مترجم عن صحافة الصهاينة: هرتزل والسلطان ومحرقة الأرمن
مقال مهم على قصره نشرته صحيفة “هآرتس”، لكنه يعرض جانبًا تاريخيًا مهمًا للعلاقة بين ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية والخليفة (السلطان) العثماني عبد الحميد الثاني، قد لا يكون هذا المقال هو الأول الذي يعرض لهذا الجانب من التاريخ، فقد نشر الباحث والكاتب خالد الحروب مؤخرًا مقالًا بعنوان السلطان عبد الحميد: الخرافة وتفكيكها”، عرض فيه لكتاب صدر حديثًا بعنوان “السلطان عبد الحميد الثاني ودوره في تسهيل السيطرة اليهودية على فلسطين” للباحثة فدوى نصيرات، والذي حاول تتبع مسار العلاقة بين هرتزل والسلطان، ليصل إلى السؤال الكبير: إذا كان السلطان عبد الحميد قد رفض فكرة هرتزل ببيع فلسطين لليهود عقب اللقاء الأول بينهما في العام 1896؛ فلماذا واصل استقباله في زيارات أخرى في إسطنبول، بعضها على نفقة السلطان، وتبادل الرسائل الورقية معه؟
المقال الذي بين أيدينا في صحيفة “هآرتس” للكاتبة “الاسرائيلية” من أصول بولندية البروفسور راحل البويم درور، المحاضرة في جامعة تل أبيب، والحاصلة على عديد من جوائز الدولة العبرية لأبحاثها ومؤلفاتها؛ يتحدث صراحة عن العمل الدؤوب الذي قام به هرتزل بصفته صحفيًا مرموقًا لتحسين صورة السلطنة العثمانية السلبية بعدما أشيع عن مذابح ارتكبها العثمانيون بحق الأرمن، وكيف انه خاض معركة ضارية للقيام بما يريده منه السلطان عبد الحميد. ومما يثير الاستغراب – كما تذكر الكاتبة “الاسرائيلية” – أن هرتزل قد قام بتوجيه الشكر للسلطان العثماني عبد الحميد في بيان المؤتمر الصهيوني الأول، الذي انعقد بعد رفض السلطان لفكرة بيع فلسطين لليهود مقابل قيام الحركة الصهيونية بسداد الديون العملاقة المتوجبة على الدولة العثمانية، وذلك رغم معارضة عدد من رموز الحركة الصهيونية أبرزهم برنار لزر الذي قدم استقالته احتجاجًا، وهذا بالتأكيد يدفع الباحثين لإعادة القراءة التاريخية لهذه الفترة المهمة من عمر التاريخ بالاعتماد على المصادر والمراجع التاريخية لمعرفة تفاصيل ما دار في تلك الفترة، وإلى المقال الذي ترجمناه في مركز أطلس للدراسات “الاسرائيلية”.
القضية الأرمنية شغلت الحركة الصهيونية منذ أيامها الأولى، وقبل الكونغرس الصهيوني الأول، وبعد واحد من أحداث القتل الجماعي التي حدثت للأرمن بأيدي الاتراك في منتصف تسعينات القرن الـ 18، في مركز استراتيجية هرتزل وقف الرأي القائل بصفقة التبادل: سداد الديون العملاقة عن الامبراطورية العثمانية من قبل اليهود مقابل امتلاك أرض “إسرائيل” وإقامة دولة يهودية فيها بموافقة الدول العظمى، عمل هرتزل جاهدًا على إقناع السلطان عبد الحميد الثاني ليقبل المقترح ولكنه فشل، “بدلًا من أن تقترح على السلطان الأموال” قال له فيليب ميخال نبلنسكي المستشار الرئيسي (وهو مستشار للسلطان أيضًا) “امنحه تأييدًا سياسيًا في قضية الأرمن وسيقر لك بالجميل ويرضى باقتراحك أو على الأقل بجزء منه”، دول أوروبا النصرانية انتقدت قتل الأرمن النصارى من قبل المسلمين، والمؤتمرات المؤيدة للأرمن انعقدت في الكثير من الدول، وكذلك مُنح الأرمن أماكن للجوء في أوروبا ومنحوا حماية لقادة التمرد الأرمني؛ هذا الوضع جعل من الصعب جدًا على تركيا أن تتلقى قروضًا من البنوك الأوروبية.
تلقى هرتزل التوصية بتلهف، فوفق أسلوبه كان من الجدير محاولة أي طريقة تستطيع أن تقرب إقامة الدولة اليهودية، وهكذا وافق على ان يكون أداة في يد السلطان لإقناع قادة التمرد الأرمن بأنهم في حال خضعوا للسلطان فسيستجيب لبعض مطالبهم، كما عمل هرتزل على تقديم تركيا أمام الغرب على أنها أكثر إنسانية، وعلى أنها تفعل ما تفعل لعدم وجود خيارات في ظل التمرد الأرمني، وأنها تسعى الى وقف إطلاق النار والى تحقيق النظام، وبعد الكثير من الجهود التقى السلطان في 17 مايو 1901.
السلطان تأمل ان ينجح هرتزل بصفته صحفيًا مشهورًا في تغيير صورة الإمبراطورية العثمانية السلبية، ولذلك فقد خاض الأخير معركة ضارية للقيام بما يريده السلطان، حيث قدم نفسه وسيطًا من أجل السلام، أقام علاقات وأجرى لقاءات سرية مع المتمردين الأرمن في محاولة لإقناعهم بوقف القتال، غير أنهم لم يؤمنوا بادعائه، كما أنهم لم يصدقوا وعود السلطان، وكذلك عمل هرتزل بمجهود كبير عبر القنوات الدبلوماسية في أوروبا التي خبرها جيدًا، وكعادته لم يستشر قادة الحركة الصهيونية وحافظ على سرية جميع تحركاته، ولكنه احتاج الى المساعدة فتوجه الى ماكس نورداو بهدف تجنيده هو الآخر للقيام بهذه المهمة، فردّ نورداو ببرقية فيها كلمة واحدة “لا” بشغفه على ان يتلقى من الأتراك الميثاق المبتغى بما يخص أرض “إسرائيل”، صرح هرتزل علانية (بعد بدء مؤتمرات الكونغرس اليهودي السنوية) بأن الحركة الصهيونية تبدي تقديرها وشكرها للسلطان رغم معارضة عدد من الممثلين، برنار لزر كان على رأس المعارضين، وهو مفكر يهودي فرنسي يساري وصحفي وناقد أدبي شهير، ومن أوائل المقاتلين ضد محكمة درايفوس وواحد من مؤيدي الأرمن، لم يكن يستطيع ان يسلم بتحركات هرتزل، ولشدة غضبه استقال من اللجنة الصهيونية العاملة وهجر الحركة في العام 1899، ووجه ليزر رسالة علنية الى هرتزل سأل فيها: كيف يمكن لمن يدعي تمثيله للشعب الأعرق الذي كتب تاريخه بالدم ان يمد يده ويبارك القتلة ولم يقم أي أحد من أعضاء الكونغرس ليحتج؟
دراما هرتزل هذه – الزعيم الذي أخضع الاعتبارات الانسانية لخدمة السلطان التركي في سبيل حلم الدولة اليهودية – تظهر التصادم بين الأهداف السياسية والمبادئ الأخلاقية، معضلة تراجيدية مثل تلك تعاود المثول على مداخل “إسرائيل”؛ سواء في القرار القديم منذ سنوات طوال بعدم الاعتراف رسميًا بمذبحة الشعب الأرمني أو القرارات الحالية التي تعكس التلبك بين القيم الإنسانية وبين اعتبارات الواقعية السياسية.
أطلس للدراسات