذا الصدد ما قاله أحدُ أصدقائه (وهو من حركة فتح) حينما قصدَنا بزيارةٍ إلى بيتنا في الهرمل، إذ سألني: “أتعرفين لماذا أُحبُّ ماهر وأحترمُه؟ لقد كان في إمكانه أن يملأَ هذا البيتَ مالًا لو استغلّ ما وصل إلى يديه. إلّا أنّه لم يفعل ذلك، ولم تَغرَّه الأموالُ.”
وبمناسبة الحديث عن التضحية، أتذكّر ما رواه لي ماهر مرّةً عندما رأى الجلّادَ يضرب أحدَ رفاقه في السجن، وكان رفيقُه هذا مريضًا نحيلًا. فقد هبّ ماهر للدّفاع عنه، فما كان من الجلّاد إلّا أن ترك ذاك، وضَرب ماهر نيابةً عنه!
على أنّه ما كان لماهر أن تتشكّل لديه صلابةٌ في الأخلاق لو لم تتوفّرْ له “البيئةُ الحاضنة” لذلك منذ الصغر:
– فأوّلُ درسٍ تلقّاه في الاخلاق كان من والدته، وذلك حين نُمِي إليها أنّ ماهر، الطفلَ المشاكس، “تحركش بالبنات.” قالت له بلطف: “يمّا، لا تتحركشْ ببنات الناس، بيتحركشولك بخَوَاتك.” فكان ذلك مفْصلًا أخلاقيًّا مهمًّا في تربية ماهر، جعله ينظر إلى الصبايا والنساء نظرةَ احترام، فيرى ما في دواخلهنّ، دون مظاهرهنّ؛ بل صار يوجِّه صديقاتِه اللواتي يحاولن إبرازَ أشكالهنّ دون المضمون. ومع الوقت، صار محطَّ ثقتِهنّ وحبِّهنّ، يلجأن إليه لحلّ مشاكلهنّ، ويجتمعن حوله شاعراتٍ بالأمان. وكان ذلك دأبَه حتى النهاية.
القائد أبو ماهر وجّه سلوكَ أخيه ماهر في شبابه
– أمّا الدروس الأخلاقيّة الأخرى فكانت على يد أخيه، القائد والمعلّم والمربّي الكبير أحمد اليماني (أبي ماهر)، الذي وجّه سلوكَ ماهر في شبابه، وتوقّف عند أدقِّ التفاصيل، حتى بات لومُه وتوبيخُه إيّاه حين يخطئ أمرًا لا يحتمله ماهر. وهو ما عبّر عنه بقوله: “وقت كان أبو ماهر يناديني عالصالون، كانت تْسُكْ رُكَبي [أي تصطكّ ركبتاي]!”
وذاتَ مرّة، كما أخبرني، علّق ماهر شريطًا كهربائيًّا على أشرطة الدولة، وذلك بطلبٍ من زوجة أخيه، كي تستطيعَ أن تستخدمَ الغسّالة بدلًا من يديْها.
فنهره أبو ماهر، واتّهمه بأنّه سارقٌ ومسيء. هنا انتفض ماهر وقال: “رح تعملني عميل يا أبو ماهر!” ثم انتزع الشريطَ سريعًا وقال: “وهاي الشريط شِلْناه!”
ومرّة أخرى، داهم ماهر فجرًا، وبفخرٍ، بيتَ أحدِ المطلوبين، وذلك بطلبٍ من الجبهة الشعبيّة. فما كان من أبي ماهر إلّا أن طلبه للمحاسبة موبِّخًا: “أما كان بإمكانكَ أن تنتظرَ حتّى طلوع النهار وانصرافِ أولادِه إلى المدرسة؟ أنسيتَ ما كنتم تشعرون به، أنت وأمُّكَ وإخوتُكَ، من هلعٍ حين كانوا يلْقون القبضَ عليَّ في منتصف الليل؟”[2]
نعم، كان ماهر يحدّثني عن أبي ماهر دائمًا، فخورًا بأنّه هو مَن ربّاه وعلّمه. وصار نهجُ أبي ماهر الأخلاقيّ مسارًا لماهر، ولإخوته وأبنائه وأحفاده، فيحرص الجميعُ على سلامة التّصرّف كيْلا يُشار إلى كبيرهم العظيم بأدنى سوء.
***
الجانب الثاني الذي أودُّ أن أتحدّث عنه هو شجاعة ماهر. كان ماهر، بحسب رفيقه نضال حمد، “يتنقّل بين الرصاص والقذائف مثلَ فراشةٍ بين أزهار الربيع ولم تمسّها شوكة… عاش في حقول الألغام وبين القذائف والمتفجّرات والقنابل. وخاض الحروبَ والمواجهات والمعارك كافةً على مرّ سنواتٍ طويلة من المقاومة.”[3]
ومن أقواله للحثّ على ممارسة الشجاعة والبطولة وخوض المعارك بلا خوف: “ليست كلُّ رصاصةٍ تُطلق في المعركة تُطلقُ عليك. وليست كلُّ رصاصةٍ تُطلق عليكَ تصيبُك. وليست كلُّ رصاصةٍ تصيبُك تقتلكَ!”
وكتب الصحافيّ فراس الشوفي في جريدة الأخبار: “كان ماهر كثيرَ التردّد إلى معسكر للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في درعا، فأتته نصائحُ أصدقائه بالتوقّف عن هذه الزيارات الخطرة، وخصوصًا أنّ المجموعات المسلّحة كانت قد وصلتْ إلى نقاط قريبة من المعسكر وتقيم حواجزَ طيّارةً على الطرقات الواصلة اليه. إلّا أنه لم يأبه للنصائح، وبقي على خطّته بزيارة رفاقه هناك… “[4]
ومن علامات الشجاعة عند ماهر أنّه لم يَخَفِ السجونَ، بل كان يهزأ بها وبمَن يخافونها قائلًا: “ستنزعج في اليومين الأولين، ومن ثمّ ستعتاد حياتَكَ الجديدة، ويصبح السجنُ ورفاقُ السجن ملعبًا للنضال!” كيف ذلك يا ماهر؟ يجيب: “بإمكانكَ أن تدافع عن قضيّتك أو أن تنشرَها بينهم. بل بإمكانكَ أن تقْنع جلّاديك بأنّهم على خطأ!” وهذا ما حدث معه أثناء سجنه في سورية سنة 1976 حين كان يُضرب بالسّوط وتُوجَّهُ اليه الشّتائمُ والاتهاماتُ بأنّه عميلٌ للصهاينة؛ فقد صرخ ماهر في وجه جلّاده قائلًا: “أنا جبهة شعبيّة، مع جورج حبش.” فدُهش الجلّادُ وتوقّف عن ضربه وسأله: “فلسطيني في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين؟” أجاب ماهر: “نعم، وأنا أفخر بذلك.” فردّ الجلّاد: “أولاد الكلب كلّفوني بضربك على أساس أنّك عميل للصّهاينة!”
***
أمّا الجانب الثالث الذي أودُّ أن أتحدّث عنه فهو الجانب الثقافيّ من ماهر. اكتسبَ ماهر وعيَه وثقافتَه، في بداية حياته، من تتلمذه على يد المناضل والمثقّف الكبير غسّان كنفاني. ومن هنا حافظ على سلاحه بيده، وحمل الكتابَ بيده الأُخرى، وأقبل على تثقيف ذاته بنَهَمِ العارف المؤمن بأنّ الوعي – لدى الشباب بشكلٍ خاصّ – أساسٌ في الصراع. وقبل رحيله بأشهر وضع اللبناتِ الأولى لـ” أكاديميّة حنظلة لتنمية القدرات القياديّة عند الشباب على أساسٍ علميّ،” مستعينًا بالدكتور المتخصّص في هذا الشأن، علي العزّام.
تتلمذ على يد غسّان كنفاني، حافظ على سلاحه بيده، وحمل الكتابَ بالأخرى
كان ماهر يقرأ و”يَخلق” وقتًا للقراءة: في المكتب؛ بعد فراغِه من عمله؛ في البيت صباحًا وليلًا؛ أثناء عمله في الجنينة؛ أثناء الطبخ؛ بعد الغداء… ومنذ عرفتُه لاحظتُ أنّه مثقف من الدرجة الأولى، وفي مجالاتٍ شتّى؛ فلا يخيِّب رجاءَ سائلٍ مهما كان نوعُ سؤاله. وصار الشباب والصبايا ينتظرون عودةَ ماهر إلى الهرمل لمجالسته والاستمتاع بحديثه وسعةِ معرفته، مع أنّه قلّما تحدّث عن أفعاله، مركّزًا عمّا يمكن (ويجب) أن يفعلوه هم. وكان، في ذلك، مستمِعًا جيّدًا، لا يقاطِع مَن يحدّثه. وكان حين يريد أن يصوّبَ حديثَ غيره لا يُشْعرُه بعدم معرفته بل يقول: “يللي بتقوله صحيح، بس هادا جزء، ولازم تعْرف كذا وكذا!”
***
وأمّا بالنسبه إليّ، أنا زوجته، فلقد كان حبيبًا، وصديقًا، ورفيقًا.
ماهر الحبيب، أحبّني وأحببتُه، فأعطى الواحدُ منّا الآخرَ كلَّ ما يمكنه أن يخلقَ السعادةَ في نفسه.
لا أحبُّ من حياتي إلّا سنواتي معه
وماهر الصديق، كنتُ أشكو إليه كلَّ ما يزعجني ويؤلمُني، خصوصًا ممّا كنتُ أتعرّض له من المجتمع المنغلق الذي يقف حائلًا دون عمل النساء وحريتهنّ. وإذا كان مصدرَ انزعاجي أحدُ تصرّفاته، فقد كان يتوبُ إليّ قائلًا: “زوجك آسِفْ ما بقى يعيدها!” فأسامحُه بسرعةٍ تحت تأثير خفّة ظلّه.
وماهر الرفيق كان يساعدني في أنشطتي الاجتماعيّة والحزبيّة، ويكون حاضرًا دائمًا للعمل والنصح والتصويب، ويساندني بقوة إذا استدعى الأمرُ دعمًا في المواقف الجريئة، لا سيّما في ما يتحدّى التقاليدَ والمفاهيمَ البالية في مجتمعنا. وكان يفخر بي إذا ناقشتُ أو ألقيتُ خطابًا أو ترشّحتُ لمقعدٍ بلديّ في مواجهة الفئويّة.
وكان يشجّعني على السباحة والقراءة والسفر، وعلى فعل كلِّ ما يطوٌر ويُعلّم ويفيد. فبتُّ لا أحبُّ من كلّ حياتي إلّا سنواتٍ قليلةً ورائعةً قضيناها معًا.
***
وأختمُ بالقول: لقد ترك ماهر أثرًا عظيمًا في نفس كلّ مَن عرفه. تسلّل إلى القلوب صادقًا محبًّا مُطَمْئِنًا، والى العقول معلِّمًا ومرشدًا، وإلى الساحات مناضلًا وحارسًا أمينًا متواضعًا.
رحل ماهر وترك في كلٍّ منّا بعضًا منه، فأضاف إلى تناقضاته الجميلة تناقضًا أخيرًا: أنّه ما زال حاضرًا بقوّةٍ على الرغم من غيابه.
الهرمل
* من كلمةٍ ألقتها زوجةُ القائد الراحل ماهر اليماني في مخيّم صيفيّ مركزيّ لحركة الشعب في شمال لبنان قبل أيّام، وحمل المخيّم شعار: “مخيّم المناضل ماهر اليماني.”
[1] http://al-adab.com/article/%D8%A8%D8%A7%D9%82%D9%8D-%D9%81%D9%8A-%D9%82%D9%84%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%A8%D8%B6-%D8%A8%D8%AD%D8%A8%D9%91%D9%83
[2] راجعوا رواية سماح إدريس لهذه الحادثة في:
http://al-adab.com/article/%D9%85%D8%A7%D9%87%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A3%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B6%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D9%85%D9%84
[3] http://www.almayadeen.net/articles/blog/938243/%D9%85%D8%A7%D9%87%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%8A%D8%B9%D9%88%D8%AF-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%84%D9%8A%D9%84
[4] https://al-akhbar.com/Politics/266731
ماهر اليماني كما عشتُه – زينب شمس
عن الآداب اللبنانية