ما وراء التصعيد الأخير بين صربيا وكوسوفو والجبل الأسود – محمد منصور
العلاقة بين جمهورية صربيا وجمهورية الجبل الأسود، التي استقلت عن صربيا بشكل رسمي في العام 2006، اكتنفتها دوماً صراعات مكتومة.
ربما لم تكن مفاجِئَة حالة التوتر التي عاشتها الحدود بين إقليم كوسوفو وجمهورية صربيا أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، بالنظر إلى الماضي الدموي الذي شهدته تلك المنطقة بشكل خاص، والعلاقة بين صربيا والجمهوريات المنبثقة من الاتحاد اليوغسلافي خلال تسعينيات القرن الماضي، لكن كان لافتاً ارتباط هذا التصعيد بصراع أكبر تدور رحاه بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية.
هذا الصراع قد يجعل المشهد الحالي في البلقان مرشحاً لأن يشهد تجدداً للمعارك القديمة، إذ بات تجديد الصراعات العرقية والمناطقية في المناطق الشرقية لأوروبا جزءاً أصيلاً من المواجهة المتصاعدة بين حلف الناتو وروسيا الاتحادية. ولعل الحرب الأخيرة في إقليم ناغورنو كاراباخ، وكذا المشهد الميداني المتصاعد في الشرق الأوكراني، ومن قبله استعادة موسكو لشبه جزيرة القرم، دلائل كافية ووافية لتوضيح أحد أهم التكتيكات المتبعة من جانب كلا الطرفين في الجولة الحالية من المواجهة بينهما.
تصاعد النزعة القومية مرة أخرى في صربيا
في منتصف أيلول/سبتمبر الماضي، قام الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، وزعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك، وبطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الصربية بورفيريج، بتدشين تمثال في العاصمة الصربية بلغراد لأحد رهبان القرون الوسطى، والذي حكم الأراضي الصربية خلال القرن العاشر الميلادي، وهو ستيفان نيمانيا، الذي يحظى برمزية تاريخية مهمة في الذهنية الصربية. خلال هذا التدشين، تم إعلان عطلة وطنية جديدة في جمهورية صربيا، تحت اسم “يوم الوحدة والحرية والعلم الوطني”.
حملت الخطابات التي أُلقيت في حفل التدشين ملامح واضحة للرؤية الرسمية الصربية للوضع الحالي في منطقة البلقان، إذ تغلب على هذه الرؤية نظرة حزينة وغاضبة لتفكك الاتحاد اليوغسلافي، تعتبر أن تفكيك هذا الاتحاد كان بمثابة ظلم للقومية الصربية بشكل عام، وانتصار غير مستحق للألبان والبوسنيين. هذه النظرة انعكست أيضاً على المواقف الصربية من المحاكمات التي تمت لقادة الجيش السابقين المتهمين بجرائم حرب في كوسوفو.
بداية التوتر المستجد مع جمهورية الجبل الأسود
المفارقة هنا أنّ التوتّر تصاعد بشكل مفاجئ بين صربيا من جهة، وجمهورية الجبل الأسود وإقليم كوسوفو من جهة أخرى، خلال شهر أيلول/سبتمبر. العلاقة بين جمهورية صربيا وجمهورية الجبل الأسود، التي استقلت عن صربيا بشكل رسمي في العام 2006، اكتنفتها دوماً صراعات مكتومة، اختلطت فيها الاعتبارات العرقية والدينية، فقد تصادم المتظاهرون في الجبل الأسود في أوائل الشهر مع الشرطة في مدينة “سيتيني”، بسبب تنصيب الكنيسة الأرثوذوكسية الصربية للمطران جانيكجي الثاني على رأس الكنيسة الأرثوذكسية في جمهورية الجبل الأسود، والتي ما زالت تتبع عملياً الكنيسة الصربية رغم استقلال الجمهورية. وبالتالي، أعاد تعيين المطران الجديد فتح هذا الملف، الذي يعتبره سكان جمهورية الجبل الأسود وسيلة من وسائل ممارسة بلغراد تأثيرها في الجمهورية، وخصوصاً أنّ عملية تنصيب المطران كانت بالتوافق بشكل كامل مع سلطات جمهورية الجبل الأسود.
على الرغم من اعتراف صربيا باستقلال جمهورية الجبل الأسود، التي تحظى بعضوية حلف الناتو، لا يزال البلدان يتشاركان العديد من الخلافات، وخصوصاً في ما يتعلق باعتراف جمهورية الجبل الأسود باستقلال كوسوفو، وكذا الخلاف حول اسم اللغة المستخدمة في أراضي الجبل الأسود، بالنظر إلى أن المكون الصربي داخل الجمهورية يصل إلى ثلث السكان، وهو ما يخلق توترات مستمرة في النسيج الداخلي لهذه الجمهورية.
التوتر الأخير في الجبل الأسود ألقى الضوء على الخلافات العميقة والمتجذرة بين صربيا ومعظم جمهوريات يوغسلافيا السابقة، ما حدا بالعديد من الدول الموجودة في شبه جزيرة البلقان، مثل ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية والبوسنة والهرسك وكرواتيا، إلى توجيه نداءات إلى المفوضية الأوروبية وحلف الناتو للتدخل من أجل تهدئة التوتر الذي تصاعد بين صربيا والجبل الأسود مؤخراً.
ملف كوسوفو يعود إلى الواجهة مرة أخرى
لم يكد التوتر في الجبل الأسود يهدأ، حتى اشتعل التوتر في جزء آخر من أجزاء يوغسلافيا السابقة، ألا وهو إقليم كوسوفو، الذي فقدت صربيا السيطرة عليه في العام 1999، بعد تدخّل جويّ عنيف من جانب حلف الناتو.
ومنذ إعلان كوسوفو استقلالها في العام 2008، ظلّ التوتر بينها وبين بلغراد مكتوماً، وخصوصاً في العام 2011، حين دخلت شرطة كوسوفو إلى 4 قرى أغلبية سكّانها من الصرب، بهدف السيطرة على المعابر الحدودية بين كوسوفو وصربيا، ونتجت من هذا التدخل اشتباكات عديدة، وبدأت صربيا منذ ذلك التوقيت بالترويج لفكرة إمكانية انضمام الجزء الشمالي من كوسوفو إليها. حاول الاتحاد الأوروبي منذ العام 2013 حل الخلافات العالقة بين الجانبين عبر سلسلة من جولات التفاوض، لكن لم تسفر هذه المحاولات عن أي تقدم.
من محطّات التوتر المهمّة في العلاقة بين الجانبين، تصديق البرلمان في كوسوفو في كانون الأول/ديسمبر 2018 على تأسيس وزارة للدفاع، وتحويل الوحدات المسلحة التابعة للإقليم، والمسماة “قوة أمن كوسوفو”، إلى جيش قوامه 5 آلاف جندي.
تمت هذه الخطوة رغم مقاطعة النواب الصرب في البرلمان للتصويت على هذا القرار الذي عارضته بلغراد بشدة، واتّهم حينها الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بريشتينا بـ”قرع طبول الحرب”، وتهديد الصرب المتواجدين في أراضي كوسوفو، علماً أنَّ خطوة برلمان كوسوفو هذه سبقها فرض رسوم تجارية على السلع الصربية الواردة إلى الإقليم، رداً على عرقلة بلغراد انضمام كوسوفو إلى منظمة الشرطة الجنائية الدولية “الإنتربول”.
التوتر الأخير الذي شاب العلاقة بين الجانبين كان أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، بعد أن طبّقت كوسوفو بالمثل إجراء كانت صربيا قد بدأت باتخاذه منذ العام 2010، إذ قامت بلغراد منذ ذلك الحين بمنع دخول السيارات التي تحمل لوحات تسجيل تابعة لكوسوفو، إلا بعد أن تقوم باستبدال لوحاتها بلوحات مؤقتة لا تحمل إشارة إلى كوسوفو.
قامت كوسوفو خلال الأسابيع الماضية بمعاملة السيارات الصربية بالمثل، إلى جانب فرض رسوم قدرها 5 يورو على كل سيارة قادمة من الأراضي الصربية، وتلا ذلك مداهمة وحدات الشرطة الخاصة التابعة لكوسوفو عدة مناطق شمالي الإقليم، ضمن عملية لمكافحة التهريب، لكن تسبّبت هذه المداهمات باندلاع احتجاجات من جانب صرب كوسوفو، نظراً إلى أن هذه المداهمات تمت في مناطقهم، وخصوصاً بلدة “ميتروفيتشا”.
عقب هذه المداهمات، قطع المئات من صرب كوسوفو الطرق المؤدية إلى معبري “يارينيي” و”برنياك” المؤديين إلى صربيا، وقام الجيش الصربي برفع حالة التأهّب في صفوف وحداته، وحشد مئات الجنود والمعدات الحربية في قاعدتين قرب الحدود مع كوسوفو، ونفذت مقاتلات ومروحيات سلاح الجو الصربي طلعات قرب الخط الفاصل بين صربيا وكوسوفو، وذلك للمرة الأولى منذ العام 1999.
تمكَّن الاتحاد الأوروبي بعد نحو أسبوعين من هذا التصعيد من تهدئة التوتر بين الجانبين، والإشراف على اتفاق يقضي بانسحاب وحدات الشرطة الخاصة التابعة لكوسوفو من المعابر الحدودية مع صربيا، وفتح صرب كوسوفو لمناطقهم، ووضع ملصقات تخفي الرموز الوطنية على لوحات السيارات التي تدخل من وإلى كلا الجانبين.
دوافع داخلية وخارجية للتصعيد الصربي ضد كوسوفو
تعدَّدت الدوافع التي تبرر الاستنفار الصربي السريع ضد كوسوفو خلال الفترة الماضية، منها الدوافع الداخلية، فالانتخابات الرئاسية والبرلمانية في صربيا باتت قريبة، وهذا ربما يفسر لعب الرئيس الصربي على الوتر القومي خلال الأسابيع الأخيرة، وخصوصاً حين صرح قائلاً: “لن يتعرَّض صرب كوسوفو للقتل مرة أخرى”، وهو التصريح نفسه الذي أدلى به الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش في العام 1987، قبيل أيام قليلة من الهجوم على عاصمة كوسوفو “بريشتينا”.
العامل الخارجي في هذا الملفّ له التأثير الأكبر، فقد كان ملحوظاً خلال السنوات الماضية أن روسيا تحاول استخدام صربيا بالطريقة نفسها التي يستخدم فيها حلف الناتو بعض دول الاتحاد السوفياتي السابق، بحيث تكون بلغراد بمثابة خنجر روسي في خاصرة الاتحاد الأوروبي الذي كان يخطط لضمّ صربيا إليه.
لذا، لم يكن مستغرباً تصريح وزير الداخلية الصربي ألكسندر فولين منذ أيام حول التزام صربيا بما سماه “الحياد العسكري”، وعدم انضمامها إلى حلف الناتو أو تقديم الدعم لأية عقوبات ضد روسيا، وخصوصاً أن موسكو كانت على طول الخط مؤيدة لوجهة النظر الصربية في ما يتعلّق بملفّ كوسوفو.
تحاول موسكو في هذه المرحلة استغلال الجمود الذي طرأ في السنوات الأخيرة على مساعي الاتحاد الأوروبي للتوسّع في منطقة البلقان، لأسباب عدة، من أهمها خشية بعض كبار الدول الأوروبية من موجات هجرة كبيرة من دول البلقان في حال انضمامها إلى الاتحاد.
كذلك، تجد معظم دول البلقان صعوبة في الإيفاء بالإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة من أجل الموافقة على دخولها إلى الاتحاد. لهذا السبب، صعّدت روسيا منذ العام 2017 تعاونها الاقتصادي والعسكري مع بلغراد، وخصوصاً أنّ موسكو تعدّ المورد الأساسي للغاز الطبيعي إلى صربيا، بكميات تصل إلى 2 مليار متر مكعب، تصل إلى صربيا عبر خطّ أنابيب يمر بالمجر وأوكرانيا.
عسكرياً، تزايدت كميات الأسلحة الروسية المصدرة إلى صربيا بعد توقيع البلدين اتفاقية للتعاون العسكري والتقني في العام 2014، فتلقّت بلغراد في العام 2016 مروحيات النقل الروسية “مي-17”. وفي العام 2017، وقع الجانبان عقداً لتزويد سلاح الجو الصربي بستّ مقاتلات “ميج-29”. وفي العام التالي، تم توقيع عقد آخر لشراء مروحيات هجومية من نوع “مي-35″، ومُنح الجيش الصربي عدداً من ناقلات الجند المدرعة من نوع “بيردي أم-2”. أما العام الماضي، فتزود الدفاع الجوي الصربي بمنظومات “بانتسير” الروسية، وأعلن الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش في أيلول/سبتمبر الماضي أنَّ صربيا ستتلقّى الدفعة الأولى من صواريخ “كورنيت” المضادة للدبابات قريباً.
من هذا المنطلق، كان لتصاعد العلاقات العسكرية بين موسكو وبلغراد تأثير لافت في نهج الأخيرة تجاه الأولى، وهو ما تجلى في عدة مواقف لافتة، تنوعت ما بين قيام بلغراد في آذار/مارس الماضي بتسليم وفد عسكري روسي بقايا حطام طائرة الشبح الأميركية من طراز “إف 117” التي تم إسقاطها خلال الحرب اليوغوسلافية في العام 1999، مروراً بتوجيه الرئيس الصربي في أيار/مايو الماضي الشكر لروسيا على جعل جيش بلاده “أقوى 10 مرات” مما كان عليه في العام 1999، وكذا زيارة السفير الروسي في بلغراد ألكسندر خارتشينكو مؤخراً، برفقة رئيس الأركان الصربي ميلان مويسيلوفيتش، للقوات الصربية المتواجدة قرب الحدود مع كوسوفو، وتحليق مقاتلات سلاح الجو الصربي الروسية الصنع على طول خط الحدود، وصولاً إلى التدريب الروسي – الصربي العسكري المشترك “الدرع السلافي -2021″، الذي أقيم في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والذي شاركت فيه عدة وحدات للدفاع الجوي من كلا الجانبين، في سلسلة من التدريبات في قاعدة ” باتاينيتسا” الجوية.
بالنّظر إلى ما سبق، يمكن القول إنَّ بلغراد باتت في مرحلة صعود لافتة بدعم من روسيا والصين، اللتين وجدتا في ما كان سابقاً القلب النابض للاتحاد اليوغسلافي فرصة لفتح جبهة جديدة أمام حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وخصوصاً في ظلِّ تراجع اهتمام الإدارة الأميركية الحالية بمنطقة البلقان، وتباين وجهات النظر الأوروبية تجاه العلاقة مع روسيا، وهو ما قد يفتح الباب في أي وقت لاندلاع نزاع واسع النطاق بين صربيا وجمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق، وخصوصاً الجبل الأسود وكوسوفو، وفي الوقت نفسه يقرب هذا الوضع كلاً من موسكو وبكين من دول هذا الاتحاد السابق، التي كانت في ما مضي تصنّف ضمن المعسكر الاشتراكي إبان الحرب الباردة.