مجزرة الطنطورة تؤكد وحشية الجيش (الإسرائيلي) – د.غازي حسين
ارتكبت الكتيبة الثالثة من لواء الكسندروني في الجيش (الإسرائيلي) في 23 أيار 1948 مجزرة الطنطورة الجماعية. وراح ضحيتها حوالي (250) من أهالي القرية العزل من السلاح، من أطفال ونساء وشيوخ ورجال.
وظلت مجزرة الطنطورة طي الكتمان حتى العام 2000، حيث دافع الباحث (الإسرائيلي) تيودور كاتس عن أطروحته لنيل شهادة الماجستير من جامعة حيفا التي كشفت وأكدت وقوع المجزرة الجماعية الرهيبة.
وقاد القوة (الإسرائيلية) التي ارتكبت المجزرة دان ابشتاين لاحتلال القرية وترحيل من بقي من سكانها على قيد الحياة وإحلال مهاجرين يهود محلهم.
قامت قرية الطنطورة العربية على أنقاض مدينة «دور» الكنعانية. وكانت عامرة ومزدهرة طيلة تاريخها حتى الاحتلال الإسرائيلي البغيض، حيث طردت (إسرائيل) البقية الباقية من سكانها بعد المجزرة ودمرت منازلها باستثناء قلعة القرية والمقام التاريخي فيها. وأقامت على أنقاض المنازل والأراضي العربية كيبوتس نحشوكيم في حزيران 1948 وسكنه مستعمرون يهود من الولايات المتحدة وبولندا. وأنشأ مستعمرون يهود قدموا من اليونان مستعمرة دور عام 1949 إلى الشرق من موقع الطنطورة العربية.
وكانت العصابات اليهودية الإرهابية المسلحة مثل ايتسل وليحي والهاغاناة قد ارتكبت عشرات المجازر الجماعية الوحشية قبل مجزرة الطنطورة ومنها مجزرة دير ياسين في 9 نيسان 1948، ومجزرة بلدة ناصر الدين بالقرب من طبرية في 14 نيسان 1948 وذلك لترحيل العرب من فلسطين وإقامة المستعمرات اليهودية على أنقاض القرى العربية لتحقيق الاستعمار الاستيطاني اليهودي والمشروع الصهيوني والهيمنة على البلدان العربية.
إن ارتكاب عشرات المجازر الجماعية والأعمال الإرهابية التي كانت تقوم بها العصابات اليهودية المسلحة والجيش (الإسرائيلي) كانت تهدف إلى إدخال الخوف والرعب في النفوس وتحقيق الترحيل القسري للعرب لتهويد فلسطين العربية بقوة السلاح والترحيل والإبادة الجماعية.
تقول الرواية الرسمية (الإسرائيلية) عن الوضع في قرية الطنطورة عام 1948 ما يلي: «اعتكف أهالي الطنطورة في قريتهم وقطعوا صلاتهم بالمستوطنات (المستعمرات) اليهودية. وحتى أواخر نيسان كانوا لا يزالون يتلهون بوهم أنهم يستطيعون الاستمرار في حياتهم العادية إلى أن تنجلي الغمة. إلا أنه في أثر سقوط حيفا وإجلاء (ترحيل) سكان قيسارية العرب، تغير مزاج سكان الطنطورة، فالشعور بالأمان الذي خيم عليهم تلاشى كلياً. وبدأ لاجئون من حيفا وقيسارية وقرى عربية أخرى يتدفقون على الطنطورة، وعلى ألسنتهم قصص محزنة عن قوة السلاح اليهودي وعن هزيمة العرب المذلة.
وتقسم الرواية الرسمية أهالي الطنطورة إلى معتدلين خافوا من القوات اليهودية على مصيرهم وبيوتهم وأرزاقهم ومتطرفين يرفضون العروض (الإسرائيلية) للاستسلام عبر وسطاء من أهالي مستعمرة زخرون يعقوف المجاورة ويدعون إلى محاربة اليهود. وفرضوا موقفهم في نهاية الأمر مما حمل العصابات اليهودية الإرهابية على احتلال الطنطورة وارتكاب المجزرة وتدميرها.
ينسف الباحث تيودور كاتس في أطروحته الرواية (الإسرائيلية) من جذورها. ويؤكد أن الطنطورة لم تبادر إلى فتح المعركة مع الهاغاناة لكنها رفضت الشروط (الإسرائيلية) للاستسلام. وعندما هوجمت قاتلت (ببسالة) بما تملكه من وسائل دفاعية قليلة جداً ومتواضعة دفاعاً عن النفس والأرض والممتلكات، لذلك قررت القوات (الإسرائيلية) معاقبة أهالي القرية بارتكاب المجزرة الجماعية البشعة تماماً كما فعل مجرم الحرب والسفاح شارون في الأراضي العربية المحتلة.
وعلى أثر الكشف عن مجزرة الطنطورة الرهيبة قام الزميل مصطفى الولي بالبحث عن شهود عيان للمجزرة في مخيم اليرموك وحي القابون في دمشق.
يقول محمد إبراهيم أبو عمرو من مواليد الطنطورة عام 1935 في شهادته أنه عندما حملونا في سيارات شحن، كانت جثث القتلى تحت أنظارنا مكومة مثل أشجار مقطعة.
شاهدت امرأة جثة ابن أخيها بين القتلى، وهو محمد أبو إدريس، ولم تكن تعرف حين صرخت ألماً عليه أن أولادها الثلاثة قتلوا أيضاً. وعندما علمت أصيبت باختلال عقلي. لكنها بقيت تقول أنهم أحياء يعيشون في مصر، وسوف يعودون. ماتت وهي تنتظرهم. ومضى يقول في شهادته أن أم الشهيد عبد الوهاب حسن عبد العال قد صرخت عندما شاهدت جثث شباب القرية فأطلقوا عليها الرصاص وماتت.
وتقول آمنة المصري وتمام المصري في روايتهما المشتركة أن سيارة عسكرية يهودية دهست امرأة من الطنطورة في الفرديس وهي آمنة أبو عمر، كانت تجمع سنابل القمح من الحقول وتحملها على رأسها لتطعم الأولاد. واقتربت امرأة أخرى منها لتحسبها عن الطريق، فأسرعت سيارة أخرى لتدهس الثانية، لكنها أخطأت فداست مرة ثانية على جسد الأولى.
ويصف فريد طه سلام من مواليد الطنطورة عام 1915 وضع القرية ويقول:
«بدأ الهجوم فردت الحراسات إلى أن نفذت الذخائر. تراجع عدد إلى داخل البلدة، وغادر آخرون إلى خارجها. وبعض الرجال لم يغادر موقعه فبقي يقاتل حتى استشهد أو ألقي عليه القبض وقتل بالحراب ونكل به. اخرجوا من التجمع عدة مجموعات لا تعرف مصيرها، آخر مجموعة كان عددها (40) رجلاً. من واحدة من تلك المجموعات عاد طه قاسم وروى لنا أن يهودياً سأل: من يعرف عبري؟ فأجابه عن نفسه، قال له: انظر كيف سيموتون، وأطلقوا عليهم الرصاص وهم مصلوبون على جدار».
ويروي سليم الصرفندي من مواليد الطنطورة عام 1932 أنهم صاروا (أي اليهود) يستخدموننا في العمل (السخرة) الصغار في تنظيف وخدمة المكاتب، والكبار في الأعمال الشاقة: تحميل وتفريغ مواد البناء، حفر استحكامات عسكرية، دفن جثث الشهداء من الجيوش العربية.
ويروي عادل العموري في شهادته أن الجيش (الإسرائيلي) استخدمهم في أعمال السخرة ويقول: «استخدمنا الجنود في قطف الثمار من الأراضي العربية لمصلحة متعهد يهودي. وذات يوم حضرت إلى المعسكر باصات مليئة بالرجال، انزلوها قربنا ليشربوا من صنبور ماء وحيد، ومن شدة عطشهم تدافعوا، فأصلاهم الجنود بنيران الرصاص، واختلط الماء بالدم، وسقط أمامي عشرات منهم، علمنا فيما بعد أنهم من أبناء مدينتي اللد والرملة. وفي طريق العودة من الأسر، بين وادي الملح وجنين (40 كلم) كنت أرى على جانبي الطريق جثثاً لقتلى من العرب.
ويقول يوسف سلام من مواليد عام 1924 في شهادته أنه «في التجمع، ومع تحضير أخر مجموعة (40) رجلاً للقتل، حضر مختار زخرون يعقوف، وحذر بالعبرية شمشون، قائد القوات من قتلهم. رد شمشون بأنه مزود بأمر من قائد لواء الكسندروني بقتل الجميع.
ويؤكد عبد الله سليم أبو شكر من مواليد الطنطورة عام 1931 أنه قبل الهجوم على القرية طلب اليهود من أهل الطنطورة الاستسلام للأمر الواقع، والاعتراف بدولة (إسرائيل) والقبول بها، وتسليم السلاح، لكن الإرادة العامة للسكان أجمعت على الرفض. واعتقد أهالي القرية أن من واجبهم الصمود حتى وصول نجدات من الجيوش العربية.
ويقول مصطفى المصري في شهادته «أن اثني عشر شخصاً من أفراد عائلته قتلوا قرب منزلهم، وأن القائد اليهودي كان يتجول في شوارع القرية ويطلق النار على كل من يراه».
وكتب كاتس في أطروحته أن (95) رجلاً قتلوا عند المقبرة وحدها، وأن مذبحة الطنطورة كانت أكثر مأساوية من مذبحة دير ياسين، وأنه استند إلى شهادات يهود وعرب بالإضافة إلى جنود شاركوا في الهجوم ليعزز النتائج التي توصل إليها. وتكشف أطروحته عن جرائم مرعبة ارتكبتها القوات (الإسرائيلية) بحق المدنيين كإعدام المدنيين في الشوارع وفي منازلهم وبشكل عشوائي ومنظم أحياناً في مجموعات من ستة إلى عشرة أشخاص في مقبرة القرية.
وكتبت معاريف عن محمود الطنجي الذي قال: لقد تم نقلنا، إلى مقبرة القرية حيث أوقفونا في طوابير، وجاء قائد اليهود وقال لجنوده: خذوا عشرة، فاختاروا عشرة منا واقتادوهم إلى منطقة يكثر فيها نبات الصبار وأطلقوا النار عليهم. ثم عادوا وأخذوا عشرة آخرين ليقوموا بالتخلص من جثث الأوائل، وبعدها أطلقوا النار عليهم. وهكذا دواليك، وكرروا الأمر مراراً وقتلوا المزيد من الناس.
ويمضي الطنجي في شهادته ويقول: «لقد كان ينبغي على اليهود أن يتعلموا مما فعله الألمان بهم، وأنا لا أعرف لماذا فعلوا بنا الشيء نفسه. وكان من الأفضل لي لو مت هناك، وأن لا أحمل هذه القصة معي حتى اليوم».
لقد اعتمد الباحث (الإسرائيلي) في رسالته الجماعية عن المجزرة التي كشف اللثام عنها على الوثائق الموجودة في أرشيف الجيش (الإسرائيلي) وأفادت عدد من جنود الكتيبة 33 الذين نفذوا المجزرة الجماعية ومنهم مردخاي سوكولر، قائد اللواء الذي كشف إفادته عن عدد ضحايا المجزرة بقوله: «أذكر إننا أحصينا العدد ووصلنا إلى (230) تقريباً. وبالتالي يتراوح عدد ضحايا المجزرة من 230 ـ 250 وربما أكثر من ذلك بكثير.
إن مجزرة الطنطورة الجماعية تندرج في إطار ممارسة (إسرائيل) الإبادة الجماعية وقتل المدنيين الأبرياء والإرهاب الرسمي المنظم، ولم تكن مجرد صدفة أو مجرد خطأ وإنما جريمة نكراء خططت لها (إسرائيل) وتنبع من التعاليم التوراتية والتلمودية في إبادة غير اليهود لترحيل العرب وإحلال المهاجرين اليهود محلهم.
وإن المجتمع الدولي الذي عاقب النازيين على جرائمهم لا يجوز أبداً أن يسكت ويصمت على جرائم اليهود ولا يعاقبهم على جرائمهم تجاه العرب. وهنا أتساءل؟ أين منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها العلمية والسياسية والإعلامية؟ وأين الفصائل الفدائية التي لم تكشف مجزرة الطنطورة ومجزرة الدوايمة والعديد من المجازر الجماعية؟
المطلوب إجبار (إسرائيل) على تحمل مسؤوليتها عن المجزرة التي لا يسري عليها تقادم الزمن وإلزامها بدفع التعويضات إلى عائلات الضحايا أسوة بالتعويضات التي قبضها اليهود عن جرائم النازية ومحاكمة قادة العدو كمجرمي حرب أسوة بالنازيين.