ما وراء إثارة مسألة خلافة الرئيس أبو مازن
د / إبراهيم ابراش
كَثُر الحديث في الأيام الأخيرة في وسائل الإعلام العربية والأجنبية عن خلافة الرئيس أبو مازن وضرورة تغييره ، ومع أن الموضوع تم طرقه منذ سنوات وكتبنا وكتب كثيرون حوله مرارا ، إلا أن الأمر أصبح يأخذ منحى خطيرا ومستفزا بحيث وصلت الوقاحة السياسية بمن يخططون للموضوع أو يكتبون عنه أنهم يرشحون شخصيات فلسطينية بعينها لخلافة الرئيس بعد غيابه أو تغييبه ، وكأن الشعب الفلسطيني مجرد قطيع سائب ليس له مؤسسات مسئولة عن كيفية تعيين الرئيس أو ملء فراغ غيابه ، وليس له رأي ليبديه في الموضع .
نعلم أن للخارج دورا مهما في صناعة القيادات والنخب السياسية وفي تغيير انظمة الحكم في كثير من بلدان العالم العربي ، وما نشهده من فوضى الربيع العربي وكيف سقطت أنظمة ونخب وتصعد أخرى يؤكد ذلك ، كما رأينا كيف أن نموذج الرئيس (الكرازاي) لم يجلب لتلك البلدان إلا الخراب والدمار .
الشعب الفلسطيني كان دوما عُرضة للتدخلات والضغوط الخارجية ، ويعرف بأن خصوصية القضية والجغرافيا تدفع دول الجوار والقوى العظمى وحتى إسرائيل لتحاول التأثير على عملية صناعة القرار الوطني والتأثير على آليات انتخاب أو تعيين القيادة السياسية ، وخصوصا في ظل سلطة حكم ذاتي دون سيادة . والكل يعلم كيف ناضل الرئيس الراحل أبو عمار حتى النهاية حفاظا على استقلالية القرار الوطني ، ولا نعتقد أن الحالة الفلسطينية وصلت اليوم لدرجة من السوء بما يُمَكن الخارج أن يفرض على الشعب قيادة لا يقبلها وليس له رأي في تسيدها عليه .
لا شك أن كثيرا من الملاحظات بل والانتقادات يمكن توجيهها لسياسة الرئيس أبو مازن الداخلية والخارجية ، ومن حق الجميع ممارسة النقد والمطالبة باستنهاض الحالة الوطنية وتغيير الوجوه والسياسات ، كما أن الوضع الداخلي وصل لدرجة من الاستعصاء والشلل سواء بالنسبة لعملية التسوية السياسية أو عملية المصالحة أو استنهاض منظمة التحرير وحركة فتح ومجمل الحالة الوطنية ، كما أن موقع الرئاسة يُحمِل الرئيس القدر الأكبر من المسؤولية المباشرة أو غير المباشرة عن هذه الحالة ، إلا أنه ليس من حق أحد أن يشكك في شرعية رئيس جاء عن طريق الانتخابات و يطالب دوما بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مؤكدا حتى الآن أنه لن يرشح نفسه للانتخابات ، كما أن الأمور لم تصل لدرجة من السوء حتى يتم صناعة قيادات من الخارج لتُفرض على الشعب .
الخطير والمُقلق في الأمر أن الحديث أو التسريبات حول خلافة الرئيس – إن كانت صحيحة – تأتي من إسرائيل وصحفيين ومراكز أبحاث أجنبية ، و يتم إدراج أسماء دول عربية ، تُسرِب نفس المصادر أخبارا عن توتر علاقاتها مع الرئيس ، مثل مصر والإمارات العربية والعربية السعودية والأردن وقطر . كما أن الحديث عن خلافة الرئيس أبو مازن وسوء أوضاع السلطة يأتي في وقت تتزايد فيه الجهود والمبادرات الدولية لتحريك ملف التسوية ، وهو الأمر الذي يتطلب وجود عنوان وطني فلسطيني واضح ومتفق عليه حتى لا تتذرع إسرائيل بالقول بأنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام أو مَن يمثل الشعب الفلسطيني للتفاوض معه .
وكأن التاريخ يُعيد نفسه ، فما يجري اليوم يذكرنا بأواخر عهد الراحل أبو عمار عندما ارتفعت أصوات خارجية وداخلية تطالب بإصلاح السلطة وتندد بعجزها وفسادها ، في وقت كانت إسرائيل تحاصر أبو عمار في المقاطعة وتطالب ومعها واشنطن بضرورة تغييره متهمين إياه بالوقوف عقبة أمام السلام وبتحريضه على العنف والإرهاب ، وتمت تصفية الرئيس أبو عمار ولم تتغير السلطة و النظام السياسي إلا نحو الأسوأ .
لا نريد أن نضع في سلة واحدة كل الدول والأطراف المشاركة في طبخة البحث عن خليفة للرئيس ، فإن كانت إسرائيل وبعض الدول ينطلقون من دوافع معادية للشعب الفلسطيني ويريدون توظيف قضية خلافة الرئيس لإحداث تغيرات في النظام السياسي الفلسطيني وجلب قيادة جديدة تقبل بما تريده إسرائيل وبالمخططات التي تحاك لتحريك عملية التسوية ، إلا أن بعض الدول العربية توظف مسالة خلافة الرئيس كورقة ضغط على الرئيس ليعمل شيئا لإنهاء الخلافات الفلسطينية الداخلية واستنهاض الحالة الفلسطينية لمواجهة تحديات المرحلة ، وهذه الدول ترى أن استمرار الوضع الفلسطيني على حاله يضر بمصالحها القومية أيضا .
إن التركيز على خلافة الرئيس دون الاهتمام بالنظام السياسي وبالأسباب الموضوعية لتعثره وفشله ، يُظهِر أن المشكلة فلسطينية خالصة وليس في إسرائيل وسياساتها والخارج وتواطئه . كما أنه كما ذكرنا لا يبدو أن كل الأطراف والدولة التي تتحدث عن خلافة الرئيس وضرورة تبديله تقوم بذلك حرصا على المصلحة الوطنية الفلسطينية ، فأكثرها مدفوعة بحسابات خاصة بمصالحها الوطنية وبمخططات يتم الإعداد لها لترتيب أوضاع المنطقة على حساب طرفي المعادلة الفلسطينية : مشروع السلام الذي تتمسك به حركة فتح ومشروع المقاومة المسلحة الذي ترفع رايته فصائل المقاومة في قطاع غزة ، وهو ما حذر منه السيد خالد مشعل تعقيبا على هذه التسريبات .
نعم هناك مشكلة في مؤسسة الرئاسة أو القيادة ، ولكن مجرد تغيير الرئيس أبو مازن بمعزل عن القضايا الأخرى لن يحل المشاكل المستعصية ، وتغيير بهذه الطريقة التآمرية لن يزيد الامور إلا سوءا . لأن المشكلة في المنظومة السياسية الفلسطينية ككل وفي عملية التسوية وأطرافها المتعددة ،والمخططون لخلافة الرئيس والمتصارعون والمتنطعون للرئاسة جزء من هذا الخلل ، لأن مؤسسة الرئاسة أو القيادة ليست الرئيس فقط بل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح والحكومة الفلسطينية .
وعليه ليس صحيحا أن كل ما يجري من تراجع وخراب وفساد يتحمل الرئيس أبو مازن لوحده المسؤولية عنه ، بل إن المتنطعين لخلافة الرئيس والذين ُيحمِلونه المسؤولية عن كل شيء حتى يبيضوا صفحتهم ويتقدموا الصفوف لخلافته، مسئولون أيضا لأنهم في مواقع قيادية متميزة ، سواء في اللجنة المركزية لحركة فتح أو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أو في السلطة الوطنية .
وهذا يطرح تساؤلات مشروعة عن دور أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح مما جرى ويجري طوال السنوات الماضية ، ولماذا صمتهم على تجاوزات وأخطاء شخص حتى وإن كان الرئيس ؟ . وهل لهذا الصمت من تفسير إلا أنهم عاجزون وفاشلون أو متواطئون ، اشترى الرئيس صمتهم بالمال والمصالح ، وفي الحالتين فهم غير أمناء على المصلحة الوطنية وغير مؤهلين لا للاستمرار في مواقعهم ، ولا لخلافة اي منهم للرئيس .
لا نريد التشكيك بأحد ممن ترد اسماءهم في التقارير الاجنبية والإسرائيلية كخلفاء للرئيس ، أمثال محمد دحلان واحمد قريع – أبو علاء – وناصر القدوة والرجوب وماجد فرج ، وخصوصا أنه لم يصدر من هؤلاء ما يفيد موافقتهم على ما يرد بهذه التقارير ، إلا أن ورود اسمائهم يسيء إليهم راهنا ، ولا يخدمهم مستقبلا في حالة تقدم أي منهم لطلب الرئاسة ، فهذه التقارير تُظهرهم وكأنهم خيار أو مرشحوا الخارج وإسرائيل وليس خيار الشعب .
نفس الأمر ينطبق على مروان البرغوثي ، فهو ولا شك شخصية وطنية محترمة ومحل إجماع ، ولكن تكرار الحديث عن ترشيحه للرئاسة يجعل الأمر يبدو وكأن الشعب الفلسطيني عقيم ولا يوجد فيه مَن يصلُح للرئاسة إلا شخصا معتقلا ومحكوما بعدة مؤبدات ! وإذا ما قررت اسرائيل اطلاق سراح البرغوثي تحديدا ليصبح رئيسا فإن ذلك سيثير شكوكا حول البرغوثي نفسه ، وإذا خرج البرغوثي فهل ببساطة يصبح رئيسا يتولى كل المناصب التي يتقلدها الرئيس أبو مازن ؟.
والمثير للانتباه أن وسائل الإعلام والتقارير الفلسطينية والعربية والدولية عندما تتحدث عن خلافة الرئيس أبو مازن فإنها تحصر المرشحين للرئاسة بنفس الشخصيات المقربة من الرئيس أو من رجال السلطة . هذا الأمر يطرح تساؤلات إن كانت هذه المصادر بريئة في ترويج هذه الأسماء التي كانت وما زالت جزءا من النظام السياسي والسلطة ومن نهج أوسلو ، وهم مسئولون كالرئيس عن وصول الحالة الفلسطينية إلى ما هي عليه من تأزم.
إن حصر مرشحى الرئاسة بهذه الأسماء معناه إعادة انتاج الفشل ومزيد من التمزق والصراع الداخلي ، لأن كل واحد من هؤلاء يعتبر نفسه زعيما أوحدا ، كما أن حصر المرشحين بهؤلاء يعني أن الخلل كان في شخص الرئيس أبو مازن وليس في النظام السياسي الذي يشكل هؤلاء المرشحون للرئاسة أهم أركانه .
وأخيرا ، فإن كنا نرفض أن تتدخل أطراف خارجية في شؤوننا الداخلية وخصوصا ذات الطابع السيادي كاختيار الرئيس ، إلا أن الحالة الفلسطينية تستدعي من الرئيس سرعة التحرك لحل استعصاءات النظام السياسي وتفكيك إشكالات الرئاسة . ويستطيع الرئيس أخذ المبادرة من خلال تعيين نائب للرئيس والفصل بين الرئاسات – رئاسة الدولة ورئاسة منظمة التحرير ورئاسة السلطة ورئاسة حركة فتح – وعدم تركيزها جميعا بيده . كما يستطيع الرئيس اتخاذ خطوات من شانها استنهاض حركة فتح من كبوتها ومنظمة التحرير من شللها ، وخصوصا أنه تم قطع خطوات مهمة فيما يتعلق بإعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير وبانعقاد المؤتمر السابع لحركة فتح ، كما يمكن للرئيس البحث عن مداخل مختلفة للمصالحة الوطنية.
الرئيس القادم إن لم يكن نتيجة توافق ومصالحات داخلية ، فلن يكون رئيسا لكل الشعب الفلسطيني . سيكون رئيسا لدولة غزة أو رئيسا شكليا لسلطة متآكلة ودولة وهمية ، وظيفته تمرير ما تريده إسرائيل والتحالف الجديد الذي يتشكل في المنطقة .