مخيّم عقبة جبر جيل مقاوم جديد – رشاد أبوشاور
مُخيّم عقبة جبر عنوان لمخيّم مقاوم يتردد اسمه منذ فترة في مقدمة الأخبار، ويبدو كأنه بعث من النسيان، واستعاد لنفسه اسما ومكانة كانت له في زمن مضى يبدو بعيدا، ومجهولا حتى من الأجيال الفلسطينيّة التي توالدت بعد حقبة الخمسينات، تلك الفترة التي احتشدت بالأحداث والعناوين، والصراعات، وانفجار الوعي السياسي بكل ما يحدث في الوطن العربي والعالم، من ثورات، وانقلابات، وبروز ثورة مصر الناصرية، وثورة الجزائر المُلهمة، والعدوان الثلاثي على مصر: البريطاني الفرنسي والكيان الصهيوني…
في تلك الفترة كنّا أطفالاً ولدنا في فلسطين، وطردنا منها اقتلاعا، ورمينا مع ذوينا تحت الخيام في العراء وعشنا بالجوع والأمراض، وبدأنا نعي من دروس تتلاحق على عقولنا ونفوسنا، وهكذا نشأنا في زمن تحتشد فيه الأحداث، وينمو فيه الوعي والغضب على كل من تسببوا لنا كشعب فلسطيني بالمهانة التي نعانيها، والرمي بنا تحت الخيام للعيش في ظروف قاسية أججت غضبنا وقهرنا وعرّفتنا بأعدائنا مُبكرّا.
مخيم عقبة جبر أكبر مخيمات أريحا، يقع غير بعيد عن أريحا على طريق القدس جنوبا، وغير بعيد عن مبنى المقاطعة الذي بناه الإنقليز، وأورثوه للسلطة الأردنية التي جعلته سجنا_أبي كان سجينه عام 1953..وياما زرته فيه_ ومركزا يضم (الفرسان) ناهيك عن الشرطة.
مخيّم عين السلطان ثاني مخيمات أريحا حجما وعًدداً يمتد من تلّة عين السلطان التي تحوي بيوت أريحا التاريخية التي سكنها الكنعانيون وفيها عرفوا الاستقرار والزراعة والأسرة، وشرقي التلّة يتدفق نبع ماء منذ ألوف السنين، ويصل امتداد عين السلطان حتى مسيل المياه الجاف شمالاً، الذي تتدفق فيه مياه الشتاء لفترة، وتمضي من تحت جسر تمر عليه السيارات الذاهبة والآيبة من وإلى نابلس ومنطقتها، وغير بعيد يمتد مخيّم النويعمة الذي عشت فيه حتى لحاقي بوالدي اللاجئ السياسي في سورية بعد الانقلاب على حكومة سليمان النابلسي عام 1957 وزّج حزبيين كثيرين في السجون، ولجوء من نجو من المطاردة والاعتقال إلى سورية التي استقبلتهم ومنحتهم حق اللجوء السياسي حتى العام 1965..إلى أن صدر عفو من الحكومة الأردنية فعدت مع أبي إلى مخيم النويعمة لنستأنف العيش لفترة قصيرة قرب أريحا حتى نكبة حزيران 1967.
مخيم العوجا شمالي أريحا، غير بعيد عن مخيم النويعمة، وهو أصغر مخيمات أريحا، وهذه المخيمات الأربعة اشتهرت جدا أثناء مظاهرات عام ال55ضد حلف بغداد، وكنّا نحن الصغار نشارك فيها، ونهتف بسقوط الحلف الذي يفضحه (صوت العرب) بصوت أحمد سعيد رحمه الله مديره ومعلقه المتميّز بصوته العنيف المُحرّض.
مخيم عقبة جبر أكبر مخيمات أريحا، ولذا عُرف بأنه عندما يتحرّك فإنه يضخ الوف اللاجئين الغاضبين ويقطع الطريق للقدس ونابلس وشرقا إلى الأردن.
كانت الحركات الحزبية قد باتت قوية الحضور شعبيا: الشيوعيون _أبي كان شيوعيا_ والبعثيون، والقوميون العرب والناصريون، والحزب الوطني الاشتراكي..والأخوان المسلمون كان لهم مركز(البّر بأبناء الشهداء) ولم يكونوا يشاركون في التظاهرات، وعقبة جبر ضمّ كثيرين من الحزبيين، ويمكن القول بأن مخيمات أريحا كانت واسطة العقد بين الحراك الشعبي في فلسطين( الضفّة الغربيّة) والأردن ( الضفّة الشرقية).
مخيم عقبة جبر الذي ناهز عدد سكانه الأربعين الفا كان قائد الحراكات وزخمها والفاعل فيها، وكان ناسه لتجاوز المقاطعة وفرسانها وشرطتها يتجهون شرقا إلى السهول ثم يلتفون ليدخلوا عبر شوارعه وبساتين أريحا المنتشرة حولها، ثم يتجهون إلى قلب أريحا، وهناك تلتقي جموع المتظاهرين في ساحتها وتشتعل الهتافات وتكون الاشتباكات…
سقط حلف بغداد، وكان للجماهير في الضفتين دور كبير في سقوطه، ولمخيمات أريحا دور بارز مشهود، وانتعشت القوى الحزبية وتشكلّت حكومة السيد سليمان النابلسي البرلمانية التي لم تعمّر طويلاً فقد تم الانقضاض عليها عام 1957 وأنهيت التجربة البرلمانية قصيرة العمر والتي لم تتجاوز الستة أشهر.
حرب حزيران الصادمة والتي وقعت على رؤوس سكان مخيمات أريحا دفعت أغلبية سكان المخيمات للرحيل السريع، حتى إن مخيم النويعمة لم تبق فيه سوى ثلاث عائلات، وعين السلطان بضع عائلات، وقد جمعت وشحنت إلى مخيم عقبة جبر الذي بقي فيه القليل من سكانه…
الجيل الذي يشكّل مفاجأة، وما هو بمفاجأة، هو جيل ما بعد (أوسلو) الذي اكتشف أكاذيب وأوهام (سلام الشجعان)، والذي فتح عيونه على الموت اليومي، وتدمير البيوت، والمطاردات المتواصلة، ونهب المياه، ومصادرة الأراضي الموعودة بأن تكون (للدولة الفلسطينية) التي تضيق يوميا، وتتحوّل إلى (معازل)، وتمزّق (بالمحاسيم) الحواجز!..وسجون تأكل اعمار ألوف الفلسطينيين والفلسطينيّات ولا تستثني الأطفال!.
كبّر فتية عقبة جبر، وعرفوا أنه ليس لهم سوى خيار واحد: المقاومة بكّل ما تجده أيديهم من الحجر حتى البندقيّة، ولم يخافوا من مستوطنة (فيردت يريحو) المشرفة على تلّة غربي المخيم تراقب كل حركة، وعلى حاجز كبير جنوبي المخيم، ناهيك عن أساليب معروفة يلجأ لها العدو..ونزلوا إلى الميدان بعنفوان واستلهموا تراث شعبهم ومخيماتهم الثوري المقاوم..وبات عقبة جبر عنوانا في أخبار مقاومة شعبنا، وقدّم ويقدّم الشهداء..ويقتل من الأعداء برصاص أبطاله الذين يبرهنون على أن نار الثورة لن تنطفئ في المخيمات الفلسطينيّة حتى تتحقق العودة لفلسطين المحررّة.
ولأن المخيمات نبع المقاومة الفلسطينية في الضفة والقطاع وسورية ولبنان فإن نارها لن تخمد مهما جرى من تآمر..فها هو ذا (مخيم اليرموك) ينهض من تحت الدمار، وها هو (عين الحلوة) يهزم العملاء..وها هي المخيمات مخيمات مقاومين بواسل وليس لاجئين منسيين وادعين مروّضين!
الرحمة لروحي آخر شهيدين قدمهما مخيم عقبة جبر: قصي عمر الولجي، و محمد ربحي ..وإلى أرواح كل أبطالنا الذين بدمائهم يرسمون طريق تحرير فلسطين.