محمود عباس والانتخابات – منير شفيق
في المقابلة التي أجرتها قناة «الميادين» مع جبريل الرجوب في دمشق، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2020، حول مشروع الانتخابات وقضايا أخرى، أكد أنّ الانتخابات لن تأخذ شكل المغالبة، وإنّما ستتمّ بالتوافق بين «فتح» و«حماس» وفصائل المقاومة. ما يعني، منذ اللحظة، أنها فقدت سمتها الديموقراطية بالمعيار الغربي.
وكان الرجوب قد أوضح، أثناء تبريره للانتخابات، أنّ ثمة ضغوطاً عالمية، طبعاً غربية أساساً، من أجل ضرورة تجديد شرعية المؤسّسات والقيادة الفلسطينية. يعني ذلك، أنّ القيادات الغربية (أميركا وأوروبا) امتلكت ورقة الطعن بشرعية الانتخابات وشرعية مفرزاتها، إذ تمّت وفق طريقة الأنظمة الشمولية، انطلاقاً من تقديم قوائم موحّدة متّفق عليها، للناخب الذي لن يجد أمامه غير تلك القائمة، حتى لو سُمح بمنافسة قائمة مهمّشة أصلاً لذر الرماد في العيون. وهذا يعني، أيضاً، أنّ قرار الشرعية واللاشرعية أصبح بيد الغرب يُستخدم للابتزاز. بهذا، يسقط التبرير الأهم لإجراء الانتخابات وتجديد شرعية المؤسّسات والقيادة منذ البداية.
الانتخابات بلا مغالبة، مثل فكَّين لفم بلا أضراس وأسنان؛ أي انتخابات على أساس المحاصصة. وهذا قد يفتح باباً للصراع بين «فتح» و«حماس» والفصائل والمستقلّين، ولن يكون من السهل إغلاقه، إلّا بالعودة إلى المغالبة، علماً بأنّ المحاصصة هي بدورها، وبأصلها، تَشاطُر وضرباتٌ تحت الحزام.
أمّا محمود عباس، وقيادة «فتح»، حين يصرّان على الانتخابات باعتبارها الأولوية، فالهدف الحقيقي هو الرئاسة، وإعادة انتخاب محمود عباس رئيساً، بشرعية جديدة. طبعاً، هنالك التجربة الطويلة السابقة معه، حين عطّل المجلس التشريعي، ثم حلّه بقرارٍ قضائي، وحين جعل المجلس الوطني ورقة بيده يضعها على الرف متى شاء، وينزلها من الرف متى احتاج إلى ذلك، وقد انتهى إلى تشكيل مجلس مركزي ليحلّ مكان المجلس الوطني متى شاء أيضاً.
ولعلّ من أهمّ ميّزات محمود عباس، حتى الآن، أنّه لم يخْفِ وقوفه في مربع التسوية بشكل «جديد»، عبّر عنه في خطابه الأخير في الجمعية العامّة، عبر المطالبة بعقد مؤتمر دولي لحلّ القضية، إلى جانب دعوته السابقة لوساطة أو رعاية الرباعية للمفاوضات. علماً بأنّ مسار التسوية بدأ بالحديث عن «مؤتمر دولي». فالإصرار على الانتخابات وتجديد الشرعية ــــــ شرعية الرئاسة أساساً ــــــ يأتي بدافع التحضير للمفاوضات، ذلك أنّ الحاجة للتمثيل (الممثل الشرعي والوحيد) وللشرعية الانتخابية، ليست بهدف تأجيج المقاومة أو الانتفاضة والقتال ضد قوات الاحتلال، لأنّ هذه ليست بحاجة إلى التمثيل والشرعية، فتمثيلها وشرعيتها يأتيان من دعم الشعب لفعلها المقاوم. ولهذا، فإنّ الإصرار على الممثل الشرعي والوحيد، ثم على الشرعية الانتخابية، يُراد منه التحضير للمفاوضات، والمضيّ في طريق التسوية لإيجاد «حلّ» للقضية الفلسطينية. وللمناسبة، شاءت تقلّبات موازين القوى، في بداية التسعينيات، بأن ينتهي «الممثّل الشرعي والوحيد»إلى توقيع «اتفاق أوسلو»، والذهاب بعيداً مع تداعياته.
على أنّ النتيجة كانت، ليست إنقاذ ما يمكن إنقاذه وإقامة دولة، وإنّما ضياع ما يمكن إنقاذه بزحف المستوطنات، وإعلان ضمّ شرقي القدس وأراضٍ أخرى وترك ما تبقى من الضفة الغربية ليس للفلسطينيين، وإنّما للمفاوضات الثنائية المباشرة («صفقة القرن»)، أي لاستيطان جديد، في ظلّ المفاوضات، كما حدث مع تجربة «اتفاق أوسلو».
السؤال الجوهري والفاصل: أين تكمن المشكلة الأساسية التي تواجه الشعب الفلسطيني في المرحلة الراهنة؟ إجابتان لكل منهما مسارٌ ومصير. وما بينهما إجابة ثالثة تحاول تدوير الزوايا.
الإجابة الأولى: الاحتلال والمستوطنات والضم، بما يستوجب إعطاء الأولوية للمواجهة بكل أشكال المقاومة الشعبية، وفي مقدمها الانتفاضة الشعبية والعصيان المدني. والهدف، دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيدٍ أو شرط أو تفاوض، لأنّ التفاوض ووضع الشروط يعنيان مكافأة الاحتلال والاستيطان، وهما غير شرعيين، ولا يجوز أن تقدّم لهما أية مكافأة.
والإجابة الثانية: الدعوة لمؤتمر دولي برعاية لا تقتصر على أميركا: أي ممارسة الضغوط المختلفة للعودة إلى التفاوض، من أجل انسحاب الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها «القدس الشرقية» (شرقي القدس)، ومن بين هذه الضغوط توحيد الموقف الفلسطيني، والحسم في رفض «صفقة القرن» ومخططات الضمّ وسياسة الهرولة (التحالف مع العدو) التي عبّرت عنها اتفاقيتا نتنياهو ــــــ محمد بن زايد، ونتنياهو ــــــ ملك البحرين. وكان من بين الضغوط إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ومجلس وطني، كما أوضح جبريل الرجوب رئيس الوفد الفلسطيني إلى دمشق، في مقابلته مع قناة «الميادين».
الإجابة الثالثة: وضع المقاومة الشعبية للاحتلال والاستيطان، في مرتبة واحدة مع حلّ المشاكل الفلسطينية الداخلية، من خلال الحوار مع «فتح» حول الانتخابات وخطوات المصالحة. ولكن ما دام الطرف المفاوض هو «فتح» ـــــــ محمود عباس، فستتقدّم سياسة الانتخابات وحلّ قضايا الانقسام، والمصالحة على تصعيد المقاومة الشعبية، بالضرورة. وهنا يُحتَجّ بأسباب كثيرة، منها أنّ لا مقاومة شعبية وانتفاضة في الضفة الغربية من دون «فتح»، وأنّ للوحدة الفلسطينية أولوية لمواجهة «صفقة القرن»، ومخطّطات الضمّ وخطوات «الهرولة التحالفية».
الإجابة الأولى هي التي تعبّر عن الخط الصحيح في مواجهة تحديات هذه المرحلة، فيما الإجابة الثانية سيمارسها محمود عباس، كما فعل حتى الآن، إلى جانب تبنّي وفد «فتح» إعطاء الأولوية في الإجابة الثالثة إلى الانتخابات، وحلّ المشاكل الفلسطينية الداخلية، والحيلولة دون تصعيد المقاومة الشعبية إلى مستوى الانتفاضة والعصيان المدني. فهذا، بالرغم من عدم قناعة محمود عباس بجدواه، بل مناهضته له، يؤدّي إلى تعطيل الانتخابات التي تحتاج إلى تهدئة الوضع في الضفة الغربية، وإلّا فإنّ العدو لن يسمح بإجراء انتخابات. والدول التي ستضغط عليه لإجرائها ستشترط ألّا تصعّد المقاومة الشعبية إلى مستوى مستفز.
إنّ الإجابة الثانية تكرّر تجربة مسار التسوية السابق و«اتفاق أوسلو»، وهي تظنّ أنّ المسار الجديد الذي تدعو له مختلف، ولا «يجرّب المجرّب» علماً بأنّ كلّ الذين جرّبوا ذلك المجرّب هم الذين ما زالوا في الملعب نفسه.
أما الإجابة الثالثة، فبالرغم من تقبّلها من حيث المبدأ للإجابة الأولى، ولكنّها غير مقتنعة بتحدّي الخط الذي تطرحه «فتح»، ولهذا لا ترفض الذهاب إلى الانتخابات، ما يعني الانتظار لأشهر عدّة.
وبهذا، لا يتحوّل ما تحقّق من وحدة وطنية إلى انتقالٍ لإعطاء الأولوية للمعركة ضد الاحتلال والاستيطان و«صفقة القرن»، وذلك من خلال الانتفاضة والعصيان المدني وأشكال المقاومة المختلفة بما يحقّق تحرير الأرض: دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة والقدس بلا قيدٍ أو شرط، أو مفاوضات. ثمّ يختار الشعب الفلسطيني ماذا سيفعل، وهو واقف على أرضٍ محرّرة في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية.
من هنا، يخطئ مرّتين من يُقحِم هدف إقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلّت في حزيران/ يونيو 1967؛ يخطئ في تحويل الأراضي المحرّرة من خطوط هدنة إلى حدود دولة مستقلّة، ما يوقعه موضوعياً في التخلّي عن ثوابت ميثاقَيْ 1964 و1968 (تحرير كلّ فلسطين من النهر إلى البحر). ويخطئ، مرة ثانية، في استعجال الانقسام الفلسطيني حول مَنْ مع التحرير الكامل، ومَنْ مع حلّ الدولتين، كما حدث في تجربة «اتفاق أوسلو» اللعين.
حقاً، إنها لمشكلة إذا تعذّر أن يقبل محمود عباس بإعطاء الأولوية لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات. أي لتحرير الأرض باستراتيجية المقاومة والانتفاض والصدام بالاحتلال مباشرة، بعيداً من أيّ تفاوض، أو صيغة لحلّ القضية الفلسطينية. فلا حلّ عادل للقضية الفلسطينية، إلّا بالتحرير الكامل وعودة كل اللاجئين إلى ديارهم التي هُجروا منها.
إذا تعذّر ذلك، فلتحصر وحدة الفصائل ضمن ما شهده الثالث من أيلول/ سبتمبر 2020، في لقاء الأمناء العامّين في بيروت ورام الله، أي رفض «صفقة القرن» ومخطّطات الضم والهرولة التحالفية مع العدو. ومن ثمّ يعمل كلّ طرف وفقاً لأولويته، على أن تبقى الإجابات الثلاث موضوعاً للقاءات والحوار.
وبكلمة، إنّ عدم اتخاذ مقاومة الاحتلال والاستيطان أولوية تعلو على كلّ ما عداها، يعني ارتكاب خطأ فادح، ما يبقي الوضع الفلسطيني في أزمة وخطر داهم، وذلك ما دام الاحتلال قائماً وبرتبة «خمس نجوم».
* كاتب ومفكر فلسطيني