مايكل هدسون والدراسات العربيّة في أميركا – أسعد أبو خليل
سمعتُ بمايكل هدسون في سنوات دراستي في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وفي صف (مملّ جداً) للأميركي رالف كرو، وحدّثنا عن صعوبة التنبّؤ في علم السياسة. كانت حنة ارندت تعتقد بأنّ التنبؤ لا يمتّ بصلة إلى السياسة، فالسياسة «عمل». لكن كرو أعطى مثل كتاب هدسون، «الجمهوريّة الهشّة» على نجاح التنبّؤ في العلوم الاجتماعية. لم يكن سهلاً أبداً أن يخرج عالم سياسة بخلاصة تحليليّة تتعارض مع الإجماع الأكاديمي والسياسي حول النظام اللبناني. وكان أحد أسباب التحاقي بجامعة جورجتاون في واشنطن، في سنة ١٩٨٣، وجود هدسون وحنّا بطاطو في تلك الجامعة، والسمعة التي أضفاها هدسون على الدراسات العربيّة فيها. لم ألتقِ بهدسون فور وصولي إلى الجامعة. التقيتُ برفيقه، هشام شرابي، ثم عيّنت الجامعة أستاذاً متخصّصاً في السياسة المكسيكيّة كي يكون أستاذي المُشرف. ولم يطُل الأمر بي قبل أن أشتبك مع الأستاذ المُشرف، خصوصاً بعدما أسمعني عبارات عنصريّة من نوع: «نحن نعرفكم أنتم الطلّاب العرب، لا تنجزون دراساتكم». كما أنّه عيّرني لأنّني كنتُ متردّداً في الحديث باللغة الإنكليزيّة في حينه (أذكر أنّ رشيد الخالدي، أستاذي المُشرف في الجامعة الأميركيّة على مدى سنوات دراسة البكالوريوس والماجستير، قال لي قبل رحيلي إلى جورجتاون: أقلق عليك في اللغة لأنّك في كلّ سنوات دراستك معي لم أسمعك مرّة تتحدّث بغير العربيّة – والتحق الخالدي بجامعة جورجتاون كأستاذ زائر في سنة التحاقي بها). وعندها، عندما فشلت مساعي الوساطة بيني وبين الأستاذ الأبيض المختص بالمكسيك، طلبتُ من مايكل هدسون أن يكون أستاذي المُشرف، وهكذا كان واستمرّ في دوره المُشرف في سنوات دراستي وبعدها.
قلّة تُدرك سبب اختيار الشرق الأوسط للدراسة من قبل مايكل هدسون. بدأ اهتمام مايكل بلبنان والعالم العربي، في عام ١٩٥٨، عندما كان تلميذ بعثة في لبنان وشهدَ التدخّل العسكري الأميركي في لبنان. هل كان هناك أكثر من عام ١٩٥٨ لدارسة السياسة في العالم العربي، عندما تجمّعت صراعات الحرب الباردة والأنظمة العربيّة في تلك السنة، وفي لبنان بالذات؟ لبنان كان قاعدة عسكريّة واستخباريّة، ليس فقط لدول الغرب، بل أيضاً لكلّ أعداء جمال عبد الناصر من العرب. عام ١٩٥٨، هو عام تأسيس «الجمهورية العربيّة المتحدة» وتكثيف الحروب من كلّ الجهات ضدّ عبد الناصر من قِبل المعسكر الرجعي الإمبريالي. ومايكل علّمَ لفترة في «مدرسة الجالية الأميركيّة في بيروت» وتعزّز ارتباطه بلبنان منذ ذلك الحين. لم يتوقّف عن زيارة لبنان عبر السنوات، حتى في سنوات الحرب. وتزوّج من فيرا وهبة (وهي من أصل لبناني – فلسطيني). بعد تخرّجه من جامعة يل، علّمَ هدسون في كليّة بروكلين في جامعة مدينة نيويورك، قبل أن ينتقل إلى «كليّة الدراسات الدوليّة المتقدّمة» في جامعة جونز هوبكنز، وكان الأستاذ مجيد خدّوري مدير الدراسات الشرق الأوسطيّة فيها، ثم خلفه في ما بعد الصهيوني اللبناني، فؤاد عجمي (مع أنّ خدوري كان يفضّل أن يخلفه تلميذه السابق، إيلي سالم). وانتقل هدسون بعدها، في عام ١٩٧٥، إلى جامعة جورجتاون حتى تقاعده في عام ٢٠١٠، حين انتقل إلى جامعة سينغافورة لتأسيس مركز دراسات الشرق الأوسط فيها.
كان هدسون واسع الإحاطة في شؤون العالم العربي، وملمّاً بأوضاع كلّ دولة عربية، ويعرف الكثير من قادة المنطقة، من جورج حبش إلى الملك حسين وحسن الترابي وياسر عرفات. زار كلّ الدول العربيّة باستثناء جيبوتي، وكنتُ دائم الحثّ له على زيارتها حتى أصبحت نكتة بيننا. كيف تدع دولة عربيّة تعتب عليك، يا مايكل. هذا رجل أبيض كان أكثر اعتناقاً وممارسةً للقوميّة العربية من أبناء جلدتنا. سألته مرّة عن أجمل دولة عربيّة زارها، وقال بعد تفكير: جنوب اليمن. كان ملمّاً بشؤون العالم العربي من دون أن يكون ساذجاً، وأن يكون سهل الانخداع بالحيَل السياسية في المنطقة. يعرف العرب معرفة قويّة كما يعرف الغربيّين. لكن إرث هدسون كان في كتاباته، كما في «مركز الدراسات العربيّة المعاصرة» في جامعة جورجتاون، والذي أسّسه مع رفيق عمره، هشام شرابي. الحلف بين شرابي وبين هدسون غيّر طبيعة الدراسات العربيّة في الغرب. شرابي كان على علاقة بالعالم العربي ومع وزرائه ودبلوماسيّيه ما ساعده في سفرات جمع التبرّعات للمركز، وكان مايكل هو الذي يُضفي وجهاً أكاديميّاً محترماً على المركز (وشرابي استفاد في علاقاته من شبكة الجيل الأول لمريدي أنطون سعادة). وفي سنوات معايشتي للمركز ومعرفة طلّابه، ثمّ التعليم فيه، في عام ١٩٩٢ – ١٩٩٣، أدركتُ كم أنّ المركز يحتاج إلى إدارة مايكل بالذات. لم يكن هناك مَن يعرف أن يحافظ على المكانة الأكاديميّة للمركز من دون الانتقاص من مهمّته السياسيّة في التصدّي للنهج الاستشراقي أكثر من هدسون.
جذب هدسون وشرابي العديد من الأساتذة إليه، مثل حنّا بطاطو. وخرج بطاطو من الجامعة الأميركيّة، في أوائل الثمانينيات، وعلّم في جامعتَي برنستون وهارفرد، قبل أن يقدّم طلبَ وظيفة في جامعة بنسلفينيا. وكانت الجامعة على وشك تقديم وظيفة لبطاطو، قبل أن يشنّ الأستاذ آنذاك، ويليام كريستال (وهو الكاتب اليميني الصهيوني المعروف) حملة ضدّ بطاطو، الذي قبل دعوة شرابي وهدسون للانتقال إلى جورجتاون، حيث حصل على كرسي باسم وزير الدفاع الكويتي (وكان شرابي، بالاشتراك مع عميد «كليّة السلك الخارجي»، بيتر كرو، وعلي غندور، ناجحين في استقطاب المال العربي لدعم مهمّة المركز. وتصادم المركز مع اللوبي “الإسرائيلي” أكثر من مرّة، لكن دعم بيتر كرو كان أساسيّاً، إلّا أنّ الإدارة رفضت المال من الحكومة الليبية لمنح شرابي كرسي «عمر المختار»). كما أنّ المركز نجح في استقطاب طلّاب من جميع أنحاء العالم. وكان المركز من دون منازع أفضل مركز لدراسات الشرق الأوسط في العالم – عندما كان في أوجه في السبعينيّات والثمانينيّات والتسعينيّات. لكنّ موت شرابي، ثمّ تقاعد هدسون، وتقاعد العميد بيتر كرو، غيّر في سطوة المركز الأكاديميّة، كما أنّ ذلك سهّل مهمّة الصهاينة في جامعة جورجتاون (وفي خارجها لأنّ المركز كان هدف اللوبي الإسرائيلي) للقضاء على تميّزه السياسي والأكاديمي.
مايكل هدسون وهشام شرابي جالا على الدول العربيّة وطلبا تمويلاً لدراسات تناهض الاستشراق التقليدي والانحياز الصهيوني في آن
اسم «مركز الدراسات العربيّة المعاصرة» يتعارض مع التقليد الجامعي الاستشراقي الغربي. إنّ التعامل مع العالم العربي كوحدة تحليليّة ودراسيّة، هو تمرّد شجاع ضدّ كلّ مفهوم خلق وحدة دراسيّة معادية للهويّة العربيّة. دراسات الغرب لا تعترف بوجود العالم العربي، وهي باتت تعارض مفهوم العالم العربي، خصوصاً في عصر جمال عبد الناصر. وعملت أميركا مع حليفاتها في العالم العربي والإسلامي، على تشكيل تحالفات وجبهات تُعارض وجود العالم العربي، عبر خلق وحدة إسلاميّة (الملك فيصل، بإيعاز أميركي) أو وحدة تنخر في جسم العالم العربي، عبر إضافة عناصر غير عربيّة إليه. ومراكز دراسات الشرق الأوسط في أميركا لا تزال – باستثناء المركز في جورجتاون – تحمل عناوين «الشرق الأوسط» أو «الشرق الأدنى» – ومصطلح الشرق الأدنى (وهو مصطلح القسم المختصّ في وزارة الخارجيّة وفي بعض إدارات الدولة الأميركيّة) كان مُحبّذاً من المراكز التي عنيت بدراسات الشرق والأركيولوجيا القديمة. هشام شرابي ومايكل هدسون، كرّسا القبول الأكاديمي بمصطلح العالم العربي الذي يزعج الصهاينة. والمصطلح يزعج الصهاينة، لأنّه يمنع دخول “إسرائيل” إلى الوحدة الدراسيّة المعنيّة. وكلّ مراكز الشرق الأوسط في أميركا تتعامل مع “إسرائيل” على أنّها أهم من باكستان ومن شمال أفريقيا، وأنّ اللغة العبريّة أهم من اللغة الأرديّة. وكلّ مراكز دراسات الشرق الأوسط تستضيف أساتذة “إسرائيليّين”، مع أن هذا التخصيص في دراسة “إسرائيل” لا يمكن تبريره من وجهة نظر أكاديميّة. كيف يستحق هذا الكيان الصغير الدراسة والعناية الأكاديمية، أكثر من شمال أفريقيا وباكستان وإيران وتركيا؟ لكنّ “لإسرائيل” حظوة لا تتمتّع بها أيّ دولة أخرى في الأكاديميا الأميركية. كما أنّ الصهاينة أسخياء في دعمهم للدراسات “الإسرائيليّة” وفي استضافة أستاذ “إسرائيلي” زائر في الجامعات المعروفة النافذة. أذكر في جامعة جورجتاون أنّ «دائرة الحكم» (والحكم هو التسمية القديمة للدراسات السياسيّة في الجامعات القديمة) كانت أحياناً تستضيف أستاذَيْن زائرَيْن في اختصاص “إسرائيل”، فيما لا أذكر أنّ الجامعة في سنوات علاقتي بها، استضافت أستاذاً زائراً في اختصاص باكستان. هذا يعطي فكرة عن التسييس الجامعي في أميركا. حتى مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية في بيروت، لا يستعمل مصطلح «العالم العربي» – لكن من قال إنّ الاستشراق هو مرض غربي فقط؟
والإصرار على الدراسات «المعاصرة»، لا التاريخيّة – التقليدية، كان تحدّياً للاستشراق التقليدي الذي يرى – كما كتب إدوار سعيد في «الاستشراق – أنّ فهم العالم العربي والإسلامي المعاصر لا يستقيم من دون الرجوع إلى الماضي السحيق وإلى النصوص الدينيّة. ابتعد المركز عن هذه النظرة وأمعن في تعريف العالم العربي لجيل تحصّن، بسبب الإعداد، ضدّ التلقين الاستشراقي. كان تدريس اللغة العربيّة لا يتمّ عبر دراسة القرآن والنصوص القديمة، بل عبر اختيار نصوص من الجرائد العربيّة. صحيح أنّ المركز استعار فكرة تلاقح المدارس والاختصاصات المتعدّدة في تدريس العالم العربي، لكنّه فعل ذلك من زاوية التركيز على المعاصرة. وحتّى تدريس التاريخ كان يتم من قبل مؤرّخين ومؤرّخات (مثل المؤرّخة جودث تكر وجون رودي) تمرّدوا على المسلك التأريخي التقليدي.
مايكل هدسون وهشام شرابي، جالا على الدول العربيّة وطلبا تمويلاً لدراسات تناهض الاستشراق التقليدي والانحياز الصهيوني في آن. ومن حظّ الرجلّيْن، أنّ مهمّة التأسيس تزامنت مع رغبة الدول العربيّة، بعد حرب عام ١٩٧٣، في إنشاء لوبي عربي مقابل للوبي “الإسرائيلي”. وكان هناك فريق من المستعربين والأكاديميّين الذين تعاطفوا مع مهمّة التأسيس هذه، بالرغم من محاربة الجامعة للمهمّة الجديدة للمركز. وكان دور هدسون في أنّه رفض التضحية بالمكانة الأكاديميّة للمركز مقابل الدعاية السياسيّة. كما أنّه كان أكثر حرصاً من شرابي بكثير على الأهليّة والكفاءة في التعيينات (كان شرابي يتعامل أحياناً مع التعيينات بشلليّة: أذكر عندما أصرّ على دعوة أدونيس لتدريس فصل عن الشعر العربي الحديث، في أواخر الثمانينيّات، مع أنّ أدونيس لا يتحدث الإنكليزيّة. وكان الصف ينعقد مرّة في الأسبوع: وكنّا نحن العرب من معارف وأصدقاء شرابي نجلس في الصف، كما الجالس في مقهى ونتحدّث في شتّى شؤون العالم العربي، فيما كان الطلّاب الأميركيّون يجلسون كمن يتطفّل على جلسة سمر. أشكّ في أنّ الطلاب تعلّموا شيئاً في ذلك الفصل).
سجّل مايكل هدسون اسمه في كتابه الأوّل عن لبنان، وزاد الطلب على كتابه بعد اندلاع الحرب لأنّ النبوءة السياسيّة الناجحة نادرة في علم السياسة (أعادت دار نشر «وستفيو» نشر الكتاب لأهميته في الثمانينيات). وكان هدسون، بعد أربع سنوات من نشر كتابه عن لبنان، قد نشر مجلّد «الدليل العالمي للمؤشرات السياسيّة والاجتماعيّة» في العالم مع تشارلز تايلر. كان هدسون، بعد تنبّؤه بانهيار الدولة في لبنان، حريصاً على بلورة معايير شبه عمليّة للمساهمة في توقّع القلاقل والاضطرابات في الدول. هو كان قد قال في كتابه عن لبنان، إنّ «الأحمال على النظام تتثاقل بسرعة أكثر من القدرات». وختم هدسون كتابه بالقول: «مع المجازفة في التقليل من البراعة اللبنانيّة، يجب الوصول إلى خلاصة أنّ المستقبل السياسي للجمهوريّة (اللبنانيّة) سيكون عاصفاً» (ص. ٣٣١). وشجاعة عالم السياسة في الوصول إلى خلاصة قاطعة من هذا النوع كان – ولا يزال – نادراً، ولهذا فإنّ سمعة هدسون العلميّة عمّت الأوساط الجامعيّة بعد اندلاع الحرب. وواظب هدسون على تدريس سيمنار عن لبنان عبر السنوات، وكان يستخدمه للتعرّف إلى جيل جديد من المهتمّين والهمتمّات بالشأن اللبناني. يمرّ في صفّه لبنانيّون ولبنانيّات (كارلوس إده وعامر محسن وغيدا سلام ومايا مكداشي وبسام حداد وغيرهم كثيرون وكثيرات) ويريد أنّ يستسفر من كلّ منهم عن خلفياته وعلاقاته وانطباعاته. لكن فعالية هدسون في الصف تضاءلت عبر السنوات، بسبب انشغاله في المحاضرات وفي السفر وفي إدارة المركز. وكان جد فعّال في دفع أبحاث التلامذة نحو الأفضل، وكان بلباقته المعهودة يحثّك على مسائلة نفسك بشأن بعض الفرضيّات.
وفي كتابه الثاني الأساسي، «السياسة العربيّة: السعي نحو الشرعيّة»، الصادر في عام ١٩٧٧، يحلّل هدسون السياسة العربيّة من زاوية فريدة ومبتكرة. هو يدرس ويصنّف الأنظمة العربيّة، من خلال منظور الشرعية السياسيّة. وفي هذه الرؤية، يدحض هدسون فكرة أنّ المنهج المعروف في السياسة المقارنة لا يصلح لدراسة بلدان عربيّة «غير متطوّرة سياسيّاً» بالمقياس الأكاديمي الغربي التقليدي. لكنّ هدسون تعامل مع المفهوم بطريقة مرنة، إذ هو في جمع مصادر متعدّدة ومنتوّعة من الشرعيّة السياسيّة، ليقول إنّ معايير درس السياسة في العالم لا يجب أن تفرّق بين شرق وغرب. وكان هدسون يشرف على المؤتمر السنوي للمركز، والذي لم يهمل – على عادة المؤتمرات الغربيّة الجامعية – المختصّين والمختصّات من العالم العربي. الذي كان محظوظاً في تلك السنوات في أن يكون قريباً من الجامعة، تعرّف إلى المثقّفين العرب من كل دول المنطقة، حتى الذين لم يحسنوا الحديث باللغة الإنكليزية (مثل حسن حنفي).
في حزيران ٢٠٠٠، تزامنت زيارتي إلى لبنان مع مايكل هدسون. قلتُ له هذه الزيارة هي للاحتفال بتحرير الجنوب وسأزور مع شقيقتي ميرفت كلّ المناطق المحرّرة. رجاني أن نصطحبه وهذا كان. نزل من الفندق، وكان يحمل خريطة للجنوب بحجم لوحة ضياء العزاوي عن صبرا وشاتيلا. زرنا كلّ أرجاء الجنوب وكان يريد أن يتوقّف في كلّ مدينة وقرية – أو هكذا خُيِّل لي بعد معاناة من الدوار في السيارة. وكان يريد أن يسأل السكّان عن أحوالهم، قبل أن نتوقّف للغداء في منزل عمّتي في القليلة. وقال إنه يريد أن يمرّ على مرجعيون لزيارة أقارب زوجته فيرا، وهو لم يرَهم منذ سنوات طويلة. دخل المنزل أمامنا وصاح بالعربيّة: مبروك التحرير. فما كان من أحد سكّان المنزل إلّا أن صاح: أي تحرير، أي…فعاجله مايكل بالقول: معي أصدقاء أعزّاء من مدينة صور، فسكت الجميع وكانت الجلسة أشبه بحفلة من التوتّر الشديد القابل للاشتعال.
لم يتقاعد مايكل، أو لم يقوَ على التقاعد. بعدما ترك جورجتاون أسّس مركزاً لدراسات الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة. وحدّثني عن إمكانيّة المشاركة في تعليم صف أو أكثر. وكان دائم النشاط لكنّه بعد وفاة فيرا، شريكته (وكانت باحثة في العلوم)، تغيّر كثيراً. كانت فيرا جزءاً من حياته الجامعيّة. كنّا نختم كلّ صف في الدراسات المتقدّمة بحفل عشاء في منزلهم، وكانت فيرا تعدّ الأطعمة اللبنانيّة – السوريّة. لا أزال أشعر بطعم المعجّنات. وابنتهما ليلى كانت تعزف البيانو للزوار، وهي اليوم أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة أريزونا (وتوفّي مايكل في أريزونا).
الدارسون والدارسات العرب في العالم مدينون لمايكل هدسون، الذي ترأس جمعيّة دراسات الشرق الأوسط. عندما أنهيت الدكتوراه دعاني إلى مكتبه. قال لي: ما خططك المهنيّة. وأجبته بصراحةِ شابٍ لم يكن مستعدّاً لمواجهة الحياة: لا أعرف. نلت الدكتوراه لكن ليس لي من خطة. قال: ماذا عن التدريس؟ قلتُ له: لا أحب التدريس. قال: هل جرّبت التدريس؟ قلت: لا، لم أجرّب لكن أشعر بأنّ التعليم ليس لي. قال: خذ مادة التعريف بالعالم العربي ودرّسه. قلت: أجرّب. وأذكر أنني في اليوم الأوّل من التعليم، عدتُ إلى المنزل وأنا أردّد: لقد وجدتُ ضالّتي.
لم يعد هناك أمثال مايكل هدسون. لم يكن هدسون يساريّاً متطرّفاً: لكنّه كان أفضل من اليساريّين الأكاديميّين الذين ناصروا تدخّلات الغرب في بلادنا. ليس مثل اليساريّين الذين باتوا متوافقين مع أجندات دول الغرب والخليج. مايكل كان منسجماً مع نفسه ومع قناعاته: عارض سياسات دول الغرب وعارض الاستشراق في عقر دار الأكاديميا الغربيّة، كما أنه كان هدفاً باكراً للوبي “الإسرائيلي” حينما كان الصمت سمة الأكاديميا التقدميّة. الأكاديميا اليساريّة في الغرب، باسم «الشعب الليبي» ساعة، وباسم «الشعب السوري» تارة أخرى، باتت تجاهر بدعم حقوق دول الغرب وطغاة الخليج في التدخّل في بلادنا. لكنّ إرث مايكل هدسون وهشام شرابي، لم يعمّر في جامعة جورجتاون بعدهما. إدارة الجامعة أعادت الأمور إلى ما كانت عليه، قبل إنشاء المركز في عام ١٩٧٥. والمدير الجديد للمركز، جوزيف ساسون، صهيوني رفض قبل أسبوعَيْن أن يوقّع على بيان للتنديد بالاحتلال “الإسرائيلي”، بعدما كان قد وقّعه معظم أساتذة المركز والعاملين فيه. الأخطر، أنّ الاستشراق الغربي غزا بلادنا وأصبح له دعاة من العرب والمسلمين. نحتاج إلى معركة في الجامعات العربيّة، قبل أن نتحدّث عن المعركة في جامعات الغرب. لو بقي مايكل على قيد الحياة، لكان خاضها معنا.
عن جريدة الأخبار اللبنانية
* كاتب عربي – حسابه على تويتر asadabukhalil@