محمود العارضة كلّ الحقولِ لك – هيثم أبو الغزلان
حين زادت نار ُالشوقِ في قلبِ محمود لوالدته، حَفَر الأرضَ، وخرَج منها لِيُولدَ من جديد مرّتين.
وُلِدَ مرّةً حين ولَدَتْهُ أمّه ووهبته عينيها، ورسمتهُ قُبلةً بقلبها قبل شفتيها؛ ومرّةً حين خرجَ من نفقٍ وهبَهُ أيّامَ حرّيّةٍ، ووعدًا بالمزيد.
حين رأى محمود الشمسَ تبزغُ من جديد، صدّق قلبه الذي لطالما حدّثه عنها. فالشمسُ الّتي كانت تتوارى منه في الزّنزانةِ خجلًا صارت تُحدّثه خارجَها عن الربيع، وتواسيه، وتطبع على جبينه قُبلةً يشتهيها، وتضمّه مثلَ أمّه إلى صدرها، وتهمسُ في أذنه:
يا ابنَ النّهار، وكلِّ السّهول، هذا الصّبّار في كلّ الحقولِ لك، والتّينُ والزّيتونُ لك، والزّعترُ البرّيُّ لك، وكلُّ الورودِ لك.
فأشاحَ بوجهِه خجلًا، وتذكّرَ كيف زحف في النفق حتى رأى الأرض كلّها أمامَه، ومعه، وبانتظاره، فسخِرَ منَ المستحيل، وأخبره أنّ بين الحرّيّة والحرّيّة مسافةَ انعتاق، وفوّهةَ نفقٍ فقط!
ارتجّ النهارُ، وتعبّدَتِ الطرقُ بنسيمِ الحُرّيّة وبحجمِ مساحتِها، فتحدّث هناك معَ عشبِ الأرضِ وزيتونِها، وهمس لشجرةِ التينِ المُعمّرةِ:
هل عرفتِني؟!
فمالت إليه، وقالت:
كنتُ أنتظركَ قبلَ الريح، وبعدَ العاصفة، وبينَ الورودِ التي تسكنُ عطرَها…
عندها نظر باتجاهِ الناصرة، وقلّبَ نظره باتجاه سهل مرج بن عامر، وطوى قلبه على القدس، ومضى بهدوء.
في تلك اللحظاتِ، كانت والدته قابَ قوسينِ أو أدنى من رمشِ عينيه، وكانتِ الأرضُ، كلُّ الأرضِ، تتعلّقُ برمشِه الثاني… كان مشتاقًا. طوى الجرحَ على الشوقِ، فنادى الجرحُ:
أيّ جرحٍ تحملُ يا محمود، وأنتَ بين السنبلةِ والوردةِ تنبتُ مثلَ شجرةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء، تصعدُ ولا تموتُ، تُزهرُ وتُعطي، وكأنّ الحياةَ تشقُّ الأفقَ حريةً، ودفقَ اقترابٍ من المستحيل… المستحيل؟!