ما عدت أدخن – قصة صغيرة: رشاد أبوشاور
مشيت بجوار العمّة مليحة التي حملت كيس طحين صغير أبيض، واتجهنا إلى دكّان الأطرش، وعندما وصلنا، لوّحت له العمة فانتبه وابتسم، وحرّك يده مرحبا، ثم أشار إلى كيس الطحين(الخريطة)، وبرم يده كأنه يسأل:
-بدنا بكتين دخّان …
تناول الخريطة ووزنها، ثم ناول العمة مليحة علبتي دخان سيّد فلتر كالذين نشتريهما منه كل أسبوع عندما نتوجه لزيارة أبي في سجن المقاطعة، ثم ناولها خمسة قروش بيضاء لونها فضّي، فقلبتها بين أصابعها، وسألته وهي تبتسم:
-بس؟!
فهّز رأسه:
-سلموا عليه، بدوش ربنا يهديه ويبطّل سياسة؟
الأطرش أطرش عن جد، وهو دائما يلبس دشداشا أبيض طويلاً يقصر عن بلوغ كعبيه، وهو يحكي بصوت منخفض يوضحه بحركات يديه ورأسه وبدنه، ويتحزّم بحزام جلدي عريض سميك، ويسحب قميصه الأبيض المغطى بطبقة من الغبار دائما.
قالت العمة:
-يلاّ نسرع، خلينا نوصل قبل ما يروح وقت الزيارة.
وأسرعنا إلى الباص في موقفه قرب المخفر، فرأيناه، فأسرعنا صوبه، وعندما اقتربنا كان هديره يرتفع، فركضنا حتى لا يروح ويتركنا…
-وقّف…
صاحت العمة مليحة.
صعدت وتبعتها، وردّت السلام على السائق والركّاب، وجلسنا وحدنا على مقعد في آخر الباص.
اندفع الباص إلى أريحا، والسائق برم طاقيته على رأسه.
عبر الباص الجسر، والتف صاعدا، ثم حاذى مدخل مخيم عين السلطان، وهدّأ من سرعته، والسائق يحني جسده وينظر يمينه علّه يجد ركابا، وعندما صار في آخر مخيم عين السلطان أسرع ودخل في الشارع الطويل المحاط بالبيارات، وخفف السرعة في مدخل أريحا، واستدار حول الساحة، ثم أوقف الباص وبرم جسده ونهض.
غادر الركاب الباص، وأنا تبعت العمة، ثم أسرعنا باتجاه المقاطعة. عبرنا الجسر الذي يمّر من فوق سيل جاف، تتدفق مياهه في الشتاء، ويبدو وجهه مغطى بحجارة لامعة.
وصلنا مدخل سجن المقاطعة، فأشار لنا شرطي الحراسة أن ندخل. وقفنا في ظل شجرة كبيرة اعتدنا الوقوف تحتها كلما حضرنا للزيارة، وتعرفنا تحتها بأقارب السجناء.
جاء شرطي بدين فأشار لنا بأن نتبعه فتبعناه، وعبرنا في ممر، ثم انعطفنا، ودخلنا في باحة غير مسقوفه اعتدنا الانتظار فيها.
أطل والدي من الممر، وابتسم لنا. كان يرتدي قمبازه الأبيض، وعلى رأسه حطته وعقاله، وهو بدون عباءته.
احتضنني وهو ينحني، ومرجحني بين يديه وهو يبوس رأسي، ويردد اسمي. ثم سلّم على امرأة عمي، وأخذ يسألها عن جدتي فاطمة، وعن عمي عبد الرحمن، وعن أبناء عمي. قرفصت لصقه، كما هي العادة لأتيح له أن يدس يده في جيب الجاكتة الواسعة التي اعتدت أن ألبسها أثناء الزيارة لأخفي في جيبها علبتي سجائر، وأقرفص والتصق بأبي فيدس يده ويستل العلبتين و.. يدسهما في عبّه في غفلة من الشرطي الذي كان ينقّل نظره على رؤوس الزوّار الملتصقين بأقاربهم.
مال أبي على أذني وسألني:
-كيف اشتريتم الدخان؟
-باعت عمتي مليحة الطحين…
دقّتني العمة في ركبتي:
-طحين مش محتاجينه.. يزيد عن حاجتنا يا ابن العم…
-رجعوا علبتي السكائر..و..استرجعوا الطحين. مش معقول تجوعوا منشان أنا أدخن…
ناولته العمة صرّة فيها(مطبّق)، ونهضنا عندما ارتفع صوت الشرطي: انتهت الزيارة يا جماعة، تتسببوش لي بالبهدلة..أنا زدتكم خمس دقائق..يلاّ.
احتضنني أبي من جديد، وهمس في أذني: دير بالك على جدتك فاطمة. قل لها أبي سيُفرج عنه قريبا…
استدار أبي ومضى ونحن نتابعه، ثم برم جسده ولوّح لنا وهو يبتسم.
غادرنا، وحين صرنا خارج أبواب السجن سألتني عمتي مليحة:
-ليش قلت بأننا بعنا الطحين…
ظللت ساكتا، والعمة تنهدت عدّة مرات: يفكر فينا وهو في السجن..يا حسرتي علينا وعلى حالنا!
وصلنا الساحة، واتجهنا إلى الباص الذي كان يرتج ويصدر صوتا يشي بأنه يوشك على الانطلاق.
عندما جلسنا في المقعد ربتت العمة على ركبتي:
-لاتزعّل حالك. أحسن لوالدك ترك الدخان..منشان صحته.
لم أقل شيئا، وأخذت في تأمل البيوت على طرفي الطريق، والأشجار والأولاد الذين يلعبون تحتها. سالت دموعي فأدرت وجهي حتى لا تنتبه العمة أنني أبكي،ومع اهتزاز أغمضت عيني الدامعتين وتخيلت أنني ألعب مع الأولاد تحت الأشجار…
ما عدت أدخن
قصة صغيرة: رشاد أبوشاور