مرّة أخرى في معالجة الانقسام الفلسطيني- منير شفيق
بدلاً من أن يُعالَج الانقسام الفلسطيني الذي حدث بسبب قيام سلطتين إحداهما في رام الله والثانية في قطاع غزة، باعتباره انقساماً سياسياً جاداً يشمل الأهداف والاستراتيجية عومِلَ أحياناً باعتباره صراعاً على السلطة، وطوراً عومِلَ باعتباره سلبياً بالمطلق، وأدّى إلى كوارث للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. وهنالك من عامله بتبسيطية بروحية أن على الطرفين أن يتفاهما ويتنازلا لبعضهما بعضاً. وكان هنالك من اتخذه حجة لغسل يديه من القضية الفلسطينية ونظم قصيدة رثاء لها بسببه.
ثم هنالك بعض الحريصين على القضية الفلسطينية، والمناصرين لمقاومتها راحوا يبحثون عن المصالحة مهما كان الثمن وبغض النظر عن الأسباب. وذلك باعتبارها طوق نجاة. وقد أسقطوا من حسابهم البُعد السياسي للانقسام. ولم يلحظوا أن قطاع غزة تحرّر في ظل الانقسام وأصبح قاعدة عسكرية للمقاومة، وانتصر على الجيش الصهيوني في ثلاث حروب كبرى.
من يًتابِع مسار العلاقات في ما بين الفصائل في منظمة التحرير منذ تشكلها الثاني عام 1968. وقبل ذلك منذ انطلاق الكفاح المسلح عام 1965، يجد أن الخلاف والصراع والتنافس كان الغالب. وذلك بالرغم من الاتفاق على ميثاق م.ت.ف، والعمل تحت مظلة المجلس الوطني واللجنة التنفيذية. فالخلاف على الخط السياسي كان يطغى على الاتفاق حول ثوابت الميثاق الوطني.
اشتدّ الخلاف إثر طرح برنامج النقاط العشر إلى حد تجميد البعض لعضويتهم في اللجنة التنفيذية وتشكيل “جبهة الرفض”. ووصل الأمر بعد الخروج من لبنان 1982-1983 إلى حدوث انقسام حاد وكبير داخل حركة فتح. كما وقع انقسام كبير بين الفصائل التي كان مقرها في تونس، والفصائل التي كان مقرها في دمشق. ويندر وجود من لم يكن طرفاً في هذه الانقسامات.
ولكن ذلك لم يمنع من أن تبقى حالتا الاتفاق والاختلاف أو الوحدة والانقسام في وضع التعرج بين البُعدين.
ومن الظواهر العجيبة في تجربة الوحدة والانقسام أو التوافق والاختلاف، أن المجلس الوطني كان يحقق وحدة بمجرد انعقاده، ويخرج ببيان مشترك بعد انقسام وخلاف حادَيْن ليعود بمجرد انفضاضه إلى مرحلة أخرى من الانقسام والاختلاف. وكانت السياسة دائماً وراء الحالتين.
فالتجربة الفلسطينية من جهة الجبهة المتحدة تختلف جوهرياً عن تجربة نظيراتها في الجزائر وفييتنام، أو ربما أية تجربة أخرى. أما السبب فيرجع إلى طبيعة الصراع في القضية الفلسطينية، وإلى عربية القضية وإسلاميتها وعالميتها، وإلى موازين القوى من حولها عالمياً وإقليمياً وعربياً، وإلى الشتات الفلسطيني وما تشكل من تقسيم لتوزع الشعب الفلسطيني بين عرب 48 وضفة غربية، وقطاع غزة، كما بين دول اللجوء.
كل ذلك يفسّر المعادلات والمؤثرات التي مرّت بها تطورات القضية الفلسطينية والخلافات السياسية والانقسامات، وما عرفته العلاقات ما بين فصائل المقاومة من وحدة وصراعات.
إن الانقسام الراهن بين الضفة الغربية وقطاع غزة، والذي اتخذ شكل صراع في ما بين حماس وفتح. وقد شمل بقية فصائل المقاومة، بشكل أو بآخر، لا يفسّر بصراع على سلطة، ولا يُبسّط بأنه خلاف يمكن أن يُحَلّ بالدعوة إلى الوحدة وإظهار مزاياها، وبهجاء الانقسام وإبراز سلبياته، وإنما مرجعه خلاف سياسي له علاقة بالأهداف والاستراتيجية والسياسة. أما الأهم فهو علاقته بما نشأ، في أثنائه، من خلاف جوهري في وضع كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، فلم تعد المشكلة محصورة بالخلاف السياسي وإنما أصبحت مشكلة موضوعية. فقد تحوّلت غزة إلى قاعدة مقاومة عسكرية تمتلك الصواريخ والأنفاق وخاضت ثلاث حروب منتصرة، فيما الضفة الغربية تحت الاحتلال ويستشري فيها الاستيطان، ويمكن لقوات الاحتلال أن تدخل أي بيت وتعتقل وتدمّر وتقتل. هذا وبينها وبين السلطة اتفاق أمني ينفذ عملياً وحرفياً. ثم هنالك قرار من حكومة الكيان الصهيوني بمنع الوحدة الوطنية حتى لو كانت تحت حكومة رام الله.
فالمشكلة الحقيقية أمام الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام تتمثل في وضع المقاومة في قطاع غزة، وفي وضع الاتفاق الأمني والاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية. ثم هنالك إصرار من جانب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في رام الله، على استمراره بتبني استراتيجية المفاوضات والتسوية. وقد أصبحت هذه مسألة خلافية مع الجبهة الشعبية، وربما فصائل أخرى مشاركة في اللجنة التنفيذية في رام الله، كما هي مسألة خلافية حادة مع حركة الجهاد الإسلامي والحراكات الشبابية داخل الضفة الغربية والقدس.
فمن جهة سترتكب جريمة إذا عُقدت وحدة تصفي وضع غزة المقاوم العسكري المستعصي على العدو. وقد أحدث تغييراً أساسياً في معادلة الصراع الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني. وذلك إلى جانب مأساة مشاركة محمود عباس في حصار غزة.
ومن جهة لا يمكن أن تقوم وحدة على أساس تبني استراتيجية الرئيس محمود عباس. وهذا من جانب حماس والجهاد والجبهة الشعبية وبالطبع قوى مقاومة ومناضلة كثيرة أخرى.
أما على الجانب الآخر فإن محمود عباس مُصر على أن تقوم الوحدة، أو على حد تعبيره لا مصالحة إلاّ على أساس قرار واحد للسلم والحرب، وسلاح واحد في الضفة والقطاع (سلاح الأجهزة الأمنية)، وسلطة واحدة تشمل كل الجوانب في قطاع غزة وتكون تحت قيادته.
من هنا تصبح المصالحة كارثية وضمن المحال إذا كانت هذه شروطها.
ولهذا يبدو الحل الوحيد الممكن هو مصالحة على أساس، تجنب الصدام أو الدخول في الصراع العدائي. وذلك تحت سقف الانقسام والاختلاف بين الاستراتيجيتين. ثم الانتقال إلى مستوى الوحدة إذا أُلْغِيَ التنسيق الأمني واندلعت الانتفاضة في القدس والضفة.
فليستمر محمود عباس في تنفيذ استراتيجيته الخاطئة والفاشلة، ولتستمر المقاومة المسلحة في قطاع غزة، ولتستمر قوى الانتفاضة والمقاومة في مواجهتها للاحتلال والاستيطان في القدس والضفة الغربية. وذلك وصولاً إلى انتفاضة شاملة تطيح بالاحتلال والاستيطان وتحرّر القدس والضفة والأسرى. وهو الطريق إلى تحقيق الوحدة. فالتباكي على الوحدة دون توفير شروطها تغطية لاستراتيجيات المفاوضات، وهروب من استراتيجية المقاومة والذهاب بالانقسام إلى الصدام. فالمطالبون بالوحدة عليهم أن يقولوا ماذا يفعلون بالمقاومة في غزة والاتفاق الأمني في الضفة. أم هم مع اللاموقف من هاتين الإشكاليتين؟!