مذكرات محمود الأطرش: شيوعية بلا شيوعيين
صقر ابوفخر
محمود الأطرش المغربي مناضل شيوعي فلسطيني من أصول جزائرية، وهو يتشارك في اسمه مع أحد المؤسسين الأوائل لحركة «فتح» وأول رئيس وزراء في ليبيا بعد إطاحة الملك السنوسي. ولقب المغربي كنية عامة أطلقت على كثيرين من أهل ليبيا والجزائر وتونس والمغرب الأقصى الذين هاجروا إلى بلاد الشام، إما لمجاورة مقدساتها أو للإقامة فيها هرباً من الاضطهاد الفرنسي، كما جرى للأمير عبد القادر الجزائري وصحبه. وحي المهاجرين، في دمشق اكتسب اسمه من مهاجري الأندلس والمغرب الذين برز منهم تاج الدين الحسني (رئيس جمهورية) وعبد الرحمن خليفاوي (رئيس وزراء). وعلى غرار حي المهاجرين اشتهرت حارة المغاربة في القدس التي دمرها الجيش الإسرائيلي غداة احتلال القدس في سنة 1967. ومن أبرز مغاربة فلسطين الشهيد فتحي الشقاقي (ليبي) والشهيدة دلال المغربي والروائي يحيى يخلف (جزائري). وقد أصدرت «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» مذكرات محمود الأطرش ووسمتها بعنوان «طريق الكفاح في فلسطين والمشرق العربي» (بيروت: 2015). وتتضمن هذه المذكرات سيرة محمود الأطرش منذ ولادته في حارة المغاربة في سنة 1904 حتى سنة 1939، حين عاد إلى الجزائر وبدأت مرحلة جديدة في حياته. فالمذكرات إذاً غير كاملة وتقتصر على نضال الشيوعيين الأوائل في فلسطين وسوريا ولبنان حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. أما القسم الثاني من المذكرات فما زال مخطوطاً ينتظر نشره على الناس.
يروي محمود الأطرش في هذه المذكرات التي حررها وقدم لها وذيّلها بالهوامش وأبدى ملاحظاته عليها المؤرخ الفلسطيني ماهر الشريف، كيف عاش يتيماً جراء وفاة والده بعد ستة أشهر من ولادته. وبعد عام من وفاة والده تزوجت والدته مكرهة (ص 22)، فعمل لاحقاً في قطاف البرتقال في يافا، وأجيراً في الدكاكين، وراعياً للأبقار وراجوداً على البيادر وراء والدته التي كانت تلتقط سنابل القمح التي يتركها الحصادون (ص 32)، ولم تلبث والدته أن مرضت فبقي إلى جانبها «حتى خرج آخر نفس من حلقها» (ص 37). وهذه الأحوال والأهوال أورثته الكآبة (ص 46) وزادت في انطوائه (ص 32)، وراح يتعثر في القراءة (ص 22) وبات خجولاً حتى أنه لم يستطع أن يُلقي قصيدة في المدرسة، فنسيها وازداد خجله وارتباكه (ص 31). وهكذا صار هذا الفتى غير متلائم مع محيطه، وكان رفاقه ينعتونه بالحمار أو بالغباء والجنون، أو بقلة الفهم، وكان يبكي غيظاً (ص 25). ولعل هذه المصائر كلها كانت الدافع له إلى التفتيش عمن يعيد الالتحام إلى ذاته المشطورة والمُهانة، فوجدها، في أول الأمر، في «جمعية الشبان المسلمين»، فانضم إليها (ص 53)، ثم تعرف إلى «منظمة الشبيبة الشيوعية» في تل أبيب فالتحق بها.
في الحزب الشيوعي الفلسطيني
يسرد محمود الأطرش في هذه المذكرات جوانب من الصراع الداخلي في «الحزب الشيوعي الفلسطيني» على مسألة تعريب الحزب، وهو ما وقف ضده معظم الأعضاء اليهود المؤسسين لـ «حزب العمال الاشتراكي» في سنة 1919 وهو النواة الأولى لـ «الحزب الشيوعي الفلسطيني» الذي ظهر في 9/7/1923. ويتحدث بإيجاز عن المؤتمر النقابي الأول للعمال العرب الذي عُقد في حيفا برئاسة محمد علي قليلات في 11/1/1929، وعن مؤتمر زحلة الذي عُقد في منزل يوسف الهراوي سنة 1934، وحضره ميشال عفلق ونقولا الشاوي وصلاح البيطار ويوسف خطار الحلو وبيار شادورفيان ومصطفى العريس وميخائيل طراد، وهؤلاء قرروا إصدار مجلة «الطليعة» التي صار لها شأن كبير في ما بعد. وتؤرخ هذه المذكرات أيضاً لنشوء «الحزب الشيوعي المصري» (ص 70) و «الحزب الشيوعي الفلسطيني»، ويذكر في هذا السياق أسماء الأعضاء الأوائل.
لا ريب أن محمود الأطرش هو أحد الأسماء اللامعة في تاريخ الشيوعيين الفلسطينيين، وتدرج في مناصبه القيادية حتى صار عضواً في اللجنة التنفيذية للكومنترن في سنة 1935. ومع ذلك بقي عالمه ضيقاً جداً ومقصوراً على الحزب الشيوعي ومشكلاته الداخلية وعلائقه الخارجية بالأحزاب الشيوعية الأخرى. وهذا ما تفصح عنه هذه المذكرات التي لا تتذكر الهستدروت مثلاً أو حزب بوعالي تسيون (حزب عمال صهيون) أو هبوعيل هتسعير (العامل الفتى) أو حزب «الماباي»، أو بناء المستعمرات وتأسيس الهيئات الصهيونية والصدامات العربية ـ اليهودية إلا لماماً. كذلك لا تتذكر هذه المذكرات إنشاء «جمعية العمال العربية الفلسطينية» في سنة 1925 ومؤتمرها الأول في سنة 1930 في يافا. وحتى سامي طه رئيس «جمعية العمال العربية» يرد اسمه مرة واحدة وبصورة خاطئة، أي سامي أبو طه. ولا نعثر في هذه المذكرات على أي أثر للمؤتمرات العربية مثل مؤتمر التسليح في نابلس (1931) وهبّة يافا (1933)، وطرد الفلاحين من أراضيهم (ما عدا وادي الحوارث في سنة 1933)، وظهرت الثورة الفلسطينية الكبرى (1936) في هذه المذكرات كأنها حدث عابر. ولعل غياب محمود الأطرش عن فلسطين في تلك الفترة، وتنقله بين لبنان وسوريا وموسكو وباريس كان لهما الأثر الواضح في هذه الفجوات.
خيال جامح
على طريقة الشيوعيين القدامى، يبالغ صاحب هذه المذكرات في تقدير الأمور، فيقول على سبيل المثال: «أرعبت قرارات المؤتمر الوطني السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني الامبرياليين البريطانيين والصهيونية، وباتوا ينظرون إلى الخطة الحزبية الجديدة كأكبر خطر يهدد استعمارهم ومستقبل الوطن القومي اليهودي» (ص 157). وعلى هذا المنوال يقول: «خاض حزبنا معركة الانتخابات النيابية في لبنان سنة 1934 بتفوق سياسي وتنظيمي كبير على المرشحين كافة» (ص 45). والمعروف أن الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني رشح آنذاك كلاً من ارتين مادايان وسعد الدين مومنة من الحزب، وإبراهيم حداد وفوزي البردويل من أصدقاء الحزب، ولم يفز أحد منهم. وفي مكان آخر يتحدث عن المساعدات التي أرسلها «الحزب الشيوعي الفلسطيني» إلى الثوار السوريين فيقول: «إن الثوار السوريين كانوا يقفون في صفين للترحيب بالمساعدات التي يرسلها الحزب الشيوعي، وينادون بحياة كل من الحزب والثورة السورية» (ص 102). ويسترسل محمود الأطرش فيروي أن وفد الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى المؤتمر العمالي العربي الأول في حيفا سنة 1930 «كان من أكبر الوفود وأشدها صلابة وخبرة، وتمكن الشيوعيون من توجيه المؤتمر نحو الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة العربية». ولاحظ ماهر الشريف هذه المغالاة فأورد نصاً لطاهر المغربي (شقيق محمود الأطرش)، وكان عضواً في ذلك المؤتمر، يقول فيه «إن الشيوعيين لم يعرفوا ما عليهم أن يفعلوه في المؤتمر، ولم يلمس أي تأثير للحزب في داخل المؤتمر» (ص 357). ويؤكد ماهر الشريف استناداً إلى أرشيف فلسطين لدى الكومنترن أن عدد أعضاء «الحزب الشيوعي الفلسطيني» والمنظمات الرديفة له كمنظمة الشبيبة والكتلة العمالية وجمعية المساعدة الحمراء بلغ نحو 140 عضواً من العرب واليهود في سنة 1930 (ص 356). أهؤلاء أرعبوا الامبرياليين والصهيونيين حقاً، أم انها تهويل على طريقة «ها الكم أرزة العاجقين الكون» في لبنان؟
ملاحظات
لم ينه محمود الأطرش الدراسة الإعدادية، ثم سافر، في ما بعد، إلى موسكو ليلتحق بالجامعة الشيوعية لكادحي الشرق، وهي جامعة أيديولوجية لتخريج شيوعيين من دول العالم، ولا تهتم بالتكوين العلمي لطلابها. ومع ذلك لم ينه دروسه الجامعية أيضاً. فمن أين له إذاً هذه اللغة الرائقة والخالية من الأغلاط اللغوية تقريبا؟ وقد علمت أن المذكرات أخضعت للتحرير اللغوي والأسلوبي، وهذا مما لا يجوز على الاطلاق. فالمذكرات، ولا سيما أن صاحبها توفي منذ سبعة وثلاثين عاماً، صارت وثيقة لا يمكن تغيير أي حرف فيها. الممكن هو تصحيح الوقائع والتواريخ والأغلاط اللغوية، إما بين قوسين كبيرين أو في الهامش. أما لغة الكاتب وطريقة سرده للحوادث فلا يجوز على الاطلاق، وتحت أي حجة أو ذريعة، تعديلها أو تحريفها، لأن المذكرات وثيقة تاريخية، ولغة زمانها غير لغة هذا الزمان. وكان يجب المحافظة على لغة الكاتب كما هي. ولهذا يمكننا القول إن هذه المذكرات هي مذكرات محمود الأطرش، لكن ليس كما صاغها بنفسه، بل كما خرجت من بين أصابع ماهر الشريف بعد تحريرها وتشذيبها وتخريجها. وفي هذا الميدان يذكر ماهر الشريف في الهامش رقم 2 (ص 281) أن رفيق رضا أدى دوراً في اعتقال فرج الله الحلو في دمشق سنة 1959، ويستشهد بمذكرات أرتين مادايان (حياة على المتراس، بيروت: دار الفارابي، 1986). والحقيقة ان كثيراً من الشيوعيين اللبنانيين، ومعهم عرب، خلطوا بين خيانة رفيق رضا للحزب وتعاونه مع المخابرات السورية بعد اعتقاله في دمشق، واعتقال فرج الحلو. والصحيح أن الذي أوقع بفرج الله الحلو ليس رفيق رضا بل صبحي الحبل من طرابلس، وهي الرواية الصحيحة (أنظر: سامي جمعة، أوراق من دفتر الوطن، دمشق: دار طلاس للدراسات، 2000).
مهما يكن الأمر، فإن هذه المذكرات تسد فجوات كثيرة في تاريخ الحركة الشيوعية في المشرق العربي، لكنها، من وجهة نظري، أقل أهمية من مذكرات نجاتي صدقي (إعداد حنا أبو حنا، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2001). وحسب الباحث والقارئ أن بين أيديهما الآن مصدر إضافي مهم يؤرخ بدايات العمل الشيوعي في فلسطين، وهذه فضيلة معرفية كبرى.
السفير