ما الذي قالته جرَّافتهم؟! – عبداللطيف مهنا
ماذا قال لنا المشهد الهمجي المتعمّد المغالاة في الوحشية الفاجرة للجرافة الصهيونية في أطراف حارة أبو طعيمة في بلدة خزاعة الغزيّة؟! لقد قال لنا ولأجيالنا القادمة فلسطينياً وعربياً الكثير الكثير، لكنما لعل أهمه، أو ما هو القول الفصل في منطق الصراع التناحري المديد معهم، هو لا يزد في ابجدياته عما يلي:
بدايةً، لا مراهنة على أنظمة عربية جلُّها يقع في موضع هو ما بين العاجزة والتابعة وحتى التي لم تعد تكتم العمالة، وأغلبها يشجب الاحتلال ويطبّع مع المحتلين، ومنها ما لا يكتفي بالتواطوء معه والسمسرة له، بل ويسعى لمحالفته.
كما لم يعد من الجائز بحال ما هو أصلاً لم يكن بالجائز منذ ربع قرن التعامل مع سلطة أوسلو، المسمّاة ظلماً بالفلسطينية، بما يختلف عما هو مفترض التعامل به مع حالة انهزامية خيانية انتهت مآلاتها بالضرورة إلى ما هي عليه كأداة أمنية لحماية أمن الاحتلال وإعاقة، إن لم يكن الحؤول، دون مقاومته.
وإذ سقطت الدولة القطرية وفتات المجزأ باتت تتهدده الآن وأمام أعيننا مآلات المزيد من التجزئة والشرذمة، أي لم يعد من المنطق في شيء المراهنة على نخوتها، وحيث لا يخدم وجود سلطة بلا سلطة وفي ظل احتلال وظيفتها عنده هي تأمين احتلال مريح له والتجسس على شعبها كشرط لبقائها إلى أن تأتي لحظة انتفاء حاجته إليها، فإن الهروب باتجاه وهم اسمه منصات “العدالة الدولية” المعدومة منذ أن كان الصراع، والتي ليس لأول مرة تنعدم الرؤية لديها اتجاه مشاهد الجرَّافات الصهيونية التي ليس أولها ولا آخرها جرّافتهم في بلدة خزاعة، هو الوجه الآخر للمراهنة على الأنظمة إياها والتعامل مع ذات سلطة التجسس على شعبها!
وهناك وجه آخر لما تقدم، هو أخطر منه بل ويفعل أسوأ من فعله، وهو تعالي الدعوات، فلسطينياً وعربياً، للفلسطينيين بعدم المراهنة على الأمة العربية في صراعهم لصون قضيتهم من التصفية، ذلك بالخلط المجحف والمحبط وغير البريء بينها وبين جرائر أنظمتها المولاَّة بأمر الغرب عليها، إلى جانب تفشي مظاهر الانكباب على الندب والولولة وجلد الذات، وكل ما يشي، في أقله، بانتفاء الأيمان بنهوضها الآتي وقيامتها الموعودة، باعتبارهما موضوعياً وبالأساس ضرورة وجود ومسألة بقاء.. واستطراداً، التشكيك بأنها هي وحدها المعنية والمسؤولة عن التشبُّث ببوصلة هذا النهوض المنشود والقيامة الموعودة، أو ما شرطه الأول لا يكون دون صون قضيتها المركزية في فلسطين، ومن ثم الانتقال إلى تحريرها، تحرير هذا الجزء منها، من هذه الأمة، كاملاً من براثن عدو استعماري غازٍ وجوده أصلاً، وفي القلب منها بالذات، هو نقيض كامل لوجودها، وباعتبار أن مسألة إيجاده اساساً ليست سوى استثمار استعماري غربي هدفه الرئيس نهب ثرواتها وهتك قدراتها والحؤول دون وحدتها ونهضتها وقيامتها، وكل ما يهدد مستقبل أجيالها..
الفلسطينيون ليسوا سوى شعب فدائي، شعب رباط، رأس حربة، طليعة مقاتلة، بؤرة مقاومة، مسؤوليتها الصمود في الخندق الأول، إدامة الاشتباك مع عدو هذه الأمة التي على كتلتها الواحدة حسم الصراع التناحري لصالحها.. هم وحدهم ليس في قدرتهم ولا إمكانهم، حتى لو توحَّدوا جميعاً في تنظيم ثوري مقاوم واحد يقوده قادة من أمثال هوشي منه أو كاسترو، وليس زمرة أوسلو، أو المتيسر في الفصائل، التغلُّب على جبهة أعدائهم الكونية الفاجرة، لا سيما ووباء الدونية والتصهين قد بدأ زحفه على العواصم الردة العربية وطفق يبني اعشاشه فيها.. آن الآوان للكف عن مقولة يا وحدنا، والتغني بحداء “القرار الوطني المستقل”، هذا الذي فرش الطريق للصهينة حين أتاح للمتصهينيين نفض اليد من قضية قضايا الأمة.
.. مشهد الجرَّافة الموجع والمهين والمذل لأمة بأسرها، يؤشر على همجية لن تستثني عربي واحد من المحيط إلى الخليج بما فيهم المتصهينين، فهي همجية يحركها حقد مبعثه رعب معتَّق تغذيه فوبيا وجودية مزمنة لا يتشكك أصحابها في زوال كيانهم الغاصب طال الزمان أم قصر ما دام هناك فلسطيني واحد، واستطراداً، عربي واحد، لإدراك أصحابها أكثر من أكثر العرب أن قضايا الأمة العربية واحدة ولا تتجزأ، وأن هذه الأمة هي ليست أنظمتها.