مشهدان متضادان في فلسطين المحتلة – د/ إبراهيم أبراش
قوى شر متعددة داخلية وخارجية تعمل على تحطيم المجتمع الفلسطيني من داخله وتشويه قيمه وثقافته ورموزه الوطنية ، تقابلها إرادة صمود وقوة إيمان عند الشعب بعدالة قضيته ورفضه للاستسلام . وإن كانت قوى الشر نجحت نسبيا في رسم معالم مشهد سلبي ، إلا أنه من المؤكد أن نجاحها مؤقت ، لأن الشعب الفلسطيني عودنا دوما على النهوض والتمرد والثورة على كل من يهينه ويحتقره أو يعتقد أنه يستطيع مساومته على حريته وكرامته بالمال أو يرهبه بالسلاح .
لذا نشاهد في مناطق السلطة/السلطتين مشهدين متضادين :
المشهد الأول :
يعكس ويعبر عن روح الصمود والبطولة والتحدي في مواجهة الاحتلال ، حيث حوالي ستة ملايين فلسطيني صامدين على أرضهم وفي وطنهم التاريخي ، في داخل الخط الأخضر ، وفي الضفة والقدس، وفي قطاع غزة ، وكل تجمع من التجمعات الثلاثة يواجه الاحتلال بما هو متاح له وحسب خصوصية الحالة التي يعيشها ، ولم تستطع كل ممارسات الاحتلال من اقتلاعهم من أرضهم أو دفعهم للتنازل عن حقوقهم الوطنية . وفي خارج فلسطين ستة ملايين أخرى ما زالوا متمسكين بحق العودة ويرفعون راية الوطنية الفلسطينية ويناضلون حيث يتواجدون لكسب مزيد من الأصدقاء لجانب عدالة القضية ويحاصرون ويفضحون الأنشطة والدعاية الصهيونية .
لذا ليس من باب الشماتة ولا من باب تضخيم الذات والتقليل من خطورة وصعوبة الوضع الفلسطيني ، إن قلنا إن حال الشعب الفلسطيني حتى في ظل خضوعه للاحتلال أفضل من حال كثير من الشعوب العربية وأن لدينا الكثير مما نفتخر به . فلو عملنا مقارنة بين واقع الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال والحصار ، وما تشهده دول عربية من صرعات وحروب أهلية تؤدي لسقوط مئات الآلاف من الشعب وتدمير مدن بكاملها ، وهجرة الملايين من الشعب ، وعودة الجيوش الأجنبية لاحتلال بعض أجزائها وإقامة قواعد عسكرية فيها الخ ، سنلاحظ أن الشعب الفلسطيني استطاع أن يحافظ على وحدته وتماسكه ، وعلى اتجاه البوصلة النضالية موجهة نحو إسرائيل بالدرجة الأولى ، بالرغم من حالة الانقسام والخلاف بين فتح وحماس ، وبالرغم من محاولات أصحاب الأجندة الخارجية جر الشعب الفلسطيني لمستنقع الخلافات والصراعات الدينية والمذهبية .
صحيح يوجد انقسام واتهامات متبادلة واعتقالات متبادلة في إطار الخلاف بين فتح وحماس ، وبين المشروع الوطني ومشروع إسلام سياسي ، إلا أن كل ذلك لم يدفع الشعب ليخوض حربا أهلية أو اقتتالا داخليا إلا في أضيق الحدود كما جرى في الأيام الأولى للانقلاب الأسود 14 يونيو 2007 . وهذا يدلل على رقي الحس الوطني عند الفلسطينيين ومعرفتهم بأن أية مواجهات مسلحة سواء في الضفة في مواجهة السلطة وحركة فتح ، أو في غزة في مواجهة حركة حماس وأجهزتها الأمنية ، لن يخدم إلا العدو الإسرائيلي .
لأن كثيرون لا يعرفون أصالة الشعب الفلسطيني فإنهم يسألون ويتعجبون لماذا وفي ظل الحالة المتردية في قطاع غزة وفي الضفة الغربية لا يثور سكان غزة ضد حركة حماس و يثور سكان الضفة ضد السلطة ؟ الجواب ليس لأنهم خائفون من بطش السلطتين بل لأن حسهم الوطني يمنعهم من ذلك ولأنهم يدركون أن أي مواجهة داخلية أو حرب أهلية ستخدم إسرائيل بالدرجة الأولى ، ولأن الشعب الفلسطيني بات يدرك أن إسرائيل هي التي صنعت الانقسام وتسعى لتكريسه ، سواء من خلال صناعة دولة غزة أو من خلال إعادة روابط القرى في كنتونات منعزلة في الضفة على حساب السلطة الوطنية والمشروع الوطني ، وبالتالي فإن الاقتتال الداخلي سيساعد إسرائيل على الوصول لهذه النتيجة .
هذا المشهد قوة استراتيجية للفلسطينيين ، تربك العدو وتجعل مشروعه الصهيوني في حالة تهديد مستمر ، بل ومشكوك في قدرته على الاستمرار طويلا ، خصوصا مع توالي اعتراف دول العالم بالدولة الفلسطينية ورفضها للممارسات الإسرائيلية . هذا المشهد الرائع والمشرف لا يتصدر المشهد العام وقلة من يتحدثون ويكتبون عنه ، حيث مشاكل الانقسام والصراع على سلطة وهمية ومشاكل غزة وحصارها ومشاكل إعمارها الخ ، تتصدر المشهد العام وتشكل مادة شيقة لوسائل الإعلام الوحلية والعالمية .
المشهد الثاني :
مقابل المشهد الأول وردا عليها ، تشتغل إسرائيل ومعها أطراف فلسطينية وعربية متواطئة أو جاهلة على تحطيم وتشويه هذا المشهد الوطني الراقي ، وخلق مشهد مغاير ، سياسي وثقافي واجتماعي ، وقد نجحت نسبيا في ذلك بحيث بتنا أمام مشهد تراجيدي ، مع أنه مؤقت وليس معمما إلا أنه خطير ويجب سرعة التصدي له ووقف مفاعيله التدميرية . أهم تمظهرات هذا المشهد : –
احتلال يتوغل استيطانا وتهويدا للأرض والمقدسات ، انقسام بات المدافعون عنه والمستفيدون واليائسون من الانفكاك منه يتزايدون يوما بعد يوم ويصبحون أكثر قوة وحضورا ، رُهاب فقدان الراتب ولقمة العيش أو الخوف عليهما ، ورهاب الاعتقال والتصفية الجسدية أو السياسية والأخلاقية ، تسطيح الفكر وتغييب العقل ، هيمنة الديماغوجيا الإعلامية والأيديولوجيات الحزبية ، تغييب العاطفة للعقل ، هيمنة الأحكام المسبقة على حقائق الواقع ، بروز الهويات والنزعات الضيقة : اللاجئ والمواطن ، أبن المدينة وأبن القرية ، الغزيون والضفويون الخ ، وتدميرها لوحدة المجتمع ، تحويل السياسات الارتجالية والمتخبطة سواء كانت عسكرية أو دبلوماسية إلى انتصارات ! وتقديس وفرعنة القادة ، وما أكثر قادتنا! وكل من دخل دارهم آمن ، الجاهل والفاسد والمنافق مُقدَم ومُرَحَب به قبل الوطني والمخلص ! .
في مناطق السلطة /السلطتين ، تعمل قوى الشر المعادية لشعبنا والمستَفَزة من قوة تماسكه ورفضه التخلي عن هويته وحقوقه ، تعمل على تشويه القيم الوطنية وضرب وحدة المجتمع ليصبح النضال من أجل السلطة له الأولوية على النضال من أجل فلسطين وحريتها واستقلالها ، وقتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد ، وسجون أبناء جلدتنا وتعذيبهم تثير الخوف والهلع أكثر من سجون الاحتلال وأساليبه في التعذيب ، ولتصبح حقوقنا الوطنية التاريخية معروضة في سوق المساومات السياسية عربيا ودوليا … .
في مناطق السلطتين الفلسطينية تجري محاولات حثيثة من أعداء الشعب لقهره بميكانزمات (استراتيجية الإلهاء) ليصبح السعي للخلاص الفردي مُسبَّقا على تخليص الوطن من الاحتلال ، والأمن الشخصي بأية طريقة له السبق على أمن الوطن .
في حالة نجاح قوى الشر في مسعاها ، ستفقد الكلمات معناها ، فلا يعد الوطن هو الوطن ، ولا الشعب هو الشعب ، ولا الأخ أخا ، ولا الصديق صديقا ، ولا المستقبل مبشر بغد أفضل . آنذاك لا يصبح أمام أبناء الشعب المقهور من طريق للخلاص إلا أن يرفعوا أيديهم ، المتوضئة وغير المتوضئة ، إلى السماء طالبين الرحمة والخلاص ، قبل أن تستبق طائرات وقذائف إسرائيل أو سيوف داعش السماء لتخلصهم بطريقتها الخاصة .
الجديد في المشهد السياسي الفلسطيني بصورته السلبية هو تراجع دور وفاعلية المؤسسات والمرجعيات التاريخية والوطنية والشرعية ، لصالح نخبة جديدة أو جماعات مصالح توجه الأمور نحو الالتفاف على ما أنجزه الشعب بصموده وصبره وحسه الوطني الراقي ، لخدمة أجندة غير وطنية . وهذا ما سنتناوله في المقال القادم .