مرآة الذات – في كتاب “قصائد من حياتي” – مصطفى عبد الفتاح
نلتقي في هذه الأمسية ليس فقط لنستعرض كتابًا خطَّته يد الأديب يحيى طه، ولا لنتعمَّق في مكنوناته الفكريَّة، السياسيَّة، الاجتماعيَّة، والإنسانيَّة فقط، ولكننا أردنا أنْ نحتفي ونحتفل بشخصيَّة أدبية واجتماعية، صاحبة موقف سياسي ووطني واجتماعي وفكري واضحٍ، فقد كانت له اليد الطولى في بناء أعمدة الثَّقافة وتنمية وتطوير الوَعي السّياسي في قريته وبين معارفه ومحبّيه، فما أجمل أنْ نحتفي بلقاء واحد يجمع الكَاتِب والكِتاب، تقديرًا وعرفانًا للدَّور الاجتماعي الذي لعبه خلال سنين حياته، والمكانة الراقية، التي تبوَّئها في هذه المسيرة الزَّاخرة بالعطاء والعمل الاجتماعي والإنساني، فاحبَّه كلَّ مَن عرفه، وقدَّره أهل بلده، فنهل مِن ينابيع فكره طلابه في المدارس، فكان لهم أبًا واخًا ومعلمًا.
الكاتب هو عضو فعَّال في اتّحادنا، الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48، يقوم بدوره، ويقدّم كُل ما يستطيع من أجل رِفعة الفكر والأدب، ووحدة المسيرة الثقافيَّة والأدبيَّة، وعمل مِن أجل أن يبقى الإتحاد جسمًا ثقافيًا وادبيًا موحِّدًا وموَحَّدًا في هذا الإطار الثقافيّ الجامع، ولا أشُك أنَّ الكاتب اثَّر وتأثَّر بوجوده في هذا الإطار الادبي الراقي فأبدع بالعطاء، وأخلص في المَواقِف.
الكتاب الَّذي نحن بصدده ” قصائد مِن حياتي” هو باكورة أعمال الكاتب، إصدار دار الحديث، الّتي يُديرها الزَّميل فهيم أبو ركن، ويقع الكتاب في 142 صفحة من الحجم المتوسِّط، رغم أنَّ مادَّته هي تجْميع لكتاباتِه الأدبيّة خلال سنين طِوال، قام بها ابنه البرفسور هيثم يحيى طه، كما يقول في البداية، فقد تأخَّر الكاتب كثيرًا عن الرَّكب، أطالَ الله في عُمره، أنْ يُتحفنا بما تجود به أفكاره، ولكن يمكننا أن نُعزّي النَّفس بما قاله الشَّاعر الكبير محمود سامي البارودي في هذا المجال حين أنشد:
فيا ربما أُخلي مِن السَّبق أوَّل وبذَّ الجياد السّابقات أخير
وأبو الهيثم كما أعهده، يمكنه أن يجود بالكثير ممّا عنده من علم ومن أفكار نيرة ومسيرة زاخرة بالمحبَّة والعطاء، فله ولابنه أجمل تحية.
الكتاب هو عبارة عن قصائد نثرية وعمودية وبعض القصص التراثية التي حولها الكاتب الى منظومة مقفّاة على السَّجع وهو أسلوب خاص للكاتب ابتدعه لنفسه كما يقول هو وهنا سنسأله لماذا وكيف ابتدعت هذا الأسلوب من الكتابة؟
شدَّني في الكتاب “قصائد من حياتي”، الذي قرأته أكثر من مرّة، هذا التَّماهي بين شخصيَّة الكاتب وما يَكتُب، بحيث انَّني أستطيع أن أستشِف صورة الكاتب وشخصيَّته مِن خلال كتاباته، هذا التّطابق والتَّجانس بين الكاتب وكتاباته، ليس وليد صُدفة لانَّ كتاباته نابعة مِن قلب وعقل إنسان صادق مع نفسه، صادق مع مُجتمعه ومُحيطه ويتفاعل معه بكلّ جوارحه، إنسان مُنفتح على الحياة يعرف أسرارها ويبحث عن مكنوناتها ويحب الخير للجميع تمامًا كما يُحبها لنفسه، ويعيشها ببساطتها وطيبتها وبكل ما تحمله من أفراح وأتراح.
في إستعراض سريع لمكنونات الكتاب نجد أنَّ الكاتب مسكون بقضايا مجتمعه وشعبه وامَّته وبقضايا الإنسانيَّة جمعاء فتراه كالفراشة ينتقل مِن زهرة إلى أخرى يتأمَّل القضايا ويتألّم لها، يخوض المواضيع كما يفهمها، وكما يريدها لنفسه ولغيره من افراد مجتمعه أن تكون، يهمس لها بنصيحة أو بكلمة رقيقة، يدعوها لأن تُطلق لروحها العنان، وتحلق في سماء الحياة، وتتمتَّع بجمال الوجود. فتراه يبدأ مشواره العروبي مِن أقصى الشّمال من الجولان ليفتخر بعروبته وامجاده فيقول” لا تسل عن أنسابهم يعرُب وقحطان والفاطميون لهم أجداد” ص7 ويكمل ” شامهم يعانق برَدَى وبرَدَى يُعانق النّيل والفُرات وبغداد.
ويصل إلى قريته دير حنا التي يُحبها فيقول” سلام على هلالك وصليبك في العلياء يجمعهم الاخاء ” ص 9 وهنا نرى نبرة التسامح الدّيني والاخاء بين الادباء لتكون قريته هي النموذج الأفضل.
في قصيدة أنا والحمامة تراه يتقطَّع المًا على شعبه، فيسرح بخياله ويناشد الحمامة أن ترسل سلامه وأمنياته فيقول” طوفي على قومي في بغداد والشَّام وطرابُلس، عرّجي على أهل غزَّة والقدس وبيت لحم ورام الله والخليل، هل وقف فيهم التقتيل؟” ص 12 وكأنه يطلب السلام من حمامة السلام لشعبه وأهله، فلا يجد من يستجيب، فيغرق في أوهامه وأحلامه.
وعن داء المجتمع، يعبِّر عن المه وسخطه الشديد من الأوضاع المأساويَّة التي وصل اليها هذا المجتمع، فيصرخ بألم ” يقتُلني العُهر الأصفر، من كان للنّفاق كإمام يقهرني ذاك الكذب الأسود، من كان يحل لنفسه فعل الحرام، أفيقوا يا أهل الصَّلاح.” ص 22
وعن غسل شرف العائلة بالدَّم وما يرافقه من غش وكذب ونفاق، يستشهد الكاتب بما قاله المسيح بن مريم” من كان منكم بلا خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر” ص 25. ويكملها يآية من القران الكريم ” إذا الموءودة سُئلت بأيّ ذنب قُتلت” ص 26
وفي لحظات الصّفاء يتحفنا الكاتب بشعره الرَّقيق ووصفه التُراثي الجميل، فيقدّم لنا صورةً رائعةً، بل لوحة فنية غنية جدًا بالتَّعابير الجميلة والاوصاف الرّائعة والكلمات الَّتي اختفت من قاموسنا الَّلغوي لقلّة استعمالها، فتراه يُعيدنا اليها بكل سلاسة ومحبة ومن هذه الكلمات، التبن، القصل، التذراية، عباية الدخان، نشك بالميبر، كبوش التتن، الزقلة، والحيزة، والغمويضات، مركاس الحطب. شنتيان امي. العرزال، المهباش، جراب التتن. وغيرها من الكلمات التي غُيّبت او غابت من لغتنا. ص 34
وفي المراثي لا ينس قياداتنا الوطنيَّة الشريفة فيرثي توفيق زياد وسميح القاسم والاديب محمد نفاع أدباء المُقاومة، فتشعر أنَّ الشَّاعر مسكون بهموم شعبه، وأعباء وطنه، وهموم مجتمعه.
هكذا يتنقّل أبا الهيثم مِن موضوع إلى آخر، انتقالًا سلسًا لطيفًا واضحًا، فهو مُعلّم يرشد ويهدي تلاميذه إلى الطَّريق القويم، إلى طريق الصَّواب، إلى مجتمع خال من الآفات والأمراض الإجتماعية الَّتي يعانيها، ولا ينسى اديبنا أن يختتم كتابه بقصيدة شعر يُعالج فيها الجرح الفلسطيني المفتوح في غزة، فيتحدَّث باسم أطفالها ويدعو العالم أن يتحمَّل مسؤولياته وينهي كلامه
” ويُزهر في فلسطين الياسمين والاقحوان
وبعد عتم الليل سيبزغ علينا للوطن نهار”
مبارك لابي الهيثم يحيى طه هذا الإنجاز ونتمنى له المزيد
مبارك لدير حنا وأهلها هذا الانسان الطيّب الذي يبحث لكم عن النور وسط الظلام.
هذه المداخلة ألقيت في حفل تكريم الاديب يحى طه
يوم 1.10.2022 في ديرحنا