ما هذه المحاكمة في الرياض؟ – منير شفيق
مَثَل 68 فلسطينياً وأردنياً وكفلاؤهم السعوديون أمام محكمة سعودية في الرياض، في 8 آذار/ مارس 2020، وذلك بتهمة الانتماء إلى “كيان إرهابي” وتمويله، والمقصود حركة حماس. ويقف على رأس المقدمين إلى المحكمة الطبيب الثمانيني الأستاذ محمد الخضري، ممثل حماس في السعودية لعشرات السنين، وهو عضو الأمانة العامة للمؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، منذ تأسيسه قبل ثلاث سنوات.
إن لهذه المحاكمة توقيتاً وشكلاً ومحتوى ومغزى من عدة أبعاد، وكل هذه الأبعاد لا علاقة لها بتهمة “الإرهاب” أو “الكيان الإرهابي”. فالتوقيت يأتي في ظل مشروع ترامب الإجرامي والمسمى بـ”صفقة القرن” وهي التي تمثل جريمة العصر. ويكفي لدولة السعودية، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، أن تضع نفسها من خلال هذه المحاكمة في خدمة هذه الصفقة، عملياً، في حين لم تجرؤ في اجتماع مجلس الجامعة العربية أن تعارض، أو تنكفئ، عن قرار رفض “صفقة القرن”.
فأية وصمة عار ترسمها هذه المحاكمة على جبين الحكومة السعودية في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده محمد بن سلمان، حين تعقد هذه المحاكمة في ظل مشروع ترامب الذي كانت بدايته الإعلان بأن القدس كلها، بما فيها المسجد الأقصى، عاصمة لدولة الكيان الصهيوني. ثم أتبعه، في إعلان محتوى الصفقة- الجريمة، بشرعنة للاستيطان والمستوطنات في القدس، وفي كل أراضي الضفة الغربية. وأما ما تبقى خارج الاستيطان، اعتبره خاضعاً في مصيره للمفاوضات الثنائية المباشرة، وهو تحت الاحتلال، وكذلك مصير قطاع غزة بعد تجريدها من السلاح. وأضف إلى ذلك تأييده وتكريسه لقانون القومية الصادر عن الكنيست، والذي يأخذ بالسردية الصهيونية حول يهودية فلسطين، مسقطاً آية الإسراء: والأرض المباركة، وكل حقائق التاريخ القديم والحديث الذي ينسف تلك السردية من أساسها ومن حيث أتى.
ولهذا عندما تكون الحرب التي أعلنها دونالد ترامب على الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، وعلى الحقوق العربية والإسلامية في فلسطين، مستعرة، وتأتي السلطات السعودية بهذه المحاكمة التي تتهم 68 فلسطينياً وأردنياً وسعودياً بتقديم الدعم المالي لمقاومة شعب فلسطين وصموده، وتعتبره دعماً لكيان “إرهابي”، فإن تلك السلطات ترتكب جريمة، وتقترف إثماً وعاراً ليس بحق الفلسطينيين والعرب والمسلمين وأحرار العالم فحسب، وإنما بحق السعودية نفسها، والتي كانت في كل عهودها حريصة ألاّ ترتكب مثل هذه الجريمة، ومثل هذا الإثم والعار.
هذا من ناحية التوقيت، أي فيما الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم، بل كل دول العالم عدا أمريكا دونالد ترامب يخوضون صراعاً، أو يقفون ضد جريمة العصر المسماة “صفقة القرن”. فإلى أين يذهب محمد بن سلمان بالسعودية؟
أما في الأبعاد الأخرى بعد التوقيت والسياسة، فثمة البعد المبدئي من القضية الفلسطينية الذي وصل تدهوره في السابق إلى حد “مبادرة السلام” التي تقدمت بها السعودية لقمة بيروت 2002، وهبطت بالسقف العربي إلى ما هبطت إليه من تنازل مجاني للكيان الصهيوني، وذلك بإعلان الاستعداد للاعتراف به إذا انسحب من الأراضي التي احتلت في العام 1967، وأقيمت “دولة فلسطينية وعاصمتها القدس”.
فحتى هذا التنازل المبدئي الذي هبط بالسقف العربي، أثبت بالتجربة، ومرة أخرى، أن لا جدوى من تقديم التنازلات مع عدوٍ يأخذ ولا يُعطي، ويريد اقتلاع كل الفلسطينيين، وتهويد كل فلسطين، وجعلها كلها “وطناً قومياً” خالصاً لليهود فقط. فهل يُراد من هذه المحاكمة تقديم رسالة مبطنة (ولكن واضحة) بأن السعودية في عهد محمد بن سلمان، ذاهبة إلى ما يريده الصهاينة، من اقتلاع واحتلال وتهويد بالكامل.
طبعاً هذه المحاكمة وحدها ما كانت لتكفي للوصول إلى ذلك التساؤل، حول الاقتلاع الكامل والإحلال الكامل والتهويد الكامل، لولا ما سبقها من تصريحات لنتنياهو حول ما وصلته العلاقات “الإسرائيلية- السعودية”، وهو ما لم يُقابَل بنفي.
وأخيراً وليس آخراً، ثمة بُعد تحمله هذه القضية، وهو يمسّ البُعد الأخلاقي، ممتداً إلى نكران علاقات صداقة وتعاون دامت لعشرات السنين، لتنقلب إلى غدر لا مثيل له، وهو السجن والتعذيب والتجني بالاتهام، وما يُتوقع من أحكام.
فكيف لعلاقات صداقة سياسية وإنسانية تمتد على مدى عقود وعهود، مع الدكتور محمد الخضري في السعودية، ولم تشبها شائبة، ليأتي عهد يتنكر لها، ويقلب لها ظهر المجن، ويغدر بها، لا لأمر له علاقة بالمعنيين، وإنما لسياسة انقلبت على كل ما قبلها، وعلى كل ما تعهدت به في علاقاتها العربية والإسلامية والدولية؟ فهنا كان عليها، في الأقل، لما تقتضيه الحدود الدنيا للمروءة أن ترحلهم من السعودية بإحسان، بدلاً من أن تأخذهم إلى سجن، وتحاكمهم بتهمة تتناقض مع ما قام من علاقات رسمية لا يجوز الغدر بها. وهو ما لا يقرّ به شرع، ولا قانون دولي، ولا شيم عربية