ما سر هذا الاهتمام بذكرى استشهاد ياسر عرفات ؟ – د/ إبراهيم أبراش
لإحياء المناسبات الوطنية وظيفة ثقافية واجتماعية ، فعندما يتم إحياء ذكرى زعيم فلا يكون المقصود الشخص بذاته ، بل حنين إلى زمن جميل أفضل من الحاضر الردئ ، وصورة مثالية استقرت في الضمير والوجدان الشعبي عن دور هذا الزعيم بذاك الزمن ، وفي بعض الحالات يقوم المخيال والوعي الشعبي بإضفاء صفات وقدرات على الزعيم مبالغ فيها ، وذلك في إطار البحث عن قدوة ونموذج على لتستلهمه الاجيال الشابة.
الأمة ، كشعب وأرض وانتماء وطني ، لا يشكلها الحاضر ولكنها نتاج تاريخ طويل ، فهي ليست الأجيال الحاضرة فقط بل أيضا الأجيال السالفة بما كانت عليه واقعا أو بما يُضفى عليها ، وفي بعض الأحيان يكون صوت الأموات أعلى من صوت الأحياء ، وما تركه السلف قد يكون في رمزيته أعظم وأسمى مما أنجز الخلف . لذا فإن ثقافة الأمة وهويتها وثوابتها ليسوا نتاج الحاضر ولكنهم حصيلة تراكمات الماضي ، فتاريخ كل أمة أو شعب نتاج كل الأجيال ، الأحياء والأموات ، وتاريخ الأمة ملك للجميع ، وليس ملك لحزب أو زعيم ، ولا يجوز لأي حزب أو زعيم أن يُعيد صياغة تاريخ الأمة وثوابتها وثقافتها حسب مشيئته وأيديولوجيته ، فيتجاوز مرحلة ما أو شخصا ما ، لا لشيء إلا لعدم توافقهم مع إيديولوجيته ومرتكزات سلطته وحسابات ارتباطاته الخارجية .
إن تاريخ الشعوب هو تاريخ انجازاتها وعثراتها ، فالأجيال اللاحقة تُراكم على ما أنجزت الأجيال السابقة ، وتستفيد الأجيال اللاحقة من تجارب الأجيال السابقة . صحيح ، إن التاريخ لا يمنح شرعية سياسية دائمة لأي حزب أو زعيم ،وقد يكون وراء إحياء المناسبات وتمجيد القيادات والرموز التاريخية بشكل مبالغ فيه ، محاولة للتغطية على مساوئ الحاضر والهروب من استحقاقاته ، فتعظيم الماضي ورموزه يصبح تعويضا نفسيا عن رداءة الحاضر ، إلا أن ذلك لا يُبرر التخلي عن التاريخ الوطني ورموزه .
القيادات والنخب التي تحترم شعبها هي التي تحترم تاريخها ورموزها التاريخية ، وخصوصا إن كانت هذه الرموز علامات فارقة في تاريخها وصانعة أمجاد هي موضع فخر للأمة ، حتى وإن كانت انجازات متواضعة ، أو جهودا لم يُكتب لها النجاح . فعمر المختار لم يحرر ليبيا من الاحتلال الإيطالي ولكنه فجر ثورة وسطر في تاريخ الشعب الليبي والعربي سطور عز وفخر ، وعبد الكريم الخطابي قاد ثورة في الريف المغربي ولم ينتصر فيها ولكنها أسست لحركة نضالية حررت المغرب لاحقا ، ونفس الأمر يقال عن سعد زغلول في مصر ، ويوسف العظم في سوريا ، وعز الدين القسام وعبد القادر الحسيني والحاج أمين الحسيني واحمد الشقيري وصلاح خلف وأبو إياد وجورج حبش وأبو عمار والشقاقي واحمد ياسين ، ومئات القادة والمناضلين في فلسطين الخ.
القراءة المجتزأة والانتقائية للتاريخ ، كما التاريخ المؤدلج ، لا يمنحا شرعية لمن يريدون إعادة كتابة تاريخ الأمة من لحظة وصولهم للسلطة واشتغالهم بالعمل السياسي تنطعا لقيادة الأمة ، ولو تصورنا أن كل حزب أو حركة سياسية تعيد تأريخ ماضي الأمة من لحظة وجود هذا الحزب على مسرح الحياة السياسية ، لما كان لأمة من الأمم تاريخ ،ولو فكر كل الذين يسعون لتجاهل التاريخ الوطني للأمة أو تشويهه لفرض تاريخ جديد مشوه أو أيديولوجيه من خارج السياق الوطني للأمة ،ما أقدموا على التلاعب بتاريخ الأمة ، لأن الشعب لن يرحمهم والتاريخ الوطني لن يفسح لهم أي مكان فيه ولن يشرفه أن يكونوا جزءا منه ، وكما تجاهل هؤلاء التاريخ الوطني للأمة فالأمة ستلفظهم بمجرد انتهاء تسلطهم على الشعب .لأن التاريخ موئل ثقافة وتراث الأمة وصانع شخصيتها ومنه تُستخلص الدروس والعبر، ففضيلة الوفاء تحتم على الأمة وقياداتها السياسية أن تحترم هذا التاريخ ورموزه الوطنية سواء اتفقت معهم او اختلفت .
هذه المقاربة للتاريخ كنا وما زلنا نستحضرها ونحن نشاهد ونتابع المحاولات الصهيونية المحمومة لتشويه بل شطب التاريخ الوطني للشعب الفلسطيني على أرض فلسطين ، فمنذ أن وُجِدت الحركة الصهيونية على أرض فلسطين وهي تؤسس لوجودها وتبرر هذا الوجود بمزاعم أن فلسطين هي أرض الشعب اليهودي وتاريخ فلسطين هو تاريخ الشعب اليهودي ، وأن لا وجود لشيء يسمى الشعب الفلسطيني وإن وُجِد فهو شعب محتل ودخيل ،وضمن هذا المنطق والقراءة المزيفة للتاريخ تعمل إسرائيل على تشويه التاريخ الوطني الفلسطيني بتراثه وثقافته ورموزه الوطنية وكل ما يربط الفلسطيني بوطنه وأرضه ،ولذا فهي تعتبر التاريخ النضالي الفلسطيني تاريخ إرهاب وإرهابيين ، وأن كل من يعتبرهم الشعب الفلسطيني مناضلين وقادة ثورة هم في نظر إسرائيل قتلة ، كذا كل حركة نضالية فلسطينية حركة إرهابية،والكوفية الفلسطينية رمز إرهابي كما العلم الفلسطيني والأنشودة الوطنية الخ.
مع إدراكنا لتعقد المشهد السياسي بوضع عام والوضع المحتقن بين حركتي فتح وحماس وتعثر المصالحة إلا أن هناك أمورا يجب أن تسمو على كل خلاف ومن الخطورة أن تكون محل خلاف ، وعلى رأس هذه الأمور تاريخنا الوطني النضالي ورموزه الوطنية ، وخصوصا اننا لم ننجز مهمة التحرير وما زالت كل فلسطين تحت الاحتلال ، ومقدساتنا تتعرض اليوم لهجمة صهيونية غير مسبوقة تتطلب وحدة الموقف الفلسطيني .
لذا فإن التشكيك بالتاريخ النضالي وبالقيادات التاريخية للعمل الوطني هو فعل يصب في خدمة العدو المشكك والمشوه لتاريخنا النضالي ،ومحاولة التشويش على إحياء ذكرى الراحل أبو عمار هو تشكيك بالتاريخ النضالي للشعب ونكران للجميل ، لأنه لولا أبو عمار والثورة التي فجرها والصمود الذي أبداه في مواجه العدو ما كانت حركة حماس وكل القوى السياسية الفلسطينية موجودة اليوم كمكون أساسي في النظام السياسي الفلسطيني.
قبل انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة علي يد الرئيس أبو عمار وحركة فتح كان العالم يتعامل مع الشعب الفلسطيني كجموع لاجئين تتسول على أبواب وكالة غوث اللاجئين ،وكان المسيسون من الشعب يهدرون جهدهم في الأحزاب والحركات القومية والأممية أو يبحثون عن فلسطين من خلال المراهنة على هذه الأحزاب والأنظمة العربية،وآنذاك كان الإسلاميون الفلسطينيون يحلقون في عوالم ليس لها علاقة لا بفلسطين ولا بالمقاومة المسلحة . الرئيس أبو عمار وأبناء حركة فتح وفصائل منظمة التحرير أعادوا توجيه البوصلة وتصحيحها ووضعوا القضية بيد الشعب وقادوا المواجهة المسلحة مع العدو ، بالرغم من رفض وتشكيك بعض القوى السياسية بالمقاومة وبالوطنية الفلسطينية ، واستطاع أبو عمار وحركة فتح من جعل فلسطين الرقم الصعب ، وثبَّت الوجود السياسي للقضية الفلسطينية على مستوى العالم ،هذا العالم الذي اعترف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني واعترف بالحقوق السياسية المشروعة له بما فيها حقه بدولة مستقلة وحق عودة اللاجئين.
ما كان العالم يعترف بمنظمة التحرير وبصفتها التمثيلية ، وهي المنظمة التي تسعى حركة حماس والجهاد الانضواء فيها اليوم ، إلا بفضل السياسة الحكيمة والوطنية للرئيس أبو عمار ولديمقراطية حركة فتح . حكمة أبو عمار وبُعد نظره جعلتاه يلمس مبكرا أهمية استقلالية القرار الوطني فحرر القضية الوطنية من وصاية الأنظمة والأحزاب والمحاور الخارجية التي تاجرت بالقضية الوطنية طويلا . هذه الاستقلالية هي التي فرضت الحضور السياسي الفلسطيني في كل القارات وكل الدول بغض النظر عن إيديولوجية أنظمتها،حكمة مكنت الرئيس من إدراك أهمية المزاوجة بين العمل السياسي والعمل العسكري في إطار إستراتيجية عمل وطني واحدة.
ديمقراطية أبو عمار وحركة فتح هي التي جعلت منظمة التحرير إطارا وحدويا للجميع حتى الذين يخالفون حركة فتح الرأي ، لقد كان أبو عمار مسلما أصيلا وقوميا أصيلا وامميا أصيلا وكانت وطنيته هي خلاصة جمع هذه الأصالة وهي الحالة التي كانت وما زالت تمثلها حركة فتح بالرغم مما اصابها لاحقا من وهن وضعف . حتى بعد توقيع اتفاقات أوسلو وقيام السلطة الوطنية فقد شكل أبو عمار وحركة فتح المظلة الحامية لكل القوى السياسية والمجاهدة بل دفع حياته ثمنا لحمايتها وسكوته عن هذه القوى وعلى رأسها تلك التي تحاول اليوم التشويش على تخليد ذكراه .
حاصرت إسرائيل أبو عمار ثم قتلته بالسم لأنه رفض الاستسلام السياسي ورفض تصفية الجماعات المسلحة وخصوصا حركتي حماس والجهاد الإسلامي كما كانت تطالب إسرائيل وأمريكا ،فضَّل أبو عمار أن يموت شهيدا على أن يصفي المقاومة ،وها هم بعض مكونات هذه الجماعات يكافئونه ويكافئون حركته بأسوأ أشكال نكران الجميل.
في هذا السياق تأخذ ذكرى استشهاد الزعيم القائد ياسر عرفات – أبو عمار – أهميتها ، فهي ليست بالحدث العادى بل أصبحت مناسبة وطنية تتفوق على غيرها من المناسبات الوطنية ، مناسبة يتجند ويستعد لها ليس فقط أبناء حركة فتح ، بل كل الوطنيون الفلسطينيون ، ربما لكونه المؤسِس للحركة الوطنية ، أو لطريقة صموده محاصَرا في المقاطعة في رام الله ثم استشهاده .
لا شك أنه لا يمكن أن نقيس قوة تنظيم حركة فتح بعدد المهرجانات ولا بعدد المشاركين في مناسبة إحياء ذكرى أبو عمار ، لأن أبو عمار لم يكن قائدا لفتح فقط بل زعيما وطنيا وعربيا وأمميا ، ولكن قوة الحضور والاهتمام والحشد في ذكرى استشهاد أبو عمار يعبر عن قوة حضور الوطنية الفلسطينية في مواجهة إسرائيل التي تحاربها بكل الوسائل وتعتقد أنها اجهضت على الوطنية الفلسطينية عندما اغتالت أبو عمار ، وفي مواجهة التيارات والأيديولوجيات الاخرى التي ناصبت أبو عمار العداء اثناء حياته ، واستمرت في مناصبتها العداء من خلال صدامها مع الوطنية الفلسطينية ، وحاولت ان تُلحِق المشروع الوطني بمشاريع وأجندة خارجية .
إن كانت بعض الأطراف تخشى أن يؤدي خروج الجماهير للاحتفال بذكرى رحيل القائد أبو عمار لحالة يصعب السيطرة عليها ، فالأولى أن يسأل هؤلاء أنفسهم لماذا خرج أكثر من نصف مليون في قطاع غزة فقط لإحياء هذه الذكرى قبل سنوات ؟ ولماذا كان من المتوقع خروج أكثر من هذا العدد هذا العام ؟ . يفترض بكل من يناصب العداء للوطنية الفلسطينية أن يعيدوا حساباتهم ويستفيدوا مما يجري في العالم العربي من حولنا.